العلماء ورثة الأنبياء، ومصيبة فقدهم تعدل مصيبة فقد الأنبياء أو تدانيها، وقد رحل عنّا سيدي العلامة المقرئ المربّي المجاهد الشيخ الطاهر آيت علجت -رحمه الله – في وقت نحن بأشد الحاجة إليه وإلى أمثاله !!!
وكيف لا وهو رجلٌ من بقية السلف الصالح ادّخره الله لهذا الزمان، وجمع له من الخصال الجليلة ما يندر أن يجتمع لغيره، فجمع له ربه عز وجل، بين القرآن والعلم والجهاد والربّانية، وخفض الجناح للمؤمنين وبشاشة الوجه، وكرم الخُلُق والبذل والعطاء، وبسط القبول، وطول العمر في طاعة الله.
1. فهو رجل القرآن بحقّ، أفنى حياته كلها في تعلم القرآن وتعليمه بالسند المتصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم – إلى ربّ العزّة جلّ جلاله، وقد ورد في الحديث الصحيح عن عثمان -رضي الله عنه- أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «خيركم مَن تعلّم القرآن وعلّمه» وإنّ زاويته ومسجده وبيته وطلابه ومشاركاته في الملتقيات القرآنية وتكريم الطلّاب الخاتمين والخاتمات، لخيرُ شاهد على ذلك.
2. وهو العالم الذي برع في عدة فنون، العقلية منها والنقلية، كالتفسير والحديث والفقه والأصول واللغة والمنطق.. والعلماء ورثة الأنبياء، ويوم القيامة يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء.
3. وهو المجاهد المقدام إبان الثورة التحريرية ضد المستدمر الفرنسي، والجهادُ ذروة سنام الإسلام، وأجره لا يعدله شيء، لما رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله -عنه-: «قِيل للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: ما يَعْدِلُ الجِهَادَ في سَبيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قالَ: لا تَسْتَطِيعُونَهُ، قالَ: فأعَادُوا عليه مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذلكَ يقولُ: لا تَسْتَطِيعُونَهُ، وَقالَ في الثَّالِثَةِ: مَثَلُ المُجَاهِدِ في سَبيلِ اللهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَائِمِ القَانِتِ بآيَاتِ اللهِ، لا يَفْتُرُ مِن صِيَامٍ، وَلَا صَلَاةٍ، حتَّى يَرْجِعَ المُجَاهِدُ في سَبيلِ اللهِ تَعَالَى ».
4. وهو الرجل الربّاني الموصول بربّه في كل حال، وإذا رأيته ذكرت الله، وإذا جالسته تغير حالك لأحسن حال !!! والسر في ذلك أنّه امتثل قول ربّه وَلَكِنْ كُونُواْ رَبَّانِيِّنَ بِمَا كُنْتُمْ تَعلَمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسونَ ﴾ [آل عمران: 79].
وفي قراءة ﴿ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ ﴾ فحسنُ تعامله مع القرآن تعلُّما وتعليما أورثه الربّانية والصلاح.
5. وهو الرجل الذي أتعب مَن حوله ومن سيجيئ بعده، بتواضعه وخفض جناحه لكل الناس اقتداءً بسيّد الخلق الذي أمره ربّه بقوله: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء:215].
ومَن تواضع لله رفعه.
وأذكر أنّه في لقاء من لقاءات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين العامّة، أقبلنا عليه والتففنا حوله للإفادة من علمه وأنواره، فجيئه بكرسي ليجلس عليه، فأبى الجلوس ونحن قيام رغم الإلحاح الشديد وتقدّم سنّه الذي تجاوز التسعين في ذلك العام، إنها أخلاق النبّوة.
6. وهو الرجل الذي لا تفارق الابتسامة والبشاشة وجهه فتزيده نوراً وجمالا ووقارا، وفي الحديث الصحيح « وتبسّمك في وجه أخيك صدقة ».
7. وهو رجل كريم الخُلق والبذل والعطاء يخدم ضيوفه بنفسه، أدرك ذلك كل من لقيه أو خالطه أو زاره، وفي الحديث الصحيح: « إن من أحبّكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً .. » [رواه الترمذي].
وأذكر أنه في الملتقى الدولي الأول للقرآن الكريم الذي أقامته مدرسة الشيخ عبد الحميد الحميد بن باديس للقراءات بقسنطينة، زرناه في بيته مع ثلة من الأساتذة الفضلاء بمعية شيخ قراء الشام سيدي محمد كريم راجح، فاستقبلنا عند الباب بحفاوة تصحبها طلعته البهية، فلما افترقنا من عنده على ذَواقٍ روحيٍّ، قال لي سيدي الشيخ كريم راجح: ” كنت أتساءل عن هذا العالم الذي نزوره ؟! فلما رأيت سمته وأدبه ووقاره واستمعت لحديثه … أدركت أنه يستحق الزيارة، أو كما قال ؟! “.
8. وهو رجل بسط اللهُ له القبول في الأرض، ولو لم يحبّه لما حَبَّبه إلى خلقه و جميع أبناء وطنه على اختلاف مشاربهم ، وفي الحديث القدسي المتفق عليه : « إذا أحبّ الله عبدا نادى جبريلَ ، فقال: إنّي أحبُّ فلانا فأحبّه، قال: فيحبُّه جبريل، ثم ينادي في السّماء فيقول: إنّ اللّه يُحبُّ فلانا فأحبّوه، فيحبّهُ أهل السماء، قال: ثمَّ يوضع له القبول في الأرض .. ».
9. وهو رجل أطال الله عمره في طاعته، فعمَّر قرنا وستة أعوام، وبالهجري قرنا وتسعة أعوام، عامرة بسائر الطاعات والقربات، وفي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي أنّ النبي -صلى الله عليه وسلّم- قال: « خيرُ النّاس مَن طالَ عمره وحَسُن عمله ».
لأجل ما ذكرته من مناقبه العطرة -وهو غيض من فيض- كانت مصيبة فراقه جللا ، وموت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيئ مااختلف الليل والنهار كما روى الحسن البصري عن الصحابة، وأذكر أنه لما توفي سيدي العلامة أحمد سحنون رحمه الله، وقد كان معروفا بالدعاء للمسلمين في الثلث الأخير من الليل، وقد سمعت ذلك منه، قلتُ لزوجتي: مَن سيدعو لنا بعده ؟! فمنّ اللهُ علينا بسيدي العلامة الشيخ الطاهر، والسؤال يعيد نفسه الآن ؟!
أقول هذا وأنا واثق من أنّ بلدنا لايخلو من علماء ربانيين بفضل ربّ العالمين، ولكني أردت أن أُذَكّر بسنة رحيل العلماء ومَن سيخلفهم ؟! وهو ما يجب التفكير فيه وتكاتف الجهود في تحقيقه، والآمال معلقة على أولادنا وشبابنا، ذُكرانا وإناثا، وهو ما سعى إلى تحقيقه الإمام بن باديس رحمه الله، فقال : ” إننا نربي -والحمد لله- تلامذتنا على القرآن ونوجه نفوسهم إلى القرآن من أول يوم وفي كل يوم، وغايتنا التي ستتحقق: أن يكون القرآنُ منهم رجالا كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلق الأمة آمالها، وفي سبيل تكوينهم تجتمع جهودنا وجهودها “.
وخاطب النشء قائلا:
يا نشء أنت رجاؤنا وبك الصبح قد اقترب
فاللهم اجز عنا سيدنا ومعلمنا الشيخ الطاهر آيت علجت خير الجزاء وأكرم نزله وأعل من مقامه وألحقه بالشهداء والصالحين، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها يا أرحم الرحمين.
السلام عليكم نتمنى من العلي القدير ان يرحمه ويغفر له ويلهمنا الصبر والسلوان يعتبر فقيد الامة