الرئيسية / مقالات و دراسات / دراسات جزائرية / نظرات نقدية في قواعد في التعامل مع السنة – الدكتور حميد قوفي

نظرات نقدية في قواعد في التعامل مع السنة – الدكتور حميد قوفي

Print Friendly, PDF & Email

هذه مقالة أحاول فيها مناقشة بعض القضايا المتعلّقةِ بالسنّة النبويّةِ مما لها علاقةٌ بالعمل، وهذه القضايا إنّما هي بعض القواعد التي جرى بها العمل عند كثير من الناس، أودّ بيانَ ما فيها من الخطأ في التناول والعمل، وتصويبَ ما أحسب أنّه يحتاج لذلك، وهذه القواعد هي:

•عرض الحديث على القرآن لمعرفة صحيحه من سقيمه.

•هل يلزم من صحّة السند صحّة المتن؟

•تقوية الحديث الضعيف بمجموع طرقه.

والكلام في هذه القواعدِ مهمّ باعتبار أنّها كالمدخل للعمل بالسنّة، وجريا على قاعدة “التأويل فرع التصحيح”، ولذا أُراني أحاول دراسة هذا الموضوع بشيء من التركيز مع الحذر من الزلل ما استطعت، فإن أصبت بتوفيق الله وتيسيره، وإن أخفقت فحسبي إنّي حاولت بحسن نية، سائلا المولى جلّ وعلا التوفيق، والحمد لله ربّ العالمين.

القاعدة الأولى:

عرض الحديث على القرآن لمعرفة صحيحه من سقيمه

شاع في أوساط كثير من الباحثين والكتّاب أنّ الحديث ينبغي عرضه على القرآن قبل إعماله فإن وافقه عدّوه صحيحًا، وإن عارضه عدّوه ضعيفًا منكرًا، بغضّ النظر عن ثبوته وإخراجه في دواوين السنّة الصحيحة كالموطأ والصحيحين.

وحجّة القائلين بعرض السنّة على القرآن لتمييز الصحيح من غيره ما نُسب إلى أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، زعموا أنّها اشتهرت بذلك وأكثرت منه، وربما احتجّ جماعة منهم بحديث: “ما جاءكم عنّي فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فلم أقله”.

فأمّا الأوّل من ذلك فمثل قول الدكتور الأعظميّ: (وشاع هذا المنهج- يعني عرض الحديث على القرآن- فيما بعد، ولقد أكثرت أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها من استعماله، وحكمت في ضوئه على الراوي بالخطأ والكذب، ولقد جمع الإمام بدر الدين الزركشيّ استدراكاتها واعتراضاتها على الصحابة في كتاب مستقل سماه “الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة”..)[1]، ثم مثّل لكلامه هذا بأربعة أحاديث نقلا من كتاب الزركشيّ، والحقّ أنّه ليس في هذا الكتاب غيرُ هذه الأربعة، وعليها اعتراض. فأين دعوى الإكثار من أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها من استعمال هذا المنهج، وكم هي الأحاديث التي ردّتها به.

إنّ نسبة هذا المنهج إلى أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ودعوى اشتهارها به، والإكثار منه، فيه نظر، ذلك أنّه بالاستقراء تبيّن أنّها لم تستعمل هذا الطريقة إلاّ في بضعةِ أحاديث، ومع ذلك فهي غيرُ صريحة في الباب، وسوف أعرض عليكم حديثين اثنين- للتمثيل- ذكرهما الإمام الزركشيّ في كتابه الذي اعتمده من نسَب إلى أمّ المؤمنين ذلك[2].

الحديث الأول:في استدراكها على عمر بن الخطاب في روايته حديث: “إنّ الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه”. قال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ الله يعذب المؤمن[3]ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنّ الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه”. وقالت: حسبكم القرآن: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164]… متفق عليه.

وفي رواية قالت: (إنّما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهوديّة يبكي عليها أهلها فقال: “إنهم يبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها”. لفظ البخاريّ.

وهذا الإمام الشافعيّ – بعد أن ساق حديث عمرة عن عائشة وفيه قالت: (أما إنّه لم يكذب ولكنه أخطأ أو نسي، إنّما مرّ رسول الله على يهودية وهي يبكي عليها أهلها، فقال: “إنهم ليبكون وإنّها لتعذّب في قبرها”)- قال:(وماروت عائشةعن رسول الله أشبه أن يكون محفوظًا عنه بدلالة الكتاب ثم السنّة، فإن قيل: فأين دلالة الكتاب؟

قيل في قوله عز و جل ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164].

﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39].

وقوله ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7-8].

وقوله: ﴿لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ [طه: 15].

قال الشافعي رحمه الله تعالى: وعمرة أحفظ عن عائشة من ابن أبي مليكة وحديثها أشبه الحديثين أن يكون محفوظا)… فإن قيل: أين دلالة السنة؟

قيل: قال رسول الله لرجل: ابنك هذا؟ قال: نعم.

قال:” أمّا إنّه لا يجني عليك، ولا تجني عليه “فأعلم رسول الله مثل ماأعلم الله من أنّ جناية كل امرئ عليه كما عمله له لا لغيره ولا عليه)[4].

فالإمام الشافعيّ جرى على طريقة المحدّثين في الموازنة بين الحديثين إذا اختلفا، فذهب إلى أنّ حديث أمّ المؤمنين الذي روت، له من القرائن – من الكتاب والسنة- ما يرجّحه على حديث عمر، فرأى الإمام أنّ رواية أمّ المؤمنين أشبه أن تكون محفوظة، وليس في كلامه أنّ عائشة عارضت الحديث بالآية ابتداء كما ينقله كثير من الباحثين والكتّاب[5]الذين جعلوا هذا قاعدة فحاكموا بها أحاديث الصحيحين وغيرهما، وفتحوا الباب واسعا لنقد الأحاديث الصحيحة المتّفق عليها بحجّة معارضتها للقرآن، وما ذلك إلا لسوء القصد في كثير من الأحيان، أو لطغيان العقل والاغترار به أو لغير ذلك.

وقال الحافظ ابن عبد البر:(ليس إنكار عائشة بشيء، وقد وقف ابن عمر على مثل ما نزعت به عائشة فلم يرجع، وثبت على ما سمع، وهو الواجب كان عليه). وقال أيضا: (فهذا يبين لك أنّ ابن عمر قد أثبت ما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ولم ينس، ومن حفظ فهو حجّة على من لم يحفظ، وليس يسوغ عند جماعة أهل العلم الاعتراض على السنن بظاهر القرآن إذا كان لها مخرج ووجه صحيح؛ لأنّ السنة مبينة للقرآن، قاضية عليه غير مدافعة له.

قال الله عز وجل ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44][6]… وقد روى مثلَ رواية ابن عمر هذه جماعةٌ من الصحابة.

وقال الإمام القرطبيّ:(إنكار عائشة ذلك وحكمُها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنّه سمع بعضًا ولم يسمع بعضا بعيد؛ لأنّ الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون، وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح)[7].

وقال الإمام ابن تيمية:(والأحاديث الصحيحة الصريحة التي يرويها مثلُ عمرَ بنِ الخطاب وابنِهِ عبدِ الله وأبي موسى الأشعريِّ وغيرهم لا تردّ بمثل هذا.

وعائشة أمُّ المؤمنين رضي الله عنها لها مثلُ هذا نظائر، تردّ الحديث بنوعٍ من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه ولا يكون الأمر كذلك، ومن تدبّر هذا الباب وجد هذا الحديثَ الصحيحَ الصريحَ الذي يرويه الثقة لا يردّه أحد بمثل هذا إلاّ كان مخطئا. وعائشة رضي الله عنها روت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لفظين – وهي الصادقة فيما نقلته – فروت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله: “إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه”، وهذا موافق لحديث عمر، فإنّه إذا جاز أن يزيده عذابا ببكاء أهله، جاز أن يعذّب غيره ابتداء ببكاء أهله؛ ولهذا ردّ الشافعيّ في مختلف الحديث هذا الحديث نظرا إلى المعنى، وقال: الأشبه روايتها الأخرى:” أنهم يبكون عليه وإنّه ليعذب في قبره”)[8].

الحديث الثاني:ذُكر عند عائشة أنّ ابن عمر يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم “إنّ الميّت يعذّب في قبره ببكاء أهله عليه”.

فقالت: إنّما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنّه ليعذّب بخطيئته أو بذنبه، وإنّ أهله ليبكون عليه الآن”، وذاك مثلُ قوله: “إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب يوم بدر وفيه قتلى بدر من المشركين، فقال لهم ما قال:” إنّهم ليسمعون ما أقول”، وقد وهل، إنّما قال:” إنّهم ليعلمون أنّ ما كنت أقول لهم حقّ” ثم قرأت: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ [النمل: 80] .

﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر: 22].

قال الإمام الزركشيّ رحمه الله معلّقا على الآية الأخيرة:(أي إنّ الله هو الذي يهدي الكفّار أمواتا وصُمّا على جهة التشبيه بالأموات وبالصمّ ، فالله هو الذي يسمعهم على الحقيقة إن شاء، فلا تعلّق لها في الآية لوجهين:

أحدهما:أنّها إنّما نزلت في دعاء الكفار إلى الإيمان.

والثاني:أنه إنّما نفى عن نبيّه أن يكون هو المسمِع لهم، وصدق الله فإنّه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو)[9].

وقال الإمام ابن تيمية: (وعائشة تأوّلت فيما ذكرته كما تأوّلت أمثال ذلك. والنصّ الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مقدّم على تأويل من تأوّل من أصحابه وغيره، وليس في القرآن ما ينفي ذلك فإنّ قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ [النمل: 80] إنّما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه؛ فإنّ هذا مثَل ضرب للكفار، والكفار تسمع الصوت، لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتّباع كما قال تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ [البقرة: 171].

فهكذا الموتى الذين ضرب لهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميعُ السماع المعتاد أنواعَ السماع كمالم ينف ذلك عن الكفار؛ بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به، وأما سماع آخر فلا ينفى عنهم)[10].

وهذه الأحاديث التي عارضتها أمّ المؤمنين يظهر أنّها كلّها بناء على مرويات عندها، ظهر لها أنّها مخالفة لتلك الأحاديث، ثم أيّدت ذلك بالقرآن. فالقضية أنّ أمّ المؤمنين سلكت مسلك الترجيح بين الروايات المتعارضة، فرجحت ما رأته أقوى بشاهد من القرآن الكريم. والله أعلم.

وأمّا ما نسب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ففيه نظر كذلك، وهاك مثالين:

الأول:ما أخرجه مسلم عن أبي إسحق قال: كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبيّ، فحدّث الشعبيّ بحديث فاطمة بنت قيس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفًّا من حصى فحصبه به، فقال: ويلك، تحدّث بمثل هذا؟

قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت. لها السكنى والنفقة. قال الله عز وجل: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [الطلاق: 1].

وقد أجاب العلماء منهم الإمام الطحاويّ بأن لا تعارض بين الحديث والآية، فالحديث خاص بالمطلّقة طلاقا بائنا لا رجعة فيه، والآية خاص بالمطلقة طلاقا رجعيًّا، قال رحمه الله: (قال الذين ذهبوا إلى حديث فاطمة وعملوا به: إنّ عمر رضي الله عنه إنّما أنكر ذلك عليها لأنّها خالفت عنده كتاب الله عز وجل، يريد قول الله عز وجل: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ﴾ [الطلاق: 6]، فهذا إنّما هو في المطلقة طلاقًا لزوجها عليها فيه الرجعة، وفاطمة كانت مبتوتة لا رجعة لزوجها عليها.

وقد قالت: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: ” إنّما النفقة والسكنى لمن كانت عليه الرجعة “، وما ذكر الله تعالى في كتابه من ذلك، إنما هو في المطلقة التي لزوجها عليها الرجعة، وفاطمة لم تكن عليها رجعة، فما روت من ذلك فلا يدفعه كتاب الله، ولا سنّة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد تابعها غيرها على ذلك، منهم عبد الله بن عباس . والحسن)[11].

ثم إنّ عمر رضي الله عنه لم يتّهم فاطمة بنت قيس، إنّما تشكّك في ضبطها وحفظها وخاصة أنّها تفرّدت بهذا الحديث، فصار نقلها مظنونًا، وهو في ذلك يستحضر الآية في ذهنه، فرجّح الآية على الحديث الذي روته.

الثاني:… قصّة عمر رضي الله عنه مع أبي موسى الأشعريّ في الاستئذان عليه ثلاثا والحديث صحيح وهو عن أبي سعيد الخدريّ قال: كنت في حلقة من حلق الأنصار، فجاءنا أبو موسى كأنه مذعور، فقال: إنّ عمر أمرني أن آتيه فأتيته، فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، وقد قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من استأذن ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع”، فقال: لتجيئن ببينة على الذي تقول وإلا أوجعتك.

قال أبو سعيد: فأتانا أبو موسى مذعورا أو قال فزعا، فقال: أستشهدكم؟ فقال أبي بن كعب: لا يقوم معك إلا أصغر القوم، قال أبو سعيد وكنت أصغرهم فقمت معه وشهدت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من استأذن ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع”.

حكى العلامة ابن عاشور في مقاصد لشريعة هذا الحديث عن عمر رضي الله عنه ثم قال: (فلما شهد عند عمر اقتنع عمر، وعلم أنّ كثيرا من الأنصار يعلم ذلك؛ لأنّه كان في شكّ قويّ أن يكون معارض أصل الاستئذان بأن يقيّد بثلاث ويرجع بعد الثلاث، لأنّ في ذلك بيانًا للإجمال في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ [النور: 28].

قلت:

وإنّما أراد عمر التثبّت في الحديث إذ لم يعرفه، وفيه نوعُ تحذير من الرواية وكثرتها، بدليل أنّه قال لأبي موسى بعد شهود الشاهد معه على ثبوت الخبر: (أما إنّي لم أتّهمك ولكن خشيت أن يتقوّل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم) [عند مالك.

وعند أبي داود: (إنّي لم أتّهمك ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد)، وليس في طرق الحديث – فيما راجعت- اعتراض عمر على أبي موسى بالآية، ثم إنّ أبا موسى الأشعريّ عمل بالآية حين رجع لمـّا لم يؤذن له، فليس فيما رواه معارضة للقرآن، والله أعلم.

وأما الثاني وهو استدلالهم بالحديث: “ما جاءكم عنّي فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته وما خالفه فلم أقله”.

فقد ردّه المحدّثون، وأبطلوه سندا ومتنًا، وحكموا عليه بالوضع، منهم عبد الرحمن بن مهديّ، وابن معين، والخطابيّ وآخرون: قالوا: هو من وضع الزنادقة.

وقال الإمام الشافعيّ فيه: (ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغُر ولا كبُر.. وهذا أيضا رواية منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شيء”. ثم قيل له: هل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم رواية بما قلتم؟

فأجابه بحديث عبيد الله بن أبي رافع يحدّث عن أبيه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: “لا أُلفينّ أحدَكم متّكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرتُ به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعاناه” قال الشافعي: قد ضيّق رسول الله على الناس أن يردّوا أمره بفرض الله عليهم اتباع أمره)[12].

وقال الشوكانيّ: (في هذا الحديث الموضوع نفسه ما يدلّ على ردّه؛ لأنّا إذا عرضناه على كتاب الله عز و جل خالفه، ففي كتاب الله عز وجل: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، ونحو هذا من الآيات.

فالحاصل أنّه ينبغي التفريق بين مسألتين؛ الأولى: وهي عرض الحديث على القرآن لمعرفة صحّته أو بطلانه بغض النظر عن صحّته في ميزان المحدّثين الحفّاظ، وهذا مذهب مرفوض، وبين فهم الحديث في ضوء القرآن، وذلك بالنظر في دلالة ما صحّ منه.

وللأسف الشديد فهِم جماعة من الباحثين والكتّاب فهْمًا سيّئا حينما ظّنوا أنّ من منهج الصحابة عرضُ الحديث على القرآن لتمييز الصحيح من السقيم هكذا بإطلاق، فراحوا ينتقدون ما صحّ وثبت من الحديث بهذه الحجّة، فخاضوا في أحاديث الصحيحين وغيرهما فانقدوا عليهما أحاديثَ ما تكلّم فيها أحد من أهل الاختصاص من المحدّثين أو الفقهاء.

…ولو جرينا على هذه القاعدة – عرض الحديث أو السنّة على القرآن لمعرفة الصحّة أو الضعف من غير اعتبار أحكام المحدّثين الحفّاظ-، لرددنا كثيرًا من الأحاديث تخالف ظاهر القرآن؛ لأنّ القرآن حمّال ذو أوجه، ولرددنا الأحاديثَ المخصّصةَ لعموماته، والمقيّدةَ لإطلاقاته والمفصّلةَ لمجملاته بحجّة المعارضة لظاهر القرآن؛ وبهذا تفقد السُّنّة وظيفة البيان.

وقد نبّه الإمام ابن القيم إلى طوائف هذا مذهبهم فقال:(وطائفة ثانية عشر ردّوا الحديث إذا خالف ظاهر القرآن بزعمهم، وجعلوا هذا معيارا لكلّ حديث خالف آراءهم، فأخذوا عموما بعيدًا من الحديث لم يقصد به، فجعلوه مخالفا للحديث وردّوه به، فردّوا حديث ابن عمر في خيار المجلس بمخالفة قوله تعالى: ﴿و أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾ [النحل: 91][13].

وساق طائفةً من الأحاديث التي ردّها هؤلاء بحجة مخالفتها لظاهر القرآن.

وهذا كلّه لا يعني أنّ الحديث إذا خالف صريح القرآن- أعني مخالفة حقيقيّة لا يمكن الجمع معها بين الآية والحديث- يكون مقبولاً، كلا، ولا يعني أن نمنع المتأهّل للنظر إعمالَ عقله عند توهّم التعارض بشرط أن يتمّ ذلك بقواعدَ شرعية، ولكنّ اعتمادَ هذه الوسيلة- أعني عرض الحديث على القرآن- لا تكاد تُعرف طريقةً مسلوكةً عند السلف من الصحابة ومن بعدهم، غير أنّ الطريقة التي جرى عليها العمل في هذا يمكن تلخيصها فيما حقّقه العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله حيث قال في سياق حديثه عن احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة: (النحو الثاني: البحث عمّا يعارض الأدلّة التي لاحت للمجتهد والتي استكمل إعمال نظره في استفادة مدلولاتها؛ ليستيقن أنّ تلك الأدلّة سالمة مما يبطل دلالتها، ويقضي عليها بالإلغاء والتنقيح[14].

فإذا استيقن أنّ الدليل سالم عن المعارض أعمله، وإذا ألفى له معارضا نظر في كيفية العمل بالدليلين معًا، أو رجحان أحدهما على الآخر)، ثم قال بعد هذا: (واحتياجه إليه في النحو الثاني أشدّ؛ لأنّ باعث اهتدائه إلى البحث عن المعارض ثم إلى التنقيب على ذلك المعارض في مظانه، يقوى ويضعف بمقدار ما ينقدح في نفسه- وقت النظر في الدليل الذي بين يديه- من أنّ ذلك الدليل غير مناسب لأن يكون مقصودا للشارع على علاته.

فبمقدار تشكّكه في أن يكون ذلك الدليل كافيا لإثبات حكم الشرع فيما هو بصدده، يشتدّ تنقيبه على المعارض، وبمقدار ذلك التشكّك يحصل له الاقتناع بانتهاء بحثه عن المعارض عند عدم العثور عليه… اهـ)[15].

إذن العالم حينما يُعرَض عليه الحديث للعمل به، أو حينما يسمعه ويتلقاه، فقد يتشكّك فيه بما ينقدح في ذهنه من وجود معارض له، وقد يكون هذا المعارض من القرآن أو من السنة الثابتة، أو من قياس صحيح أو نحوِ ذلك، وقد لا يوجد له معارض فحينئذ يعمِله لأنّه الأصل، أمّا إن وجد المعارض فينظر في إمكان إعمالهما معا، وإلا أعمل أحدهما بحسب القواعد المعلومة.

القاعدة الثانية:

هل يلزم من صحّة الإسناد صحّة المتن؟

ومن القضايا المهمّةِ، والتي تعدّ المنطلقَ عند كثير من العلماء والباحثين في تقرير مذهب الأئمّة المحدّثين في التّصحيح والتّعليل، أنّهم ينسبون إليهم منهجًا لا يكاد يُعرف عنهم، ولا جرَوا عليه، ملخّصُه: أنّهم يحكمون على الإسناد دون المتن، وليس لدى المحدّثين اشتغالٌ بالمتن ولا نظرٌ فيه، وعليه بنَى جماعة من الأصوليّين والفقهاء،- ومن تبعهم من بعض متأخّري المحدّثين- القولَ بأنّ “صحّة الإسناد لا يلزم منها صحّة المتن”.

وهذا التّقرير نجده في كثير من كتب المصطلح المتأخّرة.

وللجواب عن هذا ينبغي في البدء تقريرُ أمرٍ مهِمٍّ، وهو في بيان معنى إطلاق المحدّثين الحفّاظ عبارة الصّحة على الإسناد، فإنّنا نجدهم يقولون في حديث: إسناده صحيح، أو هذا حديث صحيح الإسناد ونحوُ هذا.

فهل يَعنُون بالصّحة هنا اشتمالَ الإسناد على صفات القبول وهي: عدالة الرّواة وضبطُهم مع اتصال الإسناد وعدم الشّذوذ والعلة؟

هذه المسألة تحتاج إلى تَجلية وتَحرير، ويمكن القول: إنّه من المعلوم أنّ أئمّة الحديث ونقّادَه الأوائلَ لم ينصّوا على تعريفٍ اصطلاحيٍّ للصحيح في كتبهم على طريقة الحدود المعروفة، وهذا أمر مقرّر لا يخفى، وإنّما عبّروا عنه بأوصاف تدلّ في مُجملها على صواب الرّواية وضبط الرواة وصدقهم[16].

فإذا قالوا:هذا حديث صحيح الإسناد وسكتوا ولم يـبيِّنوا فيه علّة، دلّ هذا على صحّة الحديث والاحتجاج به في الأصل، وأمّا إذا قالوا: صحيح الإسناد وهو منكر أو شاذّ ونحو هذا، فإنّما يريدون بعضَ صفات القبول المتعلّقةِ بأحوال الرّواة مع ظاهرِ الاتصال، وهو ما نعبّر عنه بظاهر الصّحة، وقولهم: “منكر” تعبير عن وجود علّة فيه، أي ليس بصحيح في حقيقة الأمر.

انظر مثلا قول الحاكم-بعد ذكر رواية ابن عمر موقوفا عليه أنّه كان لا يوقت في المسح على الخفين- قال الحاكم: «وقد روي هذا الحديث عن أنس بن مالك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلمبإسناد صحيح،رواته عن آخرهم ثقات،إلاّ أنّه شاذّ بمرة»[17].

هكذا أخرجه الحاكم من طريق عبد الغفار بن داود الحرانيّ ثنا حماد بن سلمة عن عبيد الله ابن أبي بكر وثابتٍ عن أنس: أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: “إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليصلِّ فيهما، وليمسح عليهما ثم لا يخلعهما إن شاء إلاّ من جنابة”.

ففسّر صحّة الإسناد هذا بثقة الرّواة، لكن المتن شاذّ؛ لأنّه مخالف لما روي عن النّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، والعلّة فيه هي مخالفةُ عبد الغفار بن داود لغيره كما صرّح به الحاكم نفسُه، قال: (هذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وعبد الغفار بن داود ثقة غير أنّه ليس عند أهل البصرة عن حماد).

وقال الذهبيّ بعده: (على شرط مسلم، تفرّد به عبد الغفار وهو ثقة، والحديث شاذ)[18].

فالحاصل أنّ هذا الحديثَ من حيث ظاهرُ الإسناد هو صحيح لاشتماله على شروط الصحّة من الاتصال والوثاقة في الرواة غير أنّ فيه علةً خفيّةً وهي مخالفة أحد الرواة وهو عبد الغفار بن داود لغيره، فكان الحديث شاذّا بذلك، فالخلل إذن واقع في الإسناد وإن بدا في الظاهر سالماً صحيحًا.

قال الإمام ابن الصّلاح في هذا السّياق:«قولهم: “هذا حديث صحيح الإسناد أو حسن الإسناد”، دون قولهم: “هذا حديث صحيح أو حديث حسن”؛ لأنّه قد يقال: “هذا صحيح الإسناد” ولا يصحّ لكونه شاذّا أو معلّلا، غير أنّ المصنّف المعتمد إذا اقتصر على قوله إنّه صحيح الإسناد، ولم يذكر له علّةً ولم يقدح فيه، فالظّاهر منه الحكمُ له بأنّه صحيح في نفسه؛ لأنّ عدم العلّة والقادح هو الأصل والظّاهر»[19].

وتعقّبه الحافظ ابن حجر ووجّه كلامه فقال: (الذي يظهر لي أنّ الصوابَ التفرقةُ بين من يفرّق في وصفه الحديث بالصحّة بين التقييد والإطلاق وبين من لا يفرّق؛ فمن عُرف من حاله بالاستقراء التفرقة يحكم له بمقتضى ذلك، ويحمل إطلاقه على الإسناد والمتن معا وتقييده على الإسناد فقط. ومن عرف من حاله أنّه لا يصف الحديث دائمًا وغالبًا إلا بالتقييد، فيحتمل أن يقال في حقّه ما قال المصنّف آخرا)[20].

وقريب منه قال الدكتور نور الدين عتر: (ومن هنا كان لا بد من النظر إلى هذا الحكم بحسب قائله الذي صدر منه، فإن كان حافظًا معتمدًا، ولم يذكر له علّة ولا قادحًا فالظاهر صحّة المتن أو حسنُه؛ لأنّ عدمَ العلّة والقادح هو الأصل والظاهر)[21].

وفي موضع آخر يقرّر الحافظ أنّه لا تلازم بين السند والمتن لكن باعتبار ظاهر السند الجامع لشروط العدالة والضبط والاتصال، فذكر في فهرسته – فيما نقله عنه الصنعانيّ- أنّه قال: «فائدة مهمّة عزيزةُ النقل كثيرةُ الجدوى والنفع، وهي من المقرّر عندهم أنّه لا تلازم بين الإسناد والمتن؛ إذ قد يصحّ السند أو يحسن لاجتماع شروطه من الاتصال والعدالة والضبط، دون المتن لشذوذٍ أو علّةٍ»[22].

ثم إنّنا قد وجدنا جماعةً من أهل العلم بالحديث من يردّ على الحاكم قوله في أحاديث في مستدركه بأنّها على شرط الصحيح – وهي في الظاهر كذلك في كثير منها-، لوجود علّة فيها ونحوِ ذلك. وفي مثل هذا السياق يقول الإمام ابن القيم في بيان شرط الصحيح: (أحدهما: أن يُرى مثلُ هذا الرجل قد وثّق وشُهد له بالصدق والعدالة، أو خُرِّج حديثُه في الصحيح فيُجعل كلُّ ما رواه على شرط الصحيح، وهذا غلط ظاهر؛ فإنّه إنّما يكون على شرط الصحيح إذا انتفت عنه العلل والشذوذ والنكارة، وتوبع عليه فأمّا مع وجود ذلك أو بعضِه فإنّه لا يكون صحيحًا ولا على شرط الصحيح.

ومن تأمّل كلام البخاريّ ونظرائه في تعليله أحاديثَ جماعة أخرج حديثَهم في صحيحه عَلِم إمامتَه وموْقعه من هذا الشأن، وتبيّن به حقيقة ما ذكرنا)[23].

وقال العلامة المعلميّ[24]: (إذا استنكر الأئمّة المحقّقون المتن، وكان ظاهر الإسناد الصحّة، فإنّهم يتطلّبون له علّة، فإذا لم يجدوا علّةً قادحةً مطلقًا، حيث وقعت، أعلّوه بعلّة ليست بقادحة مطلقًا، ولكنهم يرونها كافيةً للقدح في ذاك المنكر.

فمن ذلك: إعلاله بأنّ راويه لم يصرح بالسماع، هذا مع أنّ الراوي غير مدلّس، أعلّ البخاريّ بذلك خبرا رواه عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن عكرمة تراه في ترجمة عمرو من التهذيب[25].

ومن المهمّ أن نؤكّد هنا أنّ أئمّةَ الحديث لم يعتبِروا أحوال الرّواة- من حيث التّوثيقُ والتّضعيفُ- في تصحيح الأخبار دون أن يعتبروا أحوال الرّواية من حيث الصّوابُ والخطأُ، فرُبّ حديث يرويه الثّقة لا يكون صحيحًا لوهَمٍ يقع منه، ورُبَّ حديث يرويه الضّعيف يكون مقبولا لصوابه فيه، لقرائن تقوم به يعلمها النّقاد، أهلُ المعرفة والحفظ والفهم.

وقد أظرف الإمام ابن القيم القول في تقريره نحوَ هذا حينما قال: ( ثقة الراوي شرط من شروط الصحّة وجزء من المقتضى لها، فلا يلزم من مجرّد توثيقه الحكمُ بصحّة الحديث، يوضّحه أنّ ثقة الراوي هي كونه صادقًا لا يتعمّد الكذب، ولا يستحل تدليسَ ما يعلم أنه كذبٌ باطلٌ، وهذا أحد الأوصاف المعتبرة في قبول قول الراوي، لكن بقي وصفُ الضبط والتحفّظ بحيث لا يعرف بالتغفيل وكثرة الغلط.

ووصف آخر- ثانيهما- وهو أن لا يشذّ عن الناس فيروي ما يخالفه فيه مَن هو أوثقُ منه وأكبرُ أو يروي ما لا يتابع عليه، وليس ممن يحتمل ذلك منه كالزهريّ … فأما مثل سفيان بن حسين وسعيد بن بشير… فإذا انفرد أحدهم بما لا يتابع عليه فإنّ أئمّة الحديث لا يرفعون به رأسًا، وأما إذا روى أحدهم بما يخالف الثقات فيه، فإنّه يزداد وهنًا على وهن)[26].

وأحسب أنّ اللّجوء إلى أحوال الرّواة- عندهم- مرحلةٌ تأتي بعد العلم بخلوّ الرّواية من الخطأ والنّكارة،فيصير الحكم على الحديث بعدئذ باعتبار أحوال الرّواة، فالثّقة يكون حديثه صحيحًا، والضّعيف يكون حديثه ضعيفًا، أي على استصحاب حال الرّاوي من التّوثيق والتّضعيف، وهذا ما نلمسه في كتبهم المصنّفةِ في بيان الأحاديثِ المعلولةِ كعلل الدارقطنيّ وغيرها، ولو كان أهل الحديث يكتفون في التّصحيح والتّضعيف بمعرفة حال الرّاوي، أو بحال الإسناد من حيث الاتصال والانقطاع[27]، لصحّحوا أنواعًا من الحديث كالمدرج من الثّقة، والشّاذ…وقبِلوها، ولَعَمِلوا بزيادة الثّقة مطلقًا…

والأمر ليس كذلك، وهذا يدلّ على أنّهم كانوا يُعنَوْن في هذا الباب بمعرفة حال الرّاوي من حيث العدالةُ والضّبطُ، وبالإصابة في الرّواية التّي يرويها على وجهٍ أخصّ، كما كانوا يُعنَون بحال المرويّ من حيث صوابُه وصحّةُ نسبته إلى النّبي صلى الله عليه وسلم بضوابطَ علميةٍ دقيقةٍ؛ فنجدهم يُعلّلُون الحديث لأنّه لا يشبه كلام النّبوة، أو لأنّه مما يستحيل إضافته النّبي صلى الله عليه وسلم، أو لأنّه مخالف لصريح القرآن أو للواقع المشهود، وغير ذلك مما نقرؤه في مصنفاتهم.

وأرجع إلى القول بأنّ كلّ علّة في الحديث لا بدّ أن يكون سببها أحد رجال الإسناد، لأنّ المتن لا يقوم إلاّ بسند، فإذا وُجد في المتن علّة أو نكارة، نقول حينئذ إنّ سببَ ذلك أحدُ الرّواة قطعًا، حتىّ وإن وصفنا الإسناد بالصّحة أو الحسن في هذه الحالة باعتبار الظاهر. وكلّ إسناد تبيـّن فيه خطأ راو من رواته فهو معلول غير صحيح في واقع الأمر، فلا يصحّ القول حينئذ إنّه صحيح بالمعنى الاصطلاحيّ، وهذا ليس من منهج أئمّة الحديث فلا ينسب إليهم.

ومن تتبّع طريقة النّقاد المحقّقين في الحكم على الأحاديث وقف على هذه الحقيقة، فكلّ متن وقعت فيه نكارةٌ فإنّهم يَرجعون السّببَ إلى رجالِ الإسناد، فلا يكون صحيحًا حينئذٍ لوجودِ العلّة فيه. وإنّ لهم طريقةً في الكشف عن الرّاوي المتّهم برواية المتنِ المنكرِ بما يمكن أن نسمِّيَه “السّبر والتّقسيم”[28]، لخّصها أستاذنا الدّكتور صلاح الدّين الأدلبيّ في قوله: «ولمعرفة الرّاوي المتّهم، لا بد من اتّباع طريقة السّبر والتّقسيم، أي اختبار جميع رجال السّند، وتقسيمهم إلى درجات من حيث تحمّلُ المسؤولية، واستبعادُ أبعدهم احتمالا عن مسؤولية تلك الرّواية، ثم الذي يليه في بُعد الاحتمال، وهكذا إلى أن يبقى آخر راو في سلم الاحتمالات هو أقرب رجال ذلك الإسناد احتمالا، فتوضع مسؤولية تلك الرّواية عليه.

ويقال: إن الحمل على فلان، وغالبا ما يكون رجال السّند ثقات إلا واحدا هو مجهول أو ضعيف فيكون الحمل عليه، أو يكون فيهم أكثر من ضعيف فيكون الحمل على أشدهم ضعفا، أو على من دلت قرائن حاله أنّه المسؤول عن ترويج تلك الرّواية المنكرة»[29].

وذكر العلاّمة المعلميّ رحمه اللّه بيانا آخر فقال: «وتحرير ذلك[30]أنّ المجتهد في أحوال الرّواة قد يثبت عنده بدليل يصحّ الاستناد إليه أن الخبر لا أصل له، وأنّ الحمل فيه على هذا الرّاوي، ثم يحتاج بعد ذلك إلى النّظر في الرّاوي؛ أتعمد الكذب أم غلِط ؟

فإذا تدبّر وأمعن النّظر فقد يتّجه له الحكم بأحد الأمرين جزما، وقد يميل ظنُّه إلى أحدهما إلاّ أنّه لا يبلغ أن يجزم به، فعلى هذا الثّاني، إذا مال ظنُّه إلى أن الرّاوي تعمد الكذب قال فيه: “متهم بالكذب” ونحو ذلك مما يؤيد هذا المعنى»[31].

فتحصّل من هذين النّقلين، أنّ أهل الحديث ينظرون في المتن من حيث ثبوتُ أصلٍ له أو لا، ويعتبرون ألفاظه هل هو ممّا يشبه كلام النّبوة أوْ لا ونحوُ ذلك، فإنْ ظهر فيه نكارة، حمّلوا أحد رجال الإسناد ذلك بطريقة السّبر والتّقسيم، ثم يتتبعون السّبب؛ فقد يقفون على دليل يفيد تعمدَ الرّاوي أو غلِط فيه، وبناء على ذلك يحكمون على الحديث.

مثال ذلك:

1-ما أخرجه الخطيب البغداديّ قال: أخبرنا أبو الفتح محمدُ بن الحسين العطار حدثنا عليُّ بن عبد اللّه بنِ الفرج البردانيّ حدثنا محمد بن محمود السراج حدثنا أحمد بن المقدام أبو الأشعث العجليّ حدثنا حماد بن زيد عن أيوب السختيانيّ عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعاً: “الأمناء عند اللّه ثلاثة:جبريل وأنا ومعاوية”. قال الخطيب: (باطل، والحمل فيه على البردانيّ فرجاله ثقات سواه)[32].

2-روي عن مالك، عن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها حديثان، أحدهما: (أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما حجّ مر بقبر أمّه آمنة، فسأل الله عز وجل فأحياها فآمنت به، فردّها إلي حفرتها).

والثاني:بهذا الإسناد (أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينقل الحجارة للبيت عريانًا، فجاءه جبرائيل، وميكائيل، فوزراه، وطفقا يحملان الحجارة عنه شفقة من الله عليه).

هذا إسناد كما ترى كالشمس، لكنّه في الحقيقة مظلم، وهو باطل، والحديثان باطلان موضوعان.

ذكر هذا الحافظ ابن حجر في لسان الميزان في ترجمة عليّ بن أحمد العتكيّ نقلا عن “غرائب مالك” للدارقطنيّ أنّه روى عن أبى غزيّة، عن عبد الوهاب بن موسى عن مالك به. قال الحافظ: قال الدَّارَقُطْنِيّ: والإسناد والمتنان باطلان، ولا يصحّ لأبي الزناد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة شيء، وهذا كذب على مالك، والحمل فيه على أبي غزية، والمتهم بوضعه هو، أو من حدّث به عنه، وعبد الوهاب بن موسى، ليس به بأس)[33].

إذن لا بد من تحميل هذه النكارة أحد رجال الإسناد، وقد يُختلف في تعيينه بناء على اختلاف مراتبهم عند النقاد.

ثالثاً-ما ذكره الإمام مسلم في كتابه التّمييز، في كلامه على حديث أبي قيس الأوديّ عن هزيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة: أن النّبي صلى الله عليه وسلم “توضأ، ومسح على الجوربين والنّعلين”[34].

قال الإمام مسلم في تعليل هذا الطّريق: «…قد بيـنّا من ذكر أسانيد المغيرة في المسح بخلاف ما روى أبو قيس عن هزيل عن المغيرة ما قد أقصصناه، وهم من التّابعين وأجلّتهم مثل مسروق، وذكر من قد تقدم ذكرهم، فكل هؤلاء قد اتفقوا على خلاف رواية أبي قيس عن هزيل، ومن خالف خلاف بعض هؤلاء بين أهل الفهم من الحفظ في نقل هذا الخبر وتحمل ذلك، والحمل فيه على أبي قيس أشبه، وبه أولى منه بهزيل؛ لأن أبا قيس قد استنكر أهل العلم من روايته أخبارا غير هذا»[35].

وقد وافق مسلمٌ في هذا قولَ الإمام أحمد، قال: «المعروف عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه مسح على الخفين، ليس هذا إلا من أبي قيس؛ إنّ له أشياء مناكير»[36].

ويؤيّد الدارقطنيّ هذا، ويحمّل الوهمَ أبا قيس في قوله:«…وهو مما يعدّ عليه به؛ لأنّ المحفوظ عن المغيرة المسح على الخفين»[37].

لكن قد وقع لجماعة من الباحثين والكتّاب ذهولٌ عن هذا المعنى، وفاتهم إدراكُ هذا المسلك.

وعلى سبيل التّمثيل، ما جاء في توجيه النّظر للعلاّمة طاهرٍ الجزائريّ رحمه الله، قال: «ويشهد لعدم التّلازم- أي بين السّند والمتن- ما رواه النّسائيّ من حديث أبي بكر بن خلاد عن محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة: “تسحروا، فإنّ في السّحور بركة”. قال النّسائي: هذا حديث منكر، وإسناده حسن»[38].

وإذا رجعنا إلى سنن النّسائيّ في موضع هذه المسألة، فإنّنا نجده يقول غيرَ ما نقله فضيلةُ العلاّمةِ الجزائريّ، حيث اختصر عبارة النّسائيّ، وإنّما روى النسائيّ الحديث أوّلا من غير طريق يحيى بن سعيد- الذّي نقله الشّيخ- ثم ذكر الاختلاف فيه على عبد الملك بن أبي سليمان، ثم ذكر طرُقًا أخرى منها طريق يحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة… ثمّ قال: حديث يحيى بن سعيد هذا “إسناده حسن وهو منكر، وأخاف أن يكون الغلطُ من محمد بن فضيل».

هذا كلامه، وقارن بينه وبين نقل العلاّمة: “هذا حديث منكر وإسناده حسن”، تعلم أنّ جزءا من النّقد للحديث أسقطه، وهو مهمّ جدّا، وهو: “وأخاف أن يكون الغلط من محمد ابن فضيل”، يريد بهذا بيانَ أنّ الحديث معلول من هذا الطّريق، وإن ظهر أنّ رجال إسناده محتجّ بهم.

أضف إلى ذلك أنّ الإمام النّسائيّ لا يريد بقوله: “منكر”، أنّ المتن منكر، لأنّه صحيح قد أخرجاه في صحيحيهما، وإنّما طريق يحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة هو المنكر، وقد رواه هكذا محمد بن فضيل، وخالف به غيرَه، لأنّ كلّ الطّرق التّي ساقها النّسائيّ هي عن عطاء عن أبي هريرة، وتفرّد محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة.

وقوله:”وأخاف أن يكون الغلطُ من محمد بن فضيل”، لم يجزم بتحميله الغلط-كما هو الظاهر من عبارته- مع كون الحديث خطأ، غير أنّ الإمام البزّار حمّل من دونه وجزم بذلك فقال: (وهذا الحديث لا نعلم رواه عن ابن فضيل إلا أبو بكر ابنُ خلاد ولم يتابع عليه، وذكر أنّه سمعه منه بمكة).

وقوله:”إسناده حسن”، أي في ظاهر الإسناد وأحوال الرّواة، ولا يريد النسائيّ الحسن الاصطلاحيّ، لأنّه حَكم بأنّ فيه خطأ وعلّةً، وهي مخالفة محمد بن فضيل وقد حُمِّل هذا الخطأ، فكيف يـريد المعنى الاصطلاحيّ، والحسن من شرطه أن لا يكون شاذًّا ولا معلّلا؟

وكيف يقال بعد هذا إنّه لا تلازم بين الإسناد والمتن؟

بل يقال:إذا صحّ الإسناد بمعنى الصّحة التّي عند الحفّاظ النّقاد، فإنّه يلزم منه صحّة المتن، لكن يقال بالمقابل: إذا صحّ المتن فإنّه لا يلزم صحّة كلّ إسناد رُوي به، لأنّ صحّة المتن لا تتعلّق بصحة الإسناد فحسب بل قرائن صحة المتن كثيرة.

وبهذا يمكن التّفريق بين ما يقوله أهل الحديث الحفّاظ المحقّقون “إسناد صحيح”، وما يذكره عنهم غيرهم في هذا، فوصْفهم الإسنادَ بالصّحة، من غير أن يذكروا للحديث علّةً، إنّما يـريدون الصّحة في معنى الاحتجاج، وإذا لاح لهم نكارة في المتن، فإنّهم يعلّلون الحديث بها، وإن وصفوا السّند بالصّحة أو الحسن، لكن في هذه الحالةِ لا يريدون الصّحة الاصطلاحية، بل هو مجرّد تعبير عن ظاهر الصّحة من خلال أحوال الرّواة وصفاتهم وظاهر الاتصال كما سبق ذكره، واللّه أعلم.

القاعدة الثالثة:

تقوية الحديث الضعيف بمجموع طرقه للعمل به

هذه مسألة معروفة في كتب مصطلح الحديث، تناولها كثير من المؤلّفين بشكل إجماليّ غيرِ مفصّل، فاغترّ كثير من الباحثين بما ظهر لهم من ذلك الإجمال، ويحسن بي أن أسوق كلام الحافظ ابن حجر الذي أجمل فيه شرط التقوية، قال رحمه الله:

(ومتى توبع السيّئ الحفظ بمعتبر، كأن يكون فوقه أو مثله لا دونه، وكذا المختلط الذي لم يتميز والمستور والإسناد المرسل وكذا المدلس، إذا لم يعرف المحذوف منه صار حديثهم حسنًا لا لذاته، بل وصفه بذلك باعتبار المجموع من المتابِع والمتابَع؛ لأنّ كلّ واحد منهم احتمال كون روايته صوابا أو غير صواب على حدّ سواء، فإذا جاءت من المعتبرين رواية موافقة لأحدهم رجح أحد الجانبين من الاحتمالين المذكورين، ودلّ ذلك على أنّ الحديث محفوظ، فارتقى من درجة التوقّف إلى درجة القبول، والله أعلم.

ومع ارتقائه إلى درجة القبول فهو منحط عن رتبة الحسن لذاته، وربما توقف بعضهم عن إطلاق اسم الحسن عليه)[39].

لكن الإمام ابنَ الصلاح كان أدقَّ في ضبط هذا الباب، قال رحمه الله: (ليس كلُّ ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه بل ذلك يتفاوت: فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئًا من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والديانة.

فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنّه مما قد حفظه ولم يختلَّ فيه ضبطه له.

وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسالُ زال بنحو ذلك كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر.

ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوّة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته. وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متّهما بالكذب أو كون الحديث شاذُّا).

وهذا الكلام في غاية الدقّة، ذلك أنّه نبّه إلى أمر مهمّ لم يذكره الحافظ ابن حجر، وغفل عنه كثير من الناس، وهو عبارته الأخيرة: “…أو كون الحديث شاذّا” فإنّه بهذا يبين شرط الاعتداد بالمتابعة- مع ما سبق-، وهي أن لا يكون راويها قد وهم وأخطأ وشذّ، وهذا شرط في المتابعات.

وبناء على هذا يمكن بيان شروط تقوية الضعيف بما يلي:

الأول:أن يكون ضعف الحديثين ضعفاً يسيراً كسوء حفظٍ في الراوي، أو إرسالٍ ونحوِ ذلك، وأن لا يكون الضعف شديداً كفسقِ الراوي أو كذبِه وغيرِ ذلك.

الثاني:أن لا يكون في الطريق المتابِعِ أو والمتابَعِ وهَمٌ أو خطأ أو نكارة، فإنّ ذلك يجعل الرواية كعدم ورودها، والمنكر منكر لا ينجبر، كما قال الإمام أحمد بن حنبل: «الحديث عن الضعفاء قد يُحتاج إليه في وقتٍ، والمنكر أبدًا منكر»[40].

وقد وجدت الشيخ الألباني قد حرر هذه القاعدة أحسن تحرير حيث قال: (ولم يخْفَ عن الشيخ هذه القاعدة؛ فقد وجدناه قد حررها أحسن تحرير حينما قال: (ومن الواضح أنّ سبب ردّ العلماء للشاذّ إنما هو ظهور خطئها بسبب المخالفة المذكورة، وما ثبت خطؤه فلا يعقل أن يقوّى به رواية أخرى في معناها، فثبت أنّ الشاذّ ولمنكر مما لا يعتدّ به، ولا يستشهد به بل إنّ وجوده وعده سواء)[41].

غير أنه فاته تطبيق هذه القاعدة في جملةٍ من الأحاديث، يأتي ذكر مثال منها إن شاء الله.

الثالث:أن لا يكون في أحد الحديثين زيادةٌ في المتن، فتكون المتابعةُ على أصل الحديث، فأمّا الزيادة فتحتاج إلى متابعة أخرى مع السلامة من الخطأ في كلّ ذلك.

ولكنّنا لو نظرنا في كتب الحديث والفقه المتأخّرة لوجدنا فيها أحاديث ضعيفة بل معلولة اعتُدَّ بها بإعمال هذه القاعدة أعني التحسين أو التصحيح بتعدّد الطرق من غير مراعاة لهذه الشروط، فأثبتوا بها سننًا ومفاهيم وهي في الواقع غيرُ ثابتة، بل قد وجدنا من يتعقّب الإمامَ الحافظَ النّاقد كالبخاريِّ وغيرِه من النقّاد بمثل هذه القاعدة، فيورد عليهم متابعاتٍ ويستدركها عليهم، والحال أنّ تلك المتابعات لم يعتدّوا بها لعلل فيها. والله أعلم.

ولتوضيح ذلك أورد مثالين اثنين من مدرستين مختلتين:

المثال الأوّل:استدراك الشيخ الألبانيّ رحمه الله بتصحيحه حديث أم سلمة رضي الله عنها في نهيِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل معقوصًا.

وهذا الحديث رواه ابن جريج عن عمران بن موسى عن سعيد المقبريّ عن أبيه عن أبي رافع[42].

ورواه مخول بن راشد واختلف عنه: فرواه قيس بن الربيع[43]وشعبة[44]وزهير بن معاوية[45]عنه عن أبي سعيد عن أبي رافع.

ورواه سفيان عنه واختلف عنه: فرواه أبو حذيفة[46]ومؤمّل بن إسماعيل[47]عنه عن مخوّل عن سعيد عن أبي رافع عن أمّ سلمة. ورواه عبد الرزاق عنه عن مخوّل عن رجل عن أبي رافع[48].[49]

وحديث أبي حذيفة ومؤمّل خطأ، وحديث شعبة عن مخوّل عن أبي سعيد عن أبي رافع أشبه وأصحّ منه، لكنّ حديث عمران بن موسى أصحّها إسنادًا، فالحديث حديث أبي رافع لا حديث أمّ سلمة.

قال أبو حاتم: (إنّما روي عن مخوّل عن أبي سعيد عن أبي رافع، وكنية سعيد المقبريّ أبو سعيد، وأخطأ مؤمّل إنّما الحديث عن أبي رافع)[50].

قاله بعد سؤال ابنه له عن حديث مؤمّل بن إسماعيل عن الثوريّ عن مخوّل عن سعيد المقبريّ عن أمّ سلمة.

وقال الإمام الترمذيّ- بعد أن ساق حديث عمران بن موسى-: ( وهذا الحديث هو الصحيح، وحديث مخوّل فيه اضطراب.

قال: ورواية شعبة عن مخوّل أشبه وأصحّ من حديث مؤمّل عن سفيان عن مخوّل لأنّ شعبة قال: عن مخوّل عن أبي سعيد عن أبي رافع.

وأبو سعيد هو عندي سعيد المقبريّ)[51].

وقال الدارقطنيّ بعد سياق حديث المؤمّل: (وهِمَ في ذكر أمّ سلمة فيه، وغيره لا يذكر فيه أمّ سلمة.

وحديث عمران بن موسى أصحهّا إسنادا)[52].

وقال في موضع آخر: (يرويه مخول بن راشد، واختلف عنه؛ فرواه مؤمل وأبو حذيفة عن الثوريّ عن مخول عن المقبريّ عن أبي رافع عن أم سلمة، وغيرهما يرويه عن الثوري عن مخوّل، ولا يذكر فيه أم سلمة.

ورواه شعبة وشريك عن مخول وهو الصواب) يعني من غير ذكر أم سلمة.

غير أنّ الشيخ الألبانيّ جعل حديث أمّ سلمة شاهدًا صحيحًا، فقال: (… وللحديث شاهد من حديث أمّ سلمة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم “نهى أن يصلي الرجل ورأسه معقوص”.

قال الهيثمي: رواه الطبرانيّ في الكبير ورجاله رجال الصحيح. قال الشيخ الألبانيّ: وهو كما قال، باستثناء شيخ الطبرانيّ عليّ بن عبد العزيز وهو ثقة حافظ، فالسند صحيح)[53].

قلت:

لا يكفي هذا في تصحيحه وإن كان الرواة كلّهم ثقات؛ لأنّه قد سبق عن النقّاد أنّ الحديث إلى أمّ سلمة وهَم وخطأ، فلا يصلح أن يكون شاهدًا صحيحًا حينئذ؛ لأنّه كالعدم.

والله أعلم.

المثال الثاني:استدراك أبي الفيض أحمد بن الصديق الغماريّ على الإمام الترمذيّ[54].

قال الغماريّ: ( روى الترمذيّ وأبو يعلى كلاهما من طريق مؤمّل بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن حميد عن أنس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: “ألظّوا بـ”يا ذا الجلال والإكرام”.

قال الترمذي: “غريب وليس بمحفوظ، وإنّما يروى هذا عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن البصريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلا. وهذا أصحّ، والمؤمّل غلِط فيه، فقال: عن حميد عن أنس، ولا يتابع عليه”).

قال الغماريّ: (وليس كذلك، بل تابعه عليه روح بن عبادة عن حماد بن سلمة عن ثابت وحميد عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

أخرجه ابن السبط في “فوائده” عن أبي الخطاب الحسين بن حيدرة عن القاضي أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل القاضي حدثنا علي بن حرب ثنا روح بن عبادة به.

وتابعه على روايته عن أنس حماد بن زيد عن أبان بن أبي عياش عن أنس، ذكره ابن أبي حاتم، وكذلك الرُّحيْل بن معاوية عن يزيد الرقاشيّ عن أنس، أخرجه الترمذيّ. اهـ)[55].

قلت:

وليس كذلك، ولم ينفرد الإمام الترمذيّ بهذا الحكم بل تابعه عليه الأئمّة أبو حاتم والبزّار والدارقطنيّ.

فأمّا أبو حاتم فسئل عن حديث مؤمّل بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن حميد عن أنس.

وحديث روح بن عبادة عن حميد عن ثابت وحميد عن أنس.

فقال: (هذا خطأ، حماد بن زيد يرويه عن أبان بن أبي عياش عن أنس)[56].

وفي موضع آخر بعبارة أوضح: (هذا خطأ، حماد بن زيد يرويه عن أبان بن أبي عياش عن أنس.

وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو سلمة[57]، قال: حدثنا حماد عن ثابت وحميد وصالح المعلم عن الحسن عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم. وهذا الصحيح وأخطأ المؤمّل)[58].

فأنت ترى كيف حكم الإمام أبو حاتم على الطريقين معًا بالخطأ، وليس كما نقل الشيخ الغماريّ موهِما أنّ الإمام ابن أبي حاتم قد ذكر رواية روح بن عبادة على سبيل المتابعة، بل كلا الطريقين خطأ.

وأمّا البزّار فقال: (حدّثنا عليّ بن حرب حدثنا المؤمل بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:” ألظّوا بـ”يا ذا الجلال والإكرام”.

وهذا الحديث لا نعلم رواه عن حميد عن أنس إلا من هذا الوجه).

ومثله قال الدارقطنيّ، فقد سئل عن حديث ثابت وحميد عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحديث. فقال: يرويه حماد بن سلمة، واختلف عنه؛ فرواه روح بن عبادة، عن حماد عن ثابت وحميد عن أنس وخالفه أبو سلمة التبوذكيّ وحجاج بن منهال، فروياه عن حماد عن ثابت وحميد في آخرين عن الحسن البصريّ مرسلا، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الصّحيح عن حماد، وهذا الحديث إنّما يعرف عن أنس من رواية يزيد الرقاشي، حدّث به عنه الأعمش، وغيره)[59].

وبهذا تجتمع كلمة الحفّاظ في حكمهم على هذا الحديث، وبان من ذلك أنّهم لم يختلفوا فيه، ولم يغفلوا عن المتابعات كما ذكر الشيخ الغماريّ، لا الترمذيّ ولا غيره ممن ذكر.

فالصحيح إذن ما حكم به الإمام الترمذيّ ومن وافقه، والمتابعة التي ذكرها الشيخ الغماريّ لم يغفل عنها الأئمّة بل ردوها لأجل الخطأ.

ولله أعلم.

هذا ما منّ الله به في هذا الآن، سائلا إياه حسن المآل، والصدق في الأقوال والفعال، وصلى الله وسلم على سيّدنا محمد رسول الله وآله وصحبه.

الهوامش:

[1]الأعظمي، منهج النقد عند المحدثين ص77

[2]والزركشي لم يذكر في مقدمة كتابه أنه يورد أمثلة عن معارضة السيدة عائشة الحديثَ بالقرآن، ولم يتعرض إطلاقا لهذا الأمر، فقد قال: (فهذا كتاب أجمع فيه ما تفردت به الصديقة رضي الله عنها أو خالفت فيه سواها برأي منها أو كان عندها فيه سنة بينة، أو زيادة علم متقنة، أو أنكرت فيه على علماء زمانها، أو رجع فيه إليها أجلة من أعيان أوانها، أوحررته من فتوى، أو اجتهدت فيه من رأي رأته أقوى. موردا ما وقع إليّ من اختياراتها، ذاكرا من الأخبار في ذلك ما وصل إلي من رواتها. غير مدّع في تمهيدها للاستيعاب، و أن الطاقة أحاطت بجميع ما في هذا الباب.

على أني حرّرت ما وقع لي من ذلك تحريرا ونمقت بروده رقما وتحبيرا، مع فوائد أضمها إليه وفرائد أنثرها عليه، ليكن عقدا ثمينة جواهره، وفلكا منيرة زواهره، ولقد وفقت لجمعها في زمن قريب، وأصبح مأهول ربعها مأوى لكل غريب. وما هذا إلا ببركة هذا البيت العظيم الفخر، ” ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر”.

وقد سميته “الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة”).

[3]وهذا صحيح، لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، – أي تخصيص المؤمن بالعذاب-، وكلامها بعده يدلّ عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يزيد الكافرعذابا ببكاء أهله عليه”.

[4]الشافعي، اختلاف الحديث

[5]غير أنّ الحافظ ابن حجر أومأ إلى ذلك حيث قال: (وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة، وفيه إشعار بأنها لم تردّ الحديث بحديث آخر بل بما استشعرته من معارضة القرآن) فتح الباري 3/154

[6]في التمهيد 17/276

[7]فتح الباري 3/154

[8]ابن تيمية، مجموع الفتاوى 24/208-209 طبعة دار ابن حزم 1418هـ/1997م.

[9]الزركشي، الإجابة ص 99- 100

[10]ابن تيمية، مجموع الفتاوى 4/184

[11]الطحاوي، شرح معاني الآثار، عالم الكتب الطبعة : الأولى- 1414 هـ / 1994 م

[12]الشافعي، الرسالة ص225-226

[13]ابن القيم، مخصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ص 437

[14]يريد بالإلغاء النسخ أو الترجيح، وبالتنقيح التخصيص والتقييد، هكذا بين المؤلف في حاشية الكتاب ص183

[15]مقاصد الشريعة ص185، دار النفائس، الطبعة الثانية 1421هـ/2001م. تحقيق محمد الطاهر الميساوي.

[16]كمثل قول الإمام الشافعيّ في بيان مفهوم الصحيح كما هو في الرسالة ص370-373: (ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا: منها أن يكون من حدث به ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه، عاقلا لما يحدث به، عالما بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدّث به على المعنى؛ لأنه إذا حدث على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه، لم يدر لعله يحيل الحلال إلى حرام.

وإذا أداه بحروفه فلم يبقى وجه يخاف فيه إحالته الحديث. حافظا إذا حدّث به من حفظه، حافظا لكتابه إذا حدث من كتابه.

إذا شرك أهل الحفظ في حديث وافق حديثهم بريًّا من أن يكون مدلّسا: يحدث عن من لقي ما لم يسمع منه، ويحدث عن النبيّ ما يحدث الثقات خلافه عن النبيّ.

ويكون هكذا مَن فوقه ممن حدثه حتى ينتهي بالحديث موصولا إلى النبيّ أو إلى من انتهى به إليه دونه؛ لأن كل واحد منهم مثبت لمن حدثه، ومثبت على من حدث عنه، فلا يستغنى في كل واحد منهم عما وصفت)

[17]الحاكم، المستدرك 1/181

[18]المستدرك وتلخيصه 1/181

[19]ابن الصّلاح، علوم الحديث ص 35

[20]ابن حجر، النكت على كتاب ابن الصلاح ص160

[21]نور الدين عتر، منهج النقد في علوم الحديث ص274

[22]انظر، الصنعاني، توضيح الأفكار 1/195

[23]ابن القيم، كتاب الفروسيةص 182. من مطبوعات مجمع الفقه الإسلامي، طبعة دار عالم الفوائد، مكة المكرمة. الطبعة الأولى 1428هـ

[24]مقدمة تحقيق كتاب الفوائد المجموعة ص7. دار الآثار . القاهرة. الطبعة الأولى 1423هـ/2002 م.

[25]قال الحافظ ابن حجر في التهذيب: (قال البخاري روى عن عكرمة في قصة البهيمة فلا أدري سمع أم لا).

[26]ابن القيم، كتاب الفروسية ص 218-219

[27]وللأسف هذا حال كثير من المتأخرين الذين تصدّوا للكلام في الأحاديث.

[28]طريقة السّبر والتّقسيم: هي إيـراد مجموعة من الأمور والأوصاف التّي يحتمل التّعليل بها في أمر ما، وبعد حصرها تعرض للاختبار، ويلغى بعضها شيئا فشيئا، حتى يتعين الباقي للعلية. الأدلبي، صلاح الدين، منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي ص153، دار الآفاق الجديدة. بيروت، الطّبعة الأولى 1403هـ/1983م.

وانظر: الجرجاني. الشريف عليّ بن محمد (ت:816هـ)، التّعريفات ص155، تحقيق: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى ، 1405هـ .

[29]الأدلبيّ، صلاح الدّين بن أحمد، منهج نقد المتن عند علماء الحديث النّبوي ص153

[30]إشارة إلى قول المحدثين ” فلان متّهم بالكذب”.

[31]المعلميّ التّنكيل 1/38

[32]الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد 12/8

[33]ابن حجر، لسان الميزان4/192مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت الطبعة الثالثة، 1406/1986

[34]أبو داود، كتاب الطهارة، باب المسح على الجوربين والنعلين والخمار 1/71، والترمذي، أبواب الطهارة باب في المسح على الجوربين والنعلين 1/167، النسائي، باب المسح على الجوربين والنعلين 1/92.

[35]مسلم بن الحجاج، التّمييز- المطبوع مع كتاب منهج النقد عند المحدثين، نشأته وتاريخه- ص204، مصطفى الأعظمي، مكتبة الكوثر، السّعودية، الطّبعة الثّالثة 1410هـ.

[36]الميموني، السؤالات ص175رقم 417

[37]الدارقطنيّ، علي بن عمر (ت:385هـ)، العلل الواردة في الأخبار في الأحاديث النّبوية 7/112. تحقيق محفوظ الرّحمن السّلفيّ، دار طيبة، طبعة مصورة عن الطّبعة الأولى1420هـ/1999م. وانظر كذلك: أحمد بن حنبل، العلل ومعرفة الرّجال. 3/366

[38]الجزائري، طاهر بن محمد صالح (ت:1338هـ) توجيه النّظر إلى أصول الأثر 1/509. تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة. مكتبة المطبوعات الإسلامية،حلب، سورية، الطّبعة الأولى 1416هـ/1995م.

[39]ابن حجر، شرح النخبة المطبوع مع حاشية ابن قطلوبغا ص103- 104

[40]المرّوذيّ، سؤالاته لأحمد ص120

[41]الألباني. صلاة التراويح ص66.مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض. الطبعة الأولى1421هـ

[42]الترمذي في الجامع 2/223 رقم 382. وأبو داود 1/451 رقم 646. وعبد الرزاق في المصنف 2/183 رقم 2991. والبيهقي 2/156. والطبراني 1/331 رقم993

[43]الطبراني 1/331 رقم 992

[44]الطبراني 1/331 رقم 992

[45]لم أقف عليه.

[46]الطبراني 23/252

[47]ذكره الدارقطني في العلل 7/18

[48]عبد الرزاق 2/182 رقم 299. والطبراني 1/331 رقم 990

[49]انظر: الدارقطني. العلل 7/18

[50]ابن أبي حاتم. علل الحديث 1/107 رقم 289

[51]الترمذي. العلل الكبير بترتيب أبي طالب القاضي ص81 رقم 127

[52]الدارقطني. العلل 7/18

[53]السلسلة الصحيحة 5/501 رقم 2386

[54]في كتاب سماه: “ليس كذلك في الاستدراك على الحفّاظ”. فقد استدرك فيه على أئمّة كثر كالحميديّ والبخاريّ والترمذيّ وأبي داود وأبي زرعة والطبرانيّ وأبي نعيم والحاكم والدارقطنيّ والخطيب وغيرهم.

[55]الغماري. ليس كذلك في الاستدراك على الحفّاظ ص70. دار الكتب العلمية. بيروت. الطبعة الأولى 1422هـ /2001م

[56]ابن أبي حاتم. علل الحديث 2/170 رقم 2003.

[57]وهو موسى بن إسماعيل التبوذكيّ.

[58]ابن أبي حاتم. علل الحديث 2/192 رقم 2069.

[59]الدارقطني. العلل 12/26.

عن عمار رقبة الشرفي

- مجاز في القراءات العشر المتواترة من طريق الشاطبية والدرة. - مجاز في الكتب التسعة بالسند المتصل وبعدد من كتب الحديث الشريف. - شهادة تخرّج في العلوم الشّرعية والعربية من معهد بدرالدّين الحسني بدمشق. - شهادة الدّورة التّأهيليّة للدّعاة. - إجازة تخرج (ليسانس) من معهد الدّعوة الجامعي (فرع دمشق) في الدراسات الإسلاميّة والعربيّة. - ديبلوم ماجيستير في الفقه المقارن (تحقيق جزء من كتاب عيون الأدلّة - للقاضي أبي الحسن علي بن أحمد المالكي البغدادي المعروف بابن القصار (ت :398هـ - 1008م- قسم المعاملات. - مؤسس ومدير معهد اقرأ للقرآن وعلومه، باب الزوار- الجزائر العاصمة http://iqraadz.com/ - المؤسس والمشرف العام على موقع المكتبة الجزائرية الشّاملة http://www.shamela-dz.net/

شاهد أيضاً

جهود المدرسة الإصلاحية الجزائرية في دراسة المصطلح القرآني –تفسير ابن باديس أنموذجًا- الباحث نبيل صابري

تمهيد: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: في ظل الموجات الاستدمارية التي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *