إن المؤمن وإن كان أهلاً للسعادة الأخروية، إلا أنه لا ينال السعادة الدنيوية إلا إذا أخذ بالأسباب الدنيوية، ذلك أن قانونًا واحدًا يحكم السعادتين الدنيوية والأخروية، فكلاهما تحكمه قاعدة الأخذ بالأسباب طريقًا لتحصيل المسببات.
لهذا فالمهمل للأخذ بأسبابهما شقي في الدارين.
يحسن في مستهل هذا المقال الإشارة إلى ثلاث قضايا رئيسة:
القضية الأولى: يُعَدّ العلامة عبد الحميد بن باديس (1889-1940م)، الباعث الروحي لفكرة الاستقلال الحقيقي الذي يتجاوز السعي إلى تحرير المكان، بل يركّز كل جهده على تحرير القلوب والعقول من الاستعباد.
فقد جعل الله على يديه تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أسسها الشيخ يوم احتفال فرنسا بالذكرى المئوية لاستعمار الجزائر.
وفي تلك الأجواء، أعلن ابن باديس الحرب على فرنسا الاستعمارية، حتى قال رفيق دربه العلامة محمد البشير الإبراهيمي (1889-1965م): “لو تأخر ظهور جمعية العلماء عشرين سنة أخرى، لما وجدنا في الجزائر من يسمع صوتنا”.
وتميز أنموذج دعوته بتحديد الخلل بدقة متناهية، فيرى ابن باديس أن القرآن الكريم مازال بين ظهراني المتعبدين، ولكنه قليل الأثر في حياتهم الاجتماعية والتربوية والفكرية، بل وحتى الدينية نفسها..
لهذا تكمن المشكلة في التحول عن أصل ما جعل له القرآن الكريم، وهو جعل مقصد الهدائية أهمّ الغايات التي ينبغي على المسلم استجلاءها والعمل على معرفتها، ثم التحقق بها والعمل بمقتضاها في الحياة.
القضية الثانية: معلوم للمهتمين بعلوم الشريعة الإسلامية، أنّ مصطلح “الفقه” مما خص به علم الشريعة بمعناها الفني المتداول في فضاء هذا العلم، لكننا في هذا السياق نوظّفه بمعنى أوسع؛ فلا نقصد من مصطلح “الفقه” الاصطلاح المتداول في فضاء علوم الشريعة بمعناها الضيق (علم الفروع)، بل نروم توظيفه بمعنى دقة الفهم وفق الدلالة اللغوية الأصلية..
وبالتالي فإن من مقاصد هذا المقال، استشفاف بعض مواطن دقة فهم الإسلام بوصفه دينًا حضاريًّا يحث المنتسبين إليه حقًّا وصدقًا، بالالتزام بأحكام الدين -عقيدة وشريعة وأخلاقًا- المستفادة من الوحي (الكتاب والسنة الصحيحة)، مع حثهم بالقوة نفسها على الاستفادة من الخبرة العلمية لأسلافهم، ولكنها ليست بديلاً عن الدين، بل خادمة له، وهذه أهم ميزة في فقه ابن باديس.. فهو مع مالكيته الظاهرة ودرسه العقدي المميز عن الحرفية وما يقابلها في الوقت نفسه، فقيه استيعاب بالدرجة الأولى بامتياز، يدعو إلى استيعاب مجمل مكونات المجتمع الجزائري على اختلاف درجات التزامهم.
فتنة المسلم المتخلف بغيره المتقدم:
القضية الثالثة: تحاول الوقوف عند مرض فتنة المسلم المتخلف بغيره المتقدم، بقصد تجاوز الفكر غير السنني، وبالتالي غير العلمي، ولعل رأس تجليات هذه العقلية، انتظار المسلمين حل مشاكلهم دون التفكير في الأخذ بالأسباب لحلها، فيروق للمسلمين التمتع بالوعود الإلهية الواردة في القرآن والسنة، من وراثة الأرض والتمكين والغلبة… من غير أن يكلّفوا أنفسهم عناء التساؤل عن مقومات وراثة الأرض.
المتمعّن في فقه ابن باديس، يمتلئ قلبه بالإقرار بالثقافة السننية التي تضبط مسلكه في التفكير والتدبير، فليس من منهج الرجل صناعة الأوهام أو تخصيبها، لهذا تراه مصرًّا على أن يتدبر المسلم المتعلم بنفسه من خلال إجالة نظره فيما يقرأ ويسمع، لينتهي به التدبر إلى تمثّل الدين في شعاب الحياة..
ولهذا يريده أن يكون صاحب قراره، ولأجل تيسير تحقيق المراد يدعوه إلى تثمين حال حرية الإرادة التي خلق عليها، إذ أن الحر في إرادته هو الوحيد الذي يستطيع التعلم.
ورام العلامة ابن باديس، التأسيس النظري لفكرة التقدم في الضمير الجمعي للأمة، ولكي لا تكون معالجته وصفة مجرّدة ذكرها مشفوعة بالشهادة العملية التطبيقية القابلة للتنفيذ من قبل عموم المكلفين، كل في الفضاء الذي تخوّله له مؤهلاته.
يستفاد من أدبيات ابن باديس، أن فتنة المسلم المتأخر بغيره المتقدم نتيجة وليست مقدمة، فالتوقف الموضوعي يفرض العناية بتحليل المقدمات التي أفضت إلى هذه النتيجة، عوض المبالغة في التوقف عند الظواهر دون التفكير في أسبابها. لهذا نكتشف من أدبيات الرجل، التنبيه إلى السؤال المحوري الآتي:
ما أسباب فتنة المسلم المتأخر بغيره المتقدم؟
1- يستفاد من فقه ابن باديس قاعدة رئيسة مفادها “ليس كل ما جاء من المتقدم تقدّمًا، وليس كل ما جاء به المتخلف تخلفًا”..
تستشف هذه القاعدة من تأكيده على أن حال الأمم كحال الأفراد، فكما يفتتن الأفراد بعضهم ببعض، تفتتن الأمم بعضها ببعض، والأمة الإسلامية كغيرها من الأمم الضعيفة والمتخلفة، فتنت بغيرها من أمم الغرب، والدليل على ذلك أننا وبالرغم من كوننا ندين بالإسلام وهو دين السعادة الدنيوية والأخروية، ولكن حيثما كنا -إلا قليلاً- لسنا سعداء في مظاهر تديننا ولا أحوال دنيانا..
ففي الأولى، نأتي بما يبرأ منه الإسلام ونصرّح بأنه من صميمه.
والثانية، ترانا في حالة من الجهل والفقر والذل والاستعباد يرثي لها الجماد.
والمتمعّن في حال أمتنا من الغربيين ينفر من الإسلام فضلاً عن أهله، ويجعلونهم موضوعًا للسخرية، إلا مَن نظر منهم بعين العلم والإنصاف، فإنه يعرف أن ما نحن عليه هو ضد الإسلام، فكنَّا فتنة عظيمة عليهم وحجابًا كثيفًا لهم عن الإسلام.
ولا شك أن وقع الفارق الكبير بين الأمة الإسلامية والغرب من ناحية التقدم المادي و المعنوي في بعض الأحيان، أردى ببعضهم إلى قبول الأمالي في كل شؤون حياتهم المادية والمعنوية، وهم يرون أن أمم الغرب في عز وسيادة، وتقدم علمي وعمراني، والأمة التي شاعت عندها تلك الأحكام وعضّدتها شواهد الواقع المعيش، وخاصة إذا استصحبوا واقعهم الفقير فقرًا مدقعًا ماديًّا ومعنويًّا (دنيويًّا وأخرويًّا)، فيندفعون إلى تقليدهم في كل شيء حتى معائبهم ومفاسدهم، وازدراء كل شيء عندها حتى أعز عزيز، إلا مَن نظر بعين العلم، فعرف أن كل ما عندهم من خير هو عند الأمة في دينها وتاريخها.. وأن ذلك هو الذي تقدموا وسادوا به، وأن ما عندهم من شر هو شر على حقيقته، وأن ضرره فيهم هو ضرره في كل حال، وأنه لا يجوز أن يتابعوا عليه، فكانوا فتنة للأمة حتى ينظر مَن ينظر بعين الحق للحقائق.
وهكذا بيّن ابن باديس أن المحامد موجودة في الآخر، وانتماؤنا لخط الإيمان لا يجعلنا مبرئين من كل عيب، لهذا وجب التفكير قبل الإفادة منهم فيما يصلح من خبرتهم للتوظيف في العصر الراهن.
الأسباب، وسائل المسببات ولو اختلفت الاعتقادات:
إن الأمة مضت عليها أحقاب وهي من أهل السعادة الدنيوية والأخروية بإيمانهم وأعمالهم، ولما صاروا إلى ترك الأسباب الدنيوية لضعف إيمانهم، تولّد عنه أن ساءت أعمالهم وكثر إهمالهم، فلا لوم -إذن- إلا عليهم في كل ما يصيبهم، وربك يقضي بالحق وهو الفتاح العليم.
نتعلم من فقه ابن باديس قاعدة: “عموم النوال من الكبير المتعال” المستفادة من قوله تعالى: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاءِ وَهَـؤُلاءِ مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾(الإسراء:20-21).
ومقتضى هذه القاعدة، أن “الأسباب وسائل المسببات ولو اختلفت الاعتقادات”، مستدلًّا بقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(هود:15-16).
وزاد القاعدة شرحًا بقوله: “الأسباب الكونية التي وضعها الله تعالى في هذه الحياة وسائل لمسبباتها، موصلة مَن تمسّك بها إلى ما جعلت وسيلة إليه بمقتضى أمر الله وتقديره وسنته في نظام هذه الحياة والكون ولو كان ذلك المتمسّك بها لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر”..
ويزيد المسألة وضوحًا بتقرير مقتضيات إهمال هذه القاعدة: “فمن أهمل تلك الأسباب الكونية التقديرية الإلهية ولم يأخذ بها، لم ينل مسبباتها ولو كان من المؤمنين، وهذا معلوم ومشاهد من تاريخ البشر في ماضيهم وحاضرهم”.
ومن تجليات تطبيق هذه القاعدة أن المؤمن وإن كان أهلاً للسعادة الأخروية، إلا أنه لا ينال السعادة الدنيوية إلا إذا -وَفَقَطْ إذا- أخذ بالأسباب الدنيوية، ذلك أن قانونًا واحدًا يحكم السعادتين الدنيوية والأخروية، فكلاهما تحكمه قاعدة الأخذ بالأسباب طريقًا لتحصيل المسببات.
لهذا فالمهمل للأخذ بأسبابهما شقي في الدارين، والتارك للأخذ بها في إحدى الدارين كان شقيًّا فيها، سواء تعلّق الأمر بالدنيا أم بالآخرة.
وبناء على ما سلف، لا صلة للتخلف بالالتزام بالدين، بل العكس هو الصحيح، فإغفال أخذ الأسباب طريقًا لنيل المسببات، ميل عن سنة الله في الخلق، قال ابن باديس:
“فلا يفتتن المسلمون بعد علم هذا ما يرونه من حالهم وحال من لا يدين بدينهم، فإنه لم يكن تأخرهم لإيمانهم، بل بترك الأخذ بالأسباب، ولم يتقدم غيرهم بعدم إيمانهم، بل بأخذهم بأسباب التقدم في الحياة”.
والدليل أن الأمة مضت عليها أحقاب وهي من أهل السعادة الدنيوية والأخروية بإيمانهم وأعمالهم، ولما صاروا إلى ترك الأسباب الدنيوية لضعف إيمانهم، تولّد عنه أن ساءت أعمالهم وكثر إهمالهم، فلا لوم -إذن- إلا عليهم في كل ما يصيبهم، وربك يقضي بالحق وهو الفتاح العليم.
يستفاد من القاعدة السابقة قاعدة أخرى مفادها، أن “العصيان لا يمنع الرزق”، ويقصد به العصيان المتعلق بالتكاليف الشرعية، أما عصيان سنن الله في الخلق، فلا شك أنها مانعة من التنمية والتقدم، ذلك أن الله تعالى لا يمنع كافرًا لكفره أو عاصيًا للتكاليف الشرعية، من أن ينال من هذه الحياة بأسبابها، وما لم يمنعه الله لا يقدر أحد على منعه كائنًا مَن كان. وقد استفاد ابن باديس هذا المعنى من قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾(الإسراء:20).
والحظر: المنع، والمحظور: الممنوع، وتركيب الآية -كما قال ابن باديس- يفيد أن عطاء الرب لا يمنع، لأن من مقتضى ربوبيته دوام عطائه ومدده لعموم خلقه بعلمه وحكمته.
يكسب الأفراد والأمم والمجتمعات والدول والحضارات من الدنيا بقدر الأخذ بأسبابها، لا تخذل القوانين الكونية (سنن الله في الخلق) التي تضبط سير الحياة مَن دخلها من أبوابها وفق طريقة سننية.
من تمسّك بالسبب بلغ المسبِّب:
2- لعل من أهم امتدادات القاعدتين السابقتين قاعدة أخرى مفادها، أن “من تمسّك بالسبب بلغ المسبِّب”. لهذا فأسباب التقدم في مناحي الحياة، مبذولة لجميع الخلق بصرف النظر عن أديانهم أو ألوانهم أو جنسياتهم، فمن تمسّك بسبب بلغ -بإذن الله- إلى مسببه، سواء أكان مؤمنًا أم كافرًا.
ساد المسلمون العالَم ورفعوا علم المدنية الحقة بالعلوم والصنائع لما أخذوا بأسبابها كما يأمرهم دينهم، ولمّا أهملوا الأخذ بها تأخروا حتى كادوا يكونون دون الأمم كلها فخسروا دنياهم، وخالفوا مرضاة ربهم، وعوقبوا بما هم عليهم اليوم من الذل والانحطاط، بل تراهم يبذلون الغالي والنفيس للحفاظ على نماذج التخلف.
خسران الدنيا عند العزوف عن سنن الله:
وتلك نتيجة سننية لما آل إليه أمر تديّنهم بالمعنى العام، فكان من متطلبات هذا الفهم السقيم، الميل عن فهم سنن الله في الخلق واستجلاب النتائج ببناء المقدمات والسعي إلى تحقيقها في شعاب الحياة..
ومن فَرْط العزوف عن سنن الله في الخلق خسرنا الدنيا، لأننا فيها عالة على غيرنا (المأكل والملبس والمركب والدواء..)، وانتهينا إلى قبول الأمالي في فهم ديننا وتمثّل مبادئه، وبالمختصر المفيد؛ حصدنا ما زرعته أيدينا.
3- تتجلى القواعد السابقة من الناحية التطبيقية في قاعدة: “التفاضل بين الخلق بحسب فقه الحياة والعمران والاجتماع”. فإذا كان التفاضل الأخروي نتيجة سننية للأخذ بأسبابها الجعلية: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَشْكُوراً﴾(الإسراء:19)، تشير إليها الآية بالسعي لها، أي بسلوك الطريق المفضي إليها؛ فإن سنن الحياة الدنيوية محكومة مثل الحياة الأخروية بقانون الأسباب، أي من أراد الحياة الدنيا وسعى لها سعيها وفق سنن الله الجعلية فيها، فإنه ينال منها وفق بذله.
المسلم الذي فقه من الحياة أنها تحضير لما بعدها فقط مع ميل ظاهر عن فقه الرؤية الكلية التي تجعل من الحياة مزرعة للآخرة، مال عن العناية بأسباب الظهور في الحياة الدنيا، بالرغم من أن من أهمّ تجليات القوة الدينية وبواعث استقلالها وفعاليتها، القوة الدنيوية.
فيظهر جليًّا أن التفاضل بين البشر والأمم والمجتمعات والدول له أسبابه السننية، ولم يكن أمرًا عبثيًّا أو عقلية خرافية تنتظر أن تقوم قوى غيبية بدلاً عنها أو دونها في عالم الشهادة. فعالم الشهادة له قوانينه وسننه التي تحكمه، وهذا لا يغني على الإطلاق عن حسن التوكل، بل هو عين التوكل، لأنه أخذ بالأسباب. فقد ورد في الحديث عن أنس بن مالك قال: “قال رجل يا رسول الله: أَعْقِلُها وأتوكَّل أو أُطْلِقُها وأتوكل قال: اعْقِلْها وتوكلْ” (رواه الترمذي).
والمدد الغيبي يناله العاملون الساعون في شعاب الحياة، ولا يناله البطالون والكسالى والعبثيون والعابثون، مثلما لا ينال التقدم من أهمل أسبابه.
4- ليس القصد من القاعدة السابقة، حشو الرؤوس بمعرفة نظرية إضافية، بل القصد منها اكتشاف أسباب التفاضل بين الخلق، والذي يمكن أن يعبّر عنه بقاعدة: “سنن السعادة الدنيوية مَن اكتشفها وعمل بها أبلغته النتائج”. ولعل من أعظم العبر ما نشاهده في أحوال الخلق، نرى تمايزًا شديدًا بين الأمم والجماعات والأفراد، فالتفاضل بينهم نتيجة سننية، ذلك أنها نتيجة لفقه أسباب هذا التفضيل، والتي ترجع في أصل وضعها إلى فقه الحياة والعمران والاجتماع، ولهذا أمر تعالى بالنظر في أحوال هذا التفضيل بقوله:
﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾(الإسراء:21)، و”كيف” سؤال عن الأحوال، والنظر المأمور به هو نظر القلب بالفكرة والاعتبار، وسؤال الكيفيات، سؤال عن الأسباب التي أبلغتهم تلك النتائج المبهرة في التنمية الشاملة.
ومما سلف بيانه، أن السعي إلى نيل السعادتين (الأخروية والدنيوية)، من أهم القضايا التي كانت شغلت ابن باديس، ولهذا أراد من الأمة أن تتعلم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن السعادة الدنيوية كالسعادة الأخروية، لا طريق لها غير السعي لها، ولا يمكن أن تسعى إليها بغير اكتشاف القوانين والسنن التي تحكمها.
يا من تريد نيل المسلمين السعادتين، ولاسيما السعادة الدنيوية؛ أنقل إليك ما ذكره ابن باديس موجّهًا خطابه إلى المسلمين قاطبة: “لن يعود إليكم ما كان لكم، إلا إذا عدتم إلى امتثال أمر ربكم في الأخذ بتلك الأسباب، فهذه الآية:
﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾(الإسراء:20)
من أنجع الدواء لفتنة المسلم المتأخر بغيره المتقدم، لما فيها من بيان؛ أن المسلم ما تأخر بسبب إسلامه، وأن غيره تقدم بعدم إسلامه، لأن السبب في التقدم والتأخر، هو التمسك أو الترك للأسباب، لو أن المسلم تمسّك بها -كما يأمره الإسلام- لكان – مثل سالف أيامه- سيد الأنام.