سؤال مؤرق وواقع مؤلم
إن السؤال المؤرق الذي ظل يتبادر إلى ذهني دائما عندما يُتوفى عالم من علماء الجزائر، هو: هل ترك هذا العالم آثارا علمية تحفظ علمه وفكره وتنتفع بها الأجيال من بعده وتذكره بها، أم أن علمه مات بموته وانطوى برحيله عن هذه الحياة الدنيا، ولن يلبث ذكرُ هذا العالم أن يذوي شيئا فشيئا حتى يتلاشى مع مرور الأيام كما حدث لكثيرين غيره من علماء هذه البلاد؟
الواقع المؤلم الذي لا يمكننا إنكاره هو أن أغلب تراث علماء الجزائر يظل مجهولا وغير متاح للاطلاع عليه والانتفاع به من قبل أجيال الباحثين وطلاب العلم الذين لا يستطيعون الوصول إلى هذا التراث الذي يبقى معظمه مخطوطا أو في تسجيلات صوتية أو مرئية، وفي كثير من الأحيان يضيع هذا التراث بعد وفاة صاحبه حين لا يعرف ورثته قيمته وأهميته فيقومون بإتلافه أو التخلص منه أو يتركونه مهملا حتى تتلفه عوادي الزمن.
وأذكر هنا واقعة حدثت لي مع أبناء عالم من علماء الجزائر رحل عن دنيانا منذ سنوات، حيث اتصلت بهم من خلال أحد معارفهم الذي تربطه بي وبهم صلة وثيقة، وطلبت منهم أن يمكنوني من صور طبق الأصل من خطب ومقالات وأشعار والدهم رحمه الله، حتى أحققها وأدرسها وأخرجها مطبوعة. وكنت أتصور أن هذا الطلب سيسرهم ويجعلهم يستجيبون له فورا، إلا أنني فوجئت برفضهم القاطع وإصرارهم الغريب على أن آثار والدهم لا يمكن أن يُسلموها لأحد مهما كان، وإذا كان هناك من يحق له أن ينشرها فهم أفراد عائلته أنفسهم، ومع أني أكدت لهم أن والدهم يكاد يكون مجهولا تماما عند أغلب الجزائريين وخاصة الأجيال الجديدة منهم، وأن طلبي هو من باب الحرص على إحياء ذكره ونشر آثاره دون أن تكون لي أي فائدة شخصية من وراء ذلك، إلا أنهم أصروا على الرفض. ولعلهم تصوروا أنني سأستفيد من نشر هذه الآثار فوائد مادية أو معنوية، في حين أنني سأبذل من وقتي وجهدي وحتى من مالي الشخصي ما لا يعلمون ولا يُقدِّرون.
آثار الشيخ الطاهر
وفيما يخص فقيدنا الشيخ محمد الطاهر آيت علجت رحمه الله، فقد ذكر من كتبوا عنه بعد وفاته أنه ظل خلال عقود طويلة، وخاصة بعد إحالته على التقاعد سنة 1978، يلقي دروسًا في الفقه والنّحو وعلم القراءات والمواريث وغيرها من العلوم الشرعية واللغوية. كما ذكر بعضهم أنه ترك مؤلفات مخطوطة في هذه العلوم، وأوردوا قائمة بعناوين هذه المؤلفات، وهي عناوين ذات أهمية بالغة إذ يدور أغلبها حول شرح مصادر الفقه المالكي المشهورة في الغرب الإسلامي، ومن العناوين التي ذكروها: شرح موطأ الإمام مالك، شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، شرح مختصر خليل، شرح ترتيب الفروق للقرافي، شرح متن الرحبية في الفرائض لموفق الدين الرحبي، إضافة إلى شروح لبعض المصادر اللغوية، مثل شرح ألفية ابن مالك في النحو، شرح لامية الأفعال لابن مالك، شرح الجوهر المكنون في البلاغة لعبد الرحمن الأخضري، شرح الأجرومية، وغيرها.
لكن يبدو أن هذه الأعمال العلمية النافعة، كلها مجرد أمالي أو دروس شفوية غير مكتوبة، وقد تكون مسجلة كلها أو بعضها فقط دون الكل، كما قد تكون متفرقة بين أيدي طلبته وتلاميذه الذين استمعوا إليها حضوريا بالجلوس بين يدي الشيخ، ويصعب أن تكون كلها متوفرة لدى أسرة الشيخ أو طلبته المقربين، هذا إذا افترضنا أنها سجلت كلها، وهو افتراض بعيد لأننا نعرف واقعنا نحن الجزائريين، حيث يندر أن نجد من يحضر درسا لعالم أو إمام ويسجل بقلمه أو بجهاز تسجيل ما يسمع.
لماذا لم تُنشر في حياة الشيخ؟
إذا افترضنا أن هذه التسجيلات كانت متوفرة منذ زمن بعيد خلال مسيرة الشيخ التعليمية، فلماذا لم يتم تفريغها وكتابتها وطباعتها في حياة الشيخ رحمه الله؟ حيث كان بالإمكان أن يتولى مراجعتها بنفسه فيُبقي على ما يرى أهمية الإبقاء عليه ويحذف ما يراه غير جدير بالإبقاء. ثم لماذا لم يتم وضع هذه التسجيلات على مواقع الأنترنت مثل (يوتيوب) حتى يشاهدها من يرغب في مشاهدتها إن كانت مرئية، أو يسمعها من يرغب في سماعها إن كانت صوتية؟
بل لماذا لم يقم ابنه الشيخ محمد الصالح رحمه الله بجمع هذه الآثار وتحقيقها ونشرها، كما فعل مع فتاوى الشيخ المولود الحافظي مثلا؟
ثم إن السؤال المؤرق أكثر هو: هل كان للشيخ طلاب وتلاميذ مقربون لازموا دروسه سنوات طويلة واهتموا بما يدلي به لهم من علم ويسجلون عنه ما يقول أو يملي هو عليهم ما يراه ضروريا من المعلومات ليحفظوها، أم أن مستعمي الشيخ كانوا مجرد أشخاص عاديين يحضرون أحيانا ويغيبون في كثير من الأحيان ويكتفون بالسماع فقط ثم النسيان بعد ذلك، كما هو حال معظم الجزائريين؟
مرة أخرى نسجل الواقع المؤلم الذي عاشه ويعيشه علماء الجزائر وهو أنهم لم يحظوا بتلاميذ حقيقيين يهتمون بتسجيل دروسهم ويحرصون على الانتفاع بها ونقلها إلى من يأتي بعدهم عن طريق التحقيق والطباعة والنشر، وإلا فأين محاضرات الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله ودروسه في التفسير والحديث والفقه على مدى ربع قرن، وأين دروس ومحاضرات كل من الإبراهيمي والتبسي والعقبي وغيرهم من أعلام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين رحمهم الله جميعا؟ وأين دروس ومحاضرات أعلام الجزائر بعد الاستقلال من أمثال المشايخ أحمد حماني وعبد الرحمن شيبان وأحمد سحنون وعبد الرحمن الجيلالي وأحمد توفيق المدني وعلي مغربي وأحمد الأطرش السنوسي ومحمد باي بلعالم وغيرهم من العلماء الأفذاذ رحمهم الله؟
هل ستنشر مستقبلا؟
إذا افترضنا مرة أخرى أن هذه التسجيلات متوفرة ويمكن الوصول إليها بسهولة، فإن السؤال الآخر الذي سيتبادر هو: هل ستحظى هذه التسجيلات بمن يهتم بمضمونها ويحرص على تفريغها ويجتهد في تحقيقها وطباعتها ونشرها؟
في كليات وأقسام العلوم الإسلامية وفي كليات وأقسام اللغة والأدب في مختلف الجامعات الجزائرية عشرات الباحثين الذين يسجلون كل عام أطروحات الدكتوراه في موضوعات الفقه والأصول والتفسير واللغة العربية، هل في هؤلاء من يمكن أن يهتم بتراث علماء الجزائر ويحرص على دراسته وتحقيقه وإخراجه من دائرة الإهمال والنسيان؟
مرة أخرى يؤسفنا أن نقرر أن أغلب طلبتنا وباحثينا لا يمتلكون التكوين العلمي والبحثي الرصين الذي يؤهلهم للبحث عن هذه الآثار وجمعها ودراستها وتحقيقها وإخراجها، فمعظمهم، إن لم أقل كلهم، لا يهمهم من البحث العلمي إلا إنجاز مذكرات ينالون بها شهادات تمكنهم من الحصول على مناصب يضمنون من خلالها دخلا منتظما يعيشون به على هامش الحياة حتى يغادروا هذه الدنيا دون أن يهتم أحدهم بأن يترك فيها أثرا أو يقدم لغيره نفعا. ولذلك تأتي أغلب هذه المذكرات ضحلة المضمون وقليلة الفائدة.
إننا نخشى أن تظل آثار الشيخ محمد الطاهر آيت علجت رحمه الله، كما بقيت آثار من سبقه من علماء الجزائر، مهملة غير مهتم بها من أحد، وتتعرض مع مرور السنوات للنسيان كما تعرضت آثار غيره قبل ذلك.
نداء
ولذلك فإنني، من هذا المنبر، أوجه نداء إلى البقية الباقية من العلماء العاملين والباحثين الجادين المخلصين في الجامعات الجزائرية، وما أقلهم، أدعوهم من خلاله إلى أن يحرصوا على توجيه طلبتهم إلى الاهتمام بتراث علماء الجزائر دراسة وتحقيقا وإخراجا في رسائلهم الجامعية، وأن يُكوِّنوهم نظريا وتطبيقيا بما يُمَكنهم من القيام بهذه المهمة على أحسن وجه وأتمه.
كما أتوجه بالنداء إلى مسؤولي مؤسسات الدولة المعنية بالفكر والثقافة في بلادنا، مثل وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، وزارة الثقافة، المجلس الإسلامي الأعلى، المجلس الأعلى للغة العربية، لأدعوهم إلى أن يشجعوا على جمع ونشر تراث علماء وأدباء ومفكري الجزائر، ويوفروا الإمكانات اللازمة للمهتمين بهذا التراث – على قلتهم – حتى يتمكنوا من جمعه وتحقيقه، وأن تتبنى هذه المؤسسات طباعة ونشر وتوزيع الأعمال التي ستنجز في هذا الإطار.
بهذا نخدم تراث علمائنا ونحيي ذكرهم ونصل بينهم وبين الأجيال الجديدة التي تأتي بعدهم، فتسلك مسالكهم وتسير على نهجهم، وتخدم الدين والعلم والوطن والأمة كما خدموهم.
السلام عليكم. ومساؤكم خير.
اللهم ارحم شيخنا الطاهر آيت علجت رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناتك.
أضم نداءي إلى نداء الشيخ عمار شرفة، وهو لا بد من الإهتمام بتراث علماء الجزائر، وإخراجه إلى النور، ليعرف قيمة علمائنا
العام والخاص داخل الوطن وخارجه، لذا أدعوا السلطات العليا للبلاد إلى تبني هذا المشروع الضخم، وهو جمع آثار كل علماء
الجزائر، أو على الأقل التعريف بهم، تحت عنوان ” علماء الجزائر المحروسة “.