تمهيد:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
في ظل الموجات الاستدمارية التي اكتسحت العالم العربي والاسلامي في العصر الحديث، وبفعل السياسة المنتهجة من التفقير العلمي والتجويع الحضاري، ومع تصاعد الأزمات المتعددة الجوانب؛ نشأ رجال في الأقطار المتباعدة، يهدفون إلى التصدي لضربات التجهيل والزحف المتجني، قاصدين استرجاع الحقّ المسلوب، والانتعاش الفكري التجديدي.
خلال هذه الصراع المتفاقم برز عبد الحميد بن باديس في الجزائر كحلقة في سلسلة الإصلاحات، ثائرًا على الجمود، وناقمًا على الجاهلية، فأنشأ نهضة إصلاحية هدّت عرش الطغيان، وصنم التقليد؛ سيفُهُ القرآن، ودرعُهُ القرآن، وزادُهُ القرآن، ينادي بثلاثية المبدأ؛ الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا، متوسلًا بالتعليم المسجدي والمكتبي، والصحافة، والنادي، والجمعية، والكشافة، موحدًا الجهود، وأمتن جسر تذرّع به التفسير الحديث.
كان التفسير الباديسي عمّالًا بالليل والنهار على مدى خمس وعشرين سنة، يخطو بالأمة من مشهودية الواقع إلى شاهدية الموقع، لم يكن همّه تحرير تأويل جديد، بل تأليف جند من حديد -ممتدًا غرب البلاد وجنوبها انطلاقًا من الجامع الأخضر بقسنطينة-؛ فضاع التراث من غير تدوين، ولم تضع معه الصيحة المدوية في المآذن والأسماع، ومن توفيق الله تعالى أن حفظ لنا نزرًا من تفسيراته كان يصدرها في مجلته «الشهاب» على شكل مقالٍ يناسب الواقع المعاش، فسلمت من الضياع، ثم جمعت بعد وفاته بسنوات في سفر مستقلّ تحت العنوان الذي كان يعنون به، وهو: (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير)، وعبثًا أستنطق النصَّ المدروس أملًا في تناغمه مع المنهجية المصطلحية، وإنما أرتشف بين سطوره نبعًا تجديديًّا، وأتلمّس في عباراته ومضامينه قوة دافعةً صانعةً. كان حاضر الغزو في أوج كبريائه، فقذف بشهبه استراق المؤولين، وأحيا بهداياته قلوب الناشئين على أحسن بيان وأوضح مقال.
وكشفًا للمغطّى، جاءت هذه المحاولة منّي بيانًا لجهود الرائد ابن باديس في دراسة المصطلح القرآني من خلال تفسيره، فكان الموضوع: «جهود المدرسة الإصلاحية الجزائرية في دراسة المصطلح القرآني -تفسير ابن باديس أنموذجًا-»؛ وذلك من خلال مدخل تمهيدي، وأربعة مباحث، وخاتمة.
تتوزع عناصر المباحث كالآتي:
المبحث الأول: ظروف ودوافع نشأة حركة الإصلاح في الجزائر ومقاصدها.
المبحث الثاني: مساعي ابن باديس في تجديد الدرس التفسيري بين النقد والتوظيف.
المبحث الثالث: عنايته بإقامة المصطلح القرآني وما يقتضيه.
المبحث الرابع: معالم في مدى اهتمامه بمنهج الدراسة المصطلحية.
وفي الأخير خاتمة فيها أهم التوصيات والنتائج.
والهدف من كلّ ما سبق توضيحه يتجلى في بيان مركزية الجهد على القرآن عمومًا، والمقال التفسيري خصوصًا، والمصطلح الأصل بصورة أخصّ، في تنبيه الراقدين وصناعة مستقبل الأمة الجزائرية، التي ما إن انتهجت طريقهُ في بناء الصرح حتى توّجت بالحرية، فكان بحقّ ردًّا على مزاعم وأطماع فرنسا التي نطق أحد جنرالاتها قائلًا: «علينا أن نخلص هذا الشعب ونحرره من القرآن»، وكانت خطى ابن باديس حجر الأساس في سحق أقوى حيوان مسلح في ذلك الوقت، ولو قدّر له التأخر لكتب تاريخ غير الذي نقرؤه، فالواجب علينا استنساخ الجهود، وإعادة تفعيلها بتطعيمها وصبغها بالمنهجية المصطلحية لقهر العصرنة والتغريب الدخيل الذي تسلّل من تشويه المفاهيم، ولا أدلّ على ذلك من مصطلح الاستعمار الذي أخرجه الاستدمار من المفهوم القرآني الجميل ودنّسه بإطلاقه عليه، ومصطلح الجهاد الذي له سمات دلالية خاصّة في الحقل الشرعي حيث جعله لصيقًا به، وشوّه الأصل باستبداله الخارجون عن القانون.
وليس الشأن في أن نبارك الجهود بالتصفيق والتزويق؛ بل إشكال الإشكال في مواصلة الطريق على المنهج القويم بنظارة الإبصار للمصطلحات القرآنية الأصلية، شعارنا التبيّن والبيان، وسرّ صناعتنا مفتاح المفتاح.
المبحث الأول: ظروف ودوافع نشأة حركة الإصلاح في الجزائر ومقاصدها (الخلفية التاريخية):
تنامت أطماع فرنسا في الجزائر بعد تراكم الديون عليها، واهتماماتها بالشواطئ الساحلية، وتعاظم الفكرة التبشيرية، وما تبعها من مصالح سياسية واقتصادية أخرى، فتحايلت على الداي بإغضابه واغتنام تصرفه السيء، حيث استفسر القنصلَ الفرنسي أمام قناصل الدول الأجنبية عن عدم جوابهم على رسائله، فكان ردّ القنصل استفزازيًّا بقوله: «إن للملك أمورًا أخرى يقوم بها عوض أن يكتب لرجل مثلك»، فثارت حمية الداي، وأمره بالخروج مشيرًا بمروحته، فما كان من كيد فرنسا المهانة إلا المطالبة بالتعويض والاعتذار، ثم إعلان الحصار وتجريد حملة عسكرية، وكان الإنزال يوم 14 جوان 1830م بشاطئ سيدي فرج غرب العاصمة، وإن كانت نية الاحتلال قديمة؛ حيث كشفت الوثائق عن مشاريع ترجع إلى سنة 1729م، بل قبلها مع الحملات المنظّمة من مختلف دول الساحل على البلاد التي كانت تعرقل لهم سفنهم([1]).
ظنّت فرنسا أنها ستبسط نفوذها في أيام معدودة على هذه المنطقة الجغرافية من العالم التي تداولت عليها الدول والشعوب من الفينيقيين حتى الفرنسيين، وأن سكانها قبائل متنافرة تخوض حروبًا مستميتة، ولا تُخضعها إلا القوى كالرومان والأتراك وفرنسا([2])، حتى اغتر الجنرال (دي بورمون) فكتب يقول لحكومته: «إنّ العرب ينظرون إلينا كمحررين لهم، وإنّ الجزائر ستصبح مفتوحة كلّها وتحت نفوذنا قبل مضي خمسة عشر يومًا»([3]).
ولكن خاب ظنهم، وأظهر الشعب الجزائري رفضه المطلق للاستعمار، واتخذ هذا الإنكار اتجاهين: اتجاه المقاومة السياسية؛ وهم أهل الحضر الطامحين في السلطة، وأنصار التيار العثماني والتيار الفرنسي الذي دخل في خدمة الاحتلال، واتجاه المقاومة المسلحة التي أعلنها زعماء القبائل والأعيان ورجال الدين، وقد بدأت على شكل ردود فعل أوليّة مشتتة تعرف بمقاومة أرياف المتيجة، ثم توزّعت المقاومة على شرق البلاد وغربها في مقاومات وثورات منظمة، ألحقت هزائم ساحقة بالجيش الفرنسي، كثورة أحمد باي، والأمير عبد القادر، كما عرفت المقاومة الجهادية مقاومات شعبية جهوية أقلّ تنظيمًا ابتداء من سنة 1848م؛ منها: ثورة الزعاطشة، ومقاومة منطقة القبائل (ثورات: بومعزة، بوبغلة، لآلا فاطمة نسومر)، ثورة المقراني والشيخ الحداد، ثورة أولاد سيدي الشيخ، ثورة الشيخ بوعمامة، ومقاومات الجنوب والصحراء.
إلى جانب التوسّع الجغرافي بقمع الانتفاضات الناشبة في الأرض البركانية، كانت فرنسا تحيك سياسة تخريبية في معاملة الجنس الذي يقف في وجهها، فأثارت النّعرة الطائفية بين العرب والبربر، وشوّهت الدين، ومسخت العربية، وأحرقت المخطوطات، وقتلت ونفت العلماء المعارضين، وصادرت الأوقاف الاسلامية، وحوّلت المساجد إلى كنائس، وفرضت الضرائب، ولم يكن لها همّ إلا في تدمير معالم الثقافة والفكر، منتهجة التجويع والتجهيل والترحيل، وسياسة الإدماج والاستيطان والفرنسة، على قاعدة: الصليب يحطم الهلال، وفرنسا تحتمل عشرة هزائم في أي مكان من العالم، ولا تحتمل هزيمة واحدة في الجزائر.
كانت النتائج قاسية على الشعب الأعزل، وصفها الأمين العمودي بقوله: «أما حياتي فحياة كلّ مسلم جزائري، حياة بلا غاية ولا أمل، حياة من يأسف على أمسه، ولا يغبط بيومه، ولا يثق في غده، تلك حياتي من يوم عرفت الحياة، لم أظفر بعقد هدنة مع الدهر الذي أشهر عليَّ حربًا عوانًا لا أدري متى يكون انتهاؤها، ولا أظن أن يكون لها انتهاء؛ لأن هذا العدوّ القويّ الظلوم الجائر الغشوم لا يمسك عنّي إحدى يديه إلا ليصفعني بالأخرى»([4]).
أثمر الاضطهاد بوادر وعي وإرهاصات تحررية، تمثلت في خيار الكفاح السياسي السّلمي على يد حركة الشبان المثقفين؛ حيث كانت تمهيدًا لظهور الحركة الوطنية الجزائرية التي تأصلّت وتقوّت بعد الحرب العالمية الأولى، وتميزت بثلاثة تيارات: المحافظون، الليبراليون، الإصلاحيون، ثم برز المشهد السياسي مع نهاية عقد العشرينيات في توجهات مختلفة؛ المنتخبون، العلماء، الشيوعيون، الثوريون([5]).
بدأت الحركة الوطنية بحملة من أجل اليقظة والمحافظة على الخصائص الذاتية للجزائر، وانتهت بظهور الاتجاه الانفصالي الذي يرفض كلّ مساومة([6])، ولقد كان الاتجاه الإصلاحي الديني قديم النشأة، عرف اختمارًا بجهود فردية، حيث ظهرت «بوار النهضة العلمية والإصلاحية الحديثة على يد جماعة من العلماء، أمثال: صالح بن مهنا، حمدان لونيسي، عبد القادر المجَّاوي، محمد بن مصطفى بن الخوجة، عبد الحليم بن سماية»([7])، محمد بن محمود بن العنابي، محمد بن علي السنوسي، محمد بن رحال، المولود بن الموهوب؛ ويرجع ذلك إلى عدة أسباب، منها:
1- عودة الطلبة الذين درسوا في الخارج.
2- الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي.
ولكن الواحد لا يدحر المستعمر ويجليه، ولابدّ من اتحاد العلماء تحت هيئة وطنية ليكتسب العمل صبغة عامة، فظلّت الجهود مشتتة حتى جاء الإمام المصلح عبد الحميد بن باديس، فوصل الصفوف ووحّد السواعد.
كانت الأوساط الإصلاحية في ذلك الوقت يتجاذبها رأيان في المظهر العملي، أحدهما: صرف القوة كلها إلى التعليم المثمر، حتى إذا كثر سواد هذه الطائفة استخدمت في الحملة على الباطل، والرأي الثاني: أخذ المبطلين مغافصة، وإسماع العامة المغرورة صوت الحق فصيحًا غير مجمجم، فالشدة أحزم، وقد رجح الرأي الثاني لمقتضيات لله من ورائها حكمة، فأنشئت جريدة (المنتقد) بقسنطينة ردًّا على فكرة: اعتقد ولا تنتقد، ثم خلفها جريدة (الشهاب) بعد تعطيلها، ثم أسست جريدة (الإصلاح) ببسكرة، ثم تطور (الشهاب) الأسبوعي، فأصبح مجلة شهرية، استلمَت قيادة الحركة من أول يوم، وورثت الأقلام التي كانت تكتب في الجرائد قبلها، وإلى جنب الحركة القلمية كانت حركة أخرى تسايرها وتؤازرها وتغذيها، وهي حركة التعليم التي انتشرت بالمراكز المهمّة من عمالة قسنطينة، فدروس العلم كانت تجتذب أفواجًا من الشباب، ودروس الوعظ والإرشاد كانت تجتذب الجماهير إلى حظيرة الإصلاح، وتحدث كلّ يوم ثغرة في صفوف الضلال، وقد تلاقت الحركتان على أمر قد قُدر، فكان الأمر هو تأسيس (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين)([8]).
لم يكن باديسُ فيلسوفًا فيرى الحياة (شرًّا وخيرًا)، وليس هو بشاعر فيراها (دمعة وابتسامة)، وما هو بمحب فيراها (فرقة ولقيا)، ليس باديس بأحد هؤلاء، ولكنه وارث من ورثة الأنبياء الذين لا يرون الحياة إلا جهادًا وانتصارًا، هكذا كان باديس يرى الحياة، وعلى مقتضى ذلك فعل؛ فقد جاهد جهاد الأنبياء، وانتصر انتصار الأنبياء([9])، لقد بدأت معجزة البعث تتدفق من كلماته، فكانت ساعة اليقظة، وبدأ الشعب الجزائري المخدّر يتحرك، ويا لها من يقظة جميلة مباركة، يقظة شعب ما زالت مقلتاه مشحونتين بالنوم، فتحولت المناجاة إلى خطب ومحادثات ومناقشات وجدل، وهكذا استيقظ المعنى الجماعي، وتحولت مناجاة الفرد إلى حديث الشعب([10]).
تولى رئاسة الجمعية عبد الحميد بن باديس، وانتخب البشير الإبراهيمي نائبًا له، وضمت في أعضائها كوكبة من المصلحين والعلماء السلفيين، أمثال: المبارك الميلي، العربي التبسي، الطيب العقبي، الأمين العمودي، السعيد الزاهري، وكان تاريخ تأسيسها يوم (5) ماي سنة 1931م بنادي الترقي، في الفترة التي احتفل فيها الفرنسيون بمرور قرن على استعمار الجزائر، وأقاموا مهرجانات استفزازية، وخطب تنصيرية متطرفة، بلغ بها الحدُّ قولَهم: إنا لا نحتفل بمرور مائة سنة، بل نحتفل بتشييع جنازة الإسلام في الجزائر.
كانت الجمعية من الناحية الفكرية على الأقل، عبارة عن (دولة داخل دولة)، وكان العاملون فيها يحسّون بكلّ صدق أنهم ليسوا أناسًا كالناس، ولكنهم كانوا جنودًا في معركة وراءها -إذا اكتسبوها- النصر والعزة للوطن والإسلام والعروبة([11]).
تمثلت أركان الجمعية فيما ذكره ابن باديس في جريدة البصائر؛ لسان حال الجمعية بقوله: «العروبة، والإسلام، والعلم،والفضيلة، هذه أركان نهضتنا، وأركان جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي هي مبعث حياتنا، ورمز نهضتنا، فما زالت هذه الجمعية منذ كانت تفقهنا في الدين، وتعلمنا اللغة، وتنيرنا بالعلم، وتحلينا بالأخلاق الإسلامية العالية، وتحفظ علينا جنسيتنا، وقوميتنا، وتربطنا بوطنيتنا الإسلامية الصادقة»([12]).
أما أهدافها، فيمكن تلخيصها في: محاربة الخرافات والبدع، وبعث نهضة دينية تقوم أساسًا على القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، نشر التعليم وخاصة اللغة العربية، محاربة الآفات الاجتماعية، المحافظة على الشخصية الجزائرية. هذا وقد لخصت الجمعية أهدافها في شعارها المشهور: الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا([13]).
قابلت السلطات الفرنسية الجمعية بالتضييق، وقد رصدت تطوراتها بخوف وقلق شديدين، وها هي شهادة إحدى جرائدها(L’Echo De Paris) ، إذ تقول: «إنّ الحركة التي يقوم بها العلماء المسلمون في الجزائر أكثر خطرًا من الحركات التي قامت حتى الآن؛ لأن العلماء المسلمين يرمون من وراء حركتهم هذه إلى هدفين كبيرين، الأول سياسي، والثاني ديني، والعلماء المسلمون المثقفون هم العالمون بأمور الدين الإسلامي وفلسفته، والواقفون على أمور معتقداته، فهم لا يَسْعَون إلى إدماج الجزائر بفرنسا، بل يفتشون في القرآن نفسه عن مبادئ استقلالهم السياسي»([14]).
أما التحقيق العسكري بشأن مؤسسها؛ فأكتفي بما سجّله محمود عبدون في كتابه بالفرنسية، إذ يقول: «بينما أنا أيام الحرب العالمية الثانية بالجنوب التونسي قريبًا من خط مارث الذي أقامته فرنسا في الحدود التونسية الليبية، وبما أني من حراس بعض المكاتب، قررتُ يومًا أن أطلع على وثائق الضابط المكلف بالتموين (l’intendant)، فعثرت على وثيقة رسمية «جد سرية» تصنف الشخصيات السياسية الجزائرية الأكثر خطورة على السيادة الفرنسية، ولَكَم كانت دهشتي عظيمة إذ وجدت ابن باديس على رأس القائمة، متبوعًا بمصالي، وبحزب الشعب»([15]).
ولئن كان الحديث عن وسائل النهضة، فالحديث عن تفسير ابن باديس هو أول الحاضرين في قائمة البرنامج الإصلاحي؛ حيث كان امتدادًا لسلسلة النهضة العربية، وأقوى مضرب في مدفعها، شرع فيه بعد عودته من الحجاز سنة 1913م، وختمه سنة 1938م، وما قاله الإبراهيمي في حفل اختتام التفسير خير شاهد، إذ يقول: «…ثمّ جاء إمام النّهضة بلا منازع، وفارس الحلبة بلا مدافع، الأستاذ الإمام “محمّد عبده”، فجلا بدروسه في تفسير كتاب اللّه عن حقائقه التي حام حولها من سبقه ولم يقع عليها، وكانت تلك الدّروس آية على أنّ القرآن لا يفسّر إلا بلسانين: لسان العرب ولسان الزّمان… وبه وبشيخه “جمال الدّين” استحكمت هذه النّهضة واستمرّ مريرها، ثمّ جاء الشّيخ “محمد رشيد رضا” جاريًا على ذلك النّهج الذي نهجه “محمّد عبده” في تفسـير القرآن، كما جاء شارحًا لآرائه وحكمته وفلسفته في الدّين والأخلاق والاجتماع([16])، ثمّ جاء أخونا وصديقنا الأستاذ الشّيخ “عبد الحميد بن باديس” قائد تلك النّهضة في الجزائر بتفسيره لكلام اللّه على تلك الطّريقة، وهو ممّن لا يقصر على من ذكرناهم في استكمال وسائلها، من ملكة بيانية راسخة، وسعة اطلاع على السّنة، وتفقّه فيها، وغوص على أسرارها، وإحاطة وباع مديد في علم الاجتماع البشري وعوارضه، وإلمام بمنتجات العقول ومستحدثات الاختراع ومستجدّات العمران، يمدّ ذلك كلّه قوّة خطابية قليلة النّظير، وقلم كاتب لا تفل له شباه…»([17]).
بدأت الصحوة الإصلاحية مشتتة بجهود فردية، ثم تطورت لتصبح حركة وطنية بعد الحرب العالمية على يد ابن باديس وطائفة من العلماء، ثم تقوّت فأضحت ممثلة في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
المبحث الثاني: مساعي ابن باديس في تجديد الدرس التفسيري بين النقد والتوظيف:
إذا كان التجديد في الدين هو إصلاح حال الأمة بإحياء ما اندرس من الدين، ونفي كلّ دخيل عنه، وتطبيقه في جميع مجالات الحياة([18])؛ فإن التجديد في التفسير يقوم على تقديم فهوم القرآن للناس في ضوء أحوالهم وظروفهم، وبما يتناسب مع معطياتهم الواقعية ليكون التفسير قادرًا على إسعاف البشرية بما تحتاج إليه، وما يصلح حالها، وما تطلبه لتحسين ظروفها([19]).
ولا يعني بالضرورة أن يكون التجديد في التفسير مرادفًا للإتيان بالجديد الذي لم يسبق إليه، بل هو شامل أيضًا «لفهمه كما يفهم أول مرة، وكأنه جديد يتنزّل، قد جرّد من تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين عبر القرون، وما أكثر ما لفّت القرون من خِرق، وشوّهت من مفاهيم، بعد خير القرون!»([20]).
كان الإمام ابن باديس يعي فكرة التجديد منذ كان طالبًا، قد تبرّم من التحريفات التي شوّهت الأصل حتى غدا مرتعًا لكلّ منتحل، ولكن غشاوة التقليد غطّت عنه الصحيح من المفهوم، حتى ذاكر شيخه ذات مرة، فأزال عنه الغشاوة، كما ذكر ذلك في نهاية حفل اختتامه للتفسير سنة 1938م في سياق إرجاع الفضل لكلّ من كان عونًا له في تربيته، حيث قال: «ثم لمشائخي الذين علموني العلم، وخطوا لي مناهج العمل في الحياة، ولم يبخسوا استعدادي حقّه، وأذكر منهم رجلين لهما الأثر البليغ في تربيتي، وفي حياتي العملية، وهما من مشائخي، اللذان تجاوزا بي حدّ التعلم المعهود إلى التربية والتثقيف، والأخذ باليد إلى الغايات المثلى في الحياة؛ أحد الرجلين: الشيخ حمدان الونيسي القسنطيني، نزيل المدينة المنورة ودفينها، وثانيهما: الشيخ محمد النخلي، المدرس بجامع الزيتونة المعمور، رحمهما الله»، ثم بعد ذكر وصية الأول؛ قال: «وأذكر للثاني كلمة لا يقلّ أثرها في ناحيتي العلمية عن أثر تلك الوصية في ناحيتي العملية، وذلك أني كنت متبرمًا بأساليب المفسرين، وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية، واصطلاحاتهم المذهبية في كلام الله، ضيق الصدر من اختلافهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن، وكانت على ذهني بقية غشاوة من التقليد واحترام آراء الرجال حتى في دين الله وكتاب الله، فذاكرتُ يومًا الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق، فقال لي: «اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، وهذه الآراء المضطربة؛ يسقط الساقط، ويبقي الصحيح وتسترح»، فوالله لقد فتح بهذه الكلمة عن ذهني آفاقًا واسعة لا عهد له بها»([21]).
هذه القاعدة الذهبية التي حرص على أن ينقلها للمحتفِلين كتذكار للمنهج الذي تبناه في مسيرته التفسيرية، وكوصية لمن رام التأويل؛ تعد الأصل في تجديداته التي طبقها على التراث التفسيري، ومن خلال استقراء ما دوّنه يمكن أن نغوص في عمق التجديد من خلال خاصيتين: النقد، والتوظيف.
كانت السمة البارزة على تحليلاته، وأثناء استلهام الدروس من الآيات القرآنية، حيث تشخصّت في:
طريقة تعاطي التفسير: لا تكاد تمر آية إلا وحاول قدر طاقته أن يحييها ويستخرج منها الهداية والإصلاح، منبّهًا على احتواء القرآن لحلول جميع المشاكل التي ترضخ فيها الأمة الإسلامية، ومن أهم المخلّفات الرجعية طريقة تعاطي التفسير، الطويلة الذيل، القليلة النيل، وقد استعرض الإمام الحالة المتردية أثناء تناوله لقوله تعالى:{لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ}[الفرقان:16] بالشرح؛ حيث قال: «ونحن معشر المسلمين، قد كان منا للقرآن العظيم هجر كثير في الزمان الطويل، وإن كنا به مؤمنين…ودعانا القرآن إلى تدبره وتفهمه والتفكر في آياته، ولا يتم ذلك إلا بتفسيره وتبيينه، فأعرضنا عن ذلك وهجرنا تفسيره وتبيينه، فترى الطالب يفني حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية دون أن يكون قد طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير، كتفسير الجلالين مثلًا، بل ويصير مدرسًا متصدرًا ولم يفعل ذلك، وفي جامع الزيتونة -عمره الله تعالى- إذا حضر الطالب بعد تحصيل التطويع في درس تفسير فإنه -ويا للمصيبة- يقع في خصومات لفظية بين الشيخ عبد الحكيم وأصحابه في القواعد التي كان يحسب أنه فرغ منها من قبل، فيقضي في خصومة من الخصومات أيامًا أو شهورًا، فتنتهي السنة وهو لا يزال حيث ابتدأ أو ما تجاوزه إلا قليلًا دون أن يحصل على شيء من حقيقة التفسير، وإنما قضى سَنَتَهُ في المماحكات بدعوى أنها تطبيقات للقواعد على الآيات، كأن التفسير إنما يقرأ لأجل تطبيق القواعد الآلية لا لأجل فهم الشرائع والأحكام الإلهية، فهذا هجر آخر للقرآن، مع أن أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم في خدمة القرآن»([22]).
مناهج تدريس التفسير: دعا ابن باديس إلى ضرورة استعمال العقل بالتبيّن والبيان؛ حيث قال في معرض كلامه عن مدينة سبأ العربية: «الآيات صريحة في أن مدينة سبأ كانت مدينة زاهرة مستكملة الأدوات، ومن قرأ القرآن بعقله فهم ما نفهم من آياته، وعلم كما نعلم أن مدن سبأ كانت عامرة بالبساتين عن يمين وشمال»([23])، منصفًا العرب في حضارتهم التاريخية انطلاقا من تعقّل الآيات وحدها.
ونهى عن جمود الفكر، وغلبة التقليد، وتحكيم الآراء من غير تدبّر في معانيها، موجّهًا الأبصار، ومقوّمًا الفهوم، ناقدًا ومربيًا؛ إذ قال: «والعلماء القوامون على كتاب الله وسنة رسوله لا يتلقونهما بالفكر الخامد والفهم الجامد، وإنما يترقبون من سنن الله في الكون وتدبيره في الاجتماع ما يكشف لهم عن حقائقهما، ويكلون إلى الزمن وأطواره تفسير ما عجزت عنه أفهامهم، وقد أثر عن جماعة من فقهاء الصحابة بالقرآن قولهم في بعض هذه الآيات: لم يأت مصداقها أو تأويلها بعد؛ يعنون أنه آتٍ، وأنّ الآتي به حوادث الزمان، ووقائع الأكوان، وكلّ عالم بعدهم فإنما يعطي صورة زمنه بعد أن يكيف بها نفسه»([24]).
كما جَدّد منهج التدريس بالنقد في توجيهه بأن الآيات وما تحمله من أسرارٍ ومعانٍ كفيلة بتعليم الناس عقائدهم، بعيدًا عن الذين يحشرون تفاسيرهم بمصطلحات علم الكلام، ظانّين أنها المعوّل في تجلية الضباب عن الأعين، وأن القرآن قاصر عن إبلاغ المفاهيم التامة، قد حكموا صناعاتهم الغالبة عليهم، فقال -رحمه الله-: «أدلة العقائد مبسوطة كلّها في القرآن العظيم بغاية البيان، ونهاية التيسير… فحقّ على أهل العلم أن يقوموا بتعليم العامة لعقائدها الدينية، وأدلة تلك العقائد من القرآن العظيم؛ إذ يجب على كلّ مكلّف أن يكون في كلّ عقيدة من عقائده الدينية على علم، ولن يجد العامي الأدلة لعقائده سهلة قريبة إلّا في كتاب الله، فهو الذي يجب على أهل العلم أن يرجعوا في تعليم العقائد للمسلمين إليه، أما الإعراض عن أدلة القرآن والذهاب مع أدلة المتكلمين الصعبة ذات العبارات الاصطلاحية، فإنه من الهجر لكتاب الله، وتصعيب طريق العلم إلى عباده وهم في أشد الحاجة إليه، لقد كان من نتيجة هذا ما نراه اليوم في عامة المسلمين من الجهل بعقائد الإسلام وحقائقه»([25]).
ولَكَم اعترض طريقه بعض غلاة المتصوفة، محرّفين ومشوّهين، عن قصد أو عن جهل، فبيّن عوارهم، وانتقد طريقهم بالحجة الدامغة والدليل الساطع، كما حدث مع الشيخ المولود الحافظي([26])، الذي ادّعى أن العبادة دون رجاء ثواب ولا خوف عقاب هي أكمل العبادات، فأنكر مقالته في بيان قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}[الفرقان:65].
فنشر الأخير ردًّا عليه، ثم عاد ابن باديس للآية ناقدًا ومستدلًّا بمزيد بيان، وذكر منهجه الفاسد بقوله: «وبعد أن مضى على ذلك ثلاثة أشهر كاملة، نشر الشيخ المولود الحافظي مقالًا ردًّا علينا دون أن يذكر جميع أدلتنا، ودون أن يتعرض لنقضها في سندها، أو متنها، أو عدم انطباقها، أو إفادتها لما سيقت لإفادته، ودون أن يعارضها بمثلها في الرتبة والدلالة، وأطال بما بعضه خارج عن محل النزاع، وبعضه هو نفس الدعوى المحتاجة إلى الاستدلال»، ثم أفاض -رحمه الله- في رحاب الآية([27]).
ولقد قسّم ابن باديس التفسير الإشاري إلى نوعين: مقبول، ومرفوض، واعتبر التفسير الإشاري المقبول من أجلّ علوم القرآن وذخائره التي يحرص عليها المفسّر لكلام الله، ولذلك وبعد إيراده لنموذج من التفسير الإشاري المقبول، قال([28]): «مثل هذه المعاني الدقيقة القرآنية الجليلة النفيسة من مثل هذا الإمام الجليل من أجل علوم القرآن وذخائره؛ إذ هي معاني صحيحة في نفسها، ومأخوذة من التركيب القرآني أخذًا عربيًّا صحيحًا، ولها ما يشهد لها من أدلة الشرع، وكلّ ما استجمع هذه الشروط الثلاثة فهو صحيح مقبول، ومنه فهم عمر وابن عباس -رضي الله عنهما- أَجَلَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سورة النصر، أما ما لم تتوفر فيه الشروط المذكورة وخصوصًا الأول والثاني؛ فهو لا يجوز في تفسير كلام الله، وهو كثير في التفاسير المنسوبة لبعض الصوفية، كتفسير ابن عبد الرحمن السلمي من المتقدمين، والتفسير المنسوب لابن عربي من المتأخرين»([29])، هذا في بيان الأسس السليمة وضدها أثناء العملية الاجتهادية.
ومن بين ما نقده على بعض المفسرين في مناهجهم؛ كثرة استطرادهم بالإسرائيليات التي تضيع معها الهداية في وسط ذلك الركام من الأحاديث المكذوبة التي لا ينتفع معها الدارس، ذَكَرَ ذلك كتحقيق تاريخي في روايات عظم ملك سليمان؛ حيث قال: «رويت في عظم ملك سليمان روايات كثيرة ليست على شيء من الصحة، ومعظمها من الإسرائيليات الباطلة التي امتلأت بها كتب التفسير مما تلقى من غير تثبت ولا تمحيص من روايات كعب الأحبار ووهب بن منبه»([30]).
كما نقد تساهل بعض المفسرين في إيرادهم ما لم يصح، خاصة مع وجود ما فيه غنية عن غيره، وذلك أثناء تفسيره للمعوذات وسحر النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال -رحمه الله-: «وحديث مسلم هو أصحّ ما ورد في نزولهما، وأما ما يذكر في نزولهما في قصة سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن ذلك لم يصح سببًا لنزولهما، وإن كان لقصة السحر وصاحبها لبيد بن الأعصم أصل ثابت في الصحيح، وقد تساهل كثير من المفسرين في حشر هذا السبب في تفسيرهما وفي حشر كثير مما لم يصح في فضائلهما، ولنا فيما صح غنية عما لم يصح»([31]).
الخاصية الثانية: خاصية التوظيف:
التنقية سابقة على التحلية، وقد سبق بيانها في الخاصية الأولى التي هي مشخّصة في نقده لتعاطي التفسير ومنهج تدريسه، اللذان غلبا بمساوئهما على أكثر المفسرين في ذلك الوقت وقبله من العصور المتأخرة الراكدة، ولما كان تمام التجديد منوطًا باقتراح البديل، زيادة على نفي الدخيل؛ كان لتفسير ابن باديس قصب السبق في تفعيل البدل المقبول، وقد تجسد في توظيفاته الكثيرة، والتي يمكن أن نحصرها في ما يلي:
المقالة التفسيرية: لقد كان لتجديد هدف التفسير عند أصحاب الاتجاه الاجتماعي واتخاذه للهداية الإسلامية أساسًا في توجيه المجتمع الإسلامي، أثر واضح في استحداث طرق وأنماط جديدة، كان أسبقها في الظهور هو المقالة التفسيرية؛ لسهولة نشرها وتوظيفها في دفع عملية الإصلاح، وهي شكل من أشكال الكتابة في التفسير، يدار الحديث فيها حول فكرة بعينها، أو رأي محدد يعتضد له بما ورد من آيات قرآنية في موضوعه، وتشهد لفكرة المفسر أو رأيه المحدد([32]).
استطاع الإمام بأسلوبه الهادف، وكلماته الموزونة، في وقت صعوبة الطباعة، مع انشغاله بالإقراء([33])؛ أن يخرج للناس بعض مقالاته التفسيرية لتعالج الداء المستفحل، على وجه العجلة، في مجلته الشهاب كافتتاحيات لأعدادها، متأثرًا برياح الإصلاح التي هبّت من المشرق العربي على غرار صنيع الأفغاني ومحمد عبده في الجريدة الوثقى، ورشيد رضا وعبده في مجلة المنار، وابن عاشور في مجلة الزيتونة.
التقسيم المنهجي: الملحظ الماثل بداءة هو تقسيمه لمقالاته بمنهج مطرد في الغالب، ينتقل فيه من وضع عنوان على الآية المقرر شرحها، مرورًا بالمفردات والتراكيب، ومعرجًا على المعنى والأحكام؛ ليصل في الأخير إلى الاستنتاج والتطبيق، مجددًا المنهج القديم في طريقة التفسير.
هذه المنهج يظهر بعنوان أصلي وعناوين فرعية، تساير الموضوع مع تركيز على الفكرة المحللة بدقة، قد ضرب صفحًا عن استطرادات بعض المفسرين فيما يزيد المتأمل تشتتًا وتذبذبًا، لا يدري أهو في مسند لسرد الأحاديث مع تداخلها دون ترجيح، أو في كتاب فقهي لعرض المذاهب مع تعصب صاحبها غالبًا، أم في سفر لإخباري تستهويه الرواية، أم في مصنف للإعراب والبلاغة، ناهيك عن تفاسير أصحاب المذاهب العقلية في استدلالاتهم على العقائد الغيبية.
كلّ هذا جعل من ابن باديس يضفي على تفسيره منهجية خاصة تغيب عند المتقدمين، خاصة إذا استحضرنا ربانيته في التعليم، وعلمنا أن المقالة كانت موجهة لعموم الناس -نشرها في مجلة الشهاب بين سنتي 1929م و1939م-؛ لذلك خرجت المقالة في طابع تستهوي جمهور القراء بدون استثناء، قد زبرجها بالأسئلة اللافتة، وحلاها بالعناوين المغرية، ووشّاها بالنِّكات البارزة، وألهبها بالتحذيرات المجلجلة، فكان بحق؛ فقهه في تراجمه، وهذه بعض العناوين مرتبة كما في الأصل، تزيد وتنقص باعتبار السياق: عنوان أخّاذ، تمهيد، سبب النزول مع المناسبة إن وجدت، الألفاظ، التراكيب، المعنى، تفسير، نظرة عامة في الآيات المتقدمة، بيان واستدلال، الأحكام، استنتاج، إيضاح وتعليل، بيان وتوجيه، تطبيق، تعليم، تفسير نبوي، ترغيب وترهيب، تحذير وإرشاد، عبرة وتحذير، إرشاد واستنهاض، رجاء وتفاؤل، مسائل، تنبيه وإلحاق، سلوك وامتثال، تفصيل، تقسيم، انتقال واعتبار، تبصير وتحذير، إشكال وحله، إيراد وجوابه، تحذير من تحريف، تنظير، تعميم وتقييد، موعظة وإرشاد، سؤال وجوابه، تحرير في التعليل، مشاهدة وتوصية، توجيه الترتيب، عقيدة، الاهتداء، موازنة وترجيح، موعظة، امتثال ورجاء، بيان مراد ودفع اغترار واعتراض، بوارق أمل، توحيد، تفقه واستنباط، تطبيق وتحاكم، فقه لغوي، فقه شرعي، فقه قرآني، لطيفة تاريخية، نصيحة، نكتة استطرادية، لمحة نفسية، إشارة علمية،… خاتمة، دعاء.
الخطاب الهدائي: كان ابن باديس يهدف من خلال تفسيره هداية الناس، وإخراجهم من جهالات الوثنية، وتداعيات المدنية الغربية، فوظّف تجديده في أسلوبه الهدائي، «غرضه من ذلك تبسيط المبادئ القرآنية للنشأ، واستقصاء المسائل العلمية، ولذلك كان تفسيره يتجه إلى القلب والعاطفة أكثر ما يتجه إلى العلم والعقل، ومن ثم كانت دعوته من خلال تفسيره دعوة عمل وتطبيق، فهي تنأى عن التفلسف والتنظير، وتقوم في أساسها على الفكر والعمل الذي يمثل خلاصة تجاربه ومشاهده وثقافته»([34]).
ومن خلال اختياره للآيات التي ينشرها مقاليًّا -رغم أنه فسره كله إقرائيًّا- يتضح ومن غير شك أنه كان يحرص على التوجيه والإرشاد، ينتقي موضوعاته بصورة توافق ظروف المجتمع الجزائري الذي تسللت إليه كلّ آفة، وقد قال في مجلته الشهاب كتصدير لما سينشره قريبًا: «ننشر في هذا الباب من (مجلة الشهاب) ما فيه تبصرة للعقول، أو تهذيب للنفوس، من تفسير القرآن الكريم…معتضدين بأنظار أئمة السلف الذين لا يرتاب في رسوخ علمهم، وكمال إيمانهم، وأئمة الخلف الذين درجوا على هديهم في نمط وسط بين الاستقصاء والتقصير»([35]).
كان يركز في تفسيره -كما هو الحال بالنسبة لمدرسة المنار- على هداية القرآن الكريم، فلا نجاة للمسلمين من هذا التيه الذي يعيشونه إلا بالرجوع إلى القرآن، إلى علمه وهديه، وبناء العقائد والأحكام والآداب عليه، والتفقه فيه وفي سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والاستعانة على ذلك كله بإخلاص القصد، وصحة الفهم([36]).
حفاظه على أصول التفسير وقواعده: مصطلح التجديد ربما يروع فئامًا من الناس، لكن يحمل بجانب روعته مخاطر ومجازفات تؤدي في حالة عدم التيقظ وشدة الانتباه إلى الذوبان في بوتقة العصرنة، أو الانجراف في سيول التأويلات البعيدة، وأودية التناقضات العقدية، كما حدث لمدرسة المنار، وإن كان لا ينكر لها فضل في التجديد وبث روح اليقظة، «غير أن توسعها في مسائل الغيبيات، وتأويلها بما يتفق مع العقل، ويتلاءم وعصر العلم؛ قد جرّ عليها كثيرًا من النقد، الأمر الذي جعل هذه الدراسة لا تتفق مع مقصد الإسلام وغرضه من التجديد، ولو أنها لم تقحم العقل في مسائل الغيب لجنبت نفسها حملات كثيرة قاسية… والأمثلة كثيرة مبثوثة في ثنايا تفسير المنار وغيره من كتب أصحاب هذه المدرسة، غير أن نظرة عابرة على تفسير المنار تكشف مقدار التساهل والتوسع في مسائل كان الأولى والأسلم التوقف فيها عند حدود النصّ، مثل مسألة وحي الله لرسله، وأشراط الساعة، ومعجزات الأنبياء، والملائكة، والجن، وغير ذلك»([37]).
ورغم ما سجله كثيرون عن حركة ابن باديس في كونها حلقة في سلسلة ابتدأت بالأفغاني وترسّمت خطاها، إلا أنه لا يمكننا أن نغضّ الطرف عن نقطة اختلاف جوهرية تتعلق بالمنشأ الرئيس الذي انبثقت منه محاولات كلّ منهم في التجديد والإصلاح، فالتجديد الحقيقي الذي انطلق منه ابن باديس هو من الإسلام وبالإسلام، بينما نقطة البدء في التغريب غربية غريبة؛ إذ هي فكرة متسلطة على العقل، يلتمس لها المفسر من الدين نصًّا أو نصوصًا، مؤوِّلًا إياها على غير وجهها؛ مما يؤدي به في أغلب الأحيان إلى نوع من التعسّف في التفسير لإيجاد تطابق قد يصعب قياسه بين مبادئ العلم الحديث والآيات القرآنية، ومن هنا يتحدد الفرق بين التجديد والتغريب([38]).
حافظ ابن باديس في تجديده على أصول التفسير التي هي عماد التأويل، وقواعده التي هي ركن البيان وقاعدة التأصيل، فلم ينزلق في حوض التغريب، وآليات المحدثين ومناهجهم؛ «المحمّلة بتصوراتهم ومبادئهم، ومشبعة بعقائدهم ومذاهبهم وفلسفاتهم، المبثوثة داخل الأبحاث النظرية والتطبيقية»([39]).
ويمكن أن نذكر بعض أصوله وقواعده على وجه الاختصار، بناء على التتبع لتفسيره، مع التمثيل لكلّ أصل وقاعدة بمثال واحد:
– تفسير القرآن بالقرآن([40]).
– تفسير القرآن بالسنة([41]).
– تفسير القرآن بأقوال الصحابة([42]).
– تفسير القرآن بأقوال التابعين([43]).
– تفسير القرآن بلغة العرب([44]).
. تفسير القرآن بأقوال المفسرين([45]).
– تفسير القرآن بالاجتهاد([46]).
– من عادة المفسرين أنهم يفسرون اللفظ بما يدخل في عمومه دون قصد للقصر عليه([47]).
– شروط التفسير المقبول([48]).
– اعتبار إجماع المفسرين وعدم الخروج عنه إلى غيره([49]).
– ردّ المتشابه إلى المحكم([50]).
– ضرورة جمع كلّ معاني اللفظة الواحدة([51]).
– اختلاف المفسرين من السلف في معنى الآية دليل على وجود الاحتمال([52]).
– الترجيح بالقواعد([53]).
– قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه في حكم المرفوع([54]).
– من بديع إيجاز القرآن في نظم الآيات أن يؤتى باللفظ مفيدًا للعام ومقويًّا للخاص([55]).
المبحث الثالث: عنايته بإقامة المصطلح القرآني وما يقتضيه:
تعاني الأمة الإسلامية اليوم من إشكال مصطلحي عظيم، لا يقدّره إلا الراسخون في العلم، وقد كان همّ النبوات مذ آدم -عليه السلام- تسمية الأشياء بأسمائها، وضبط
كلمات الله -عز وجل- لكيلا يعتريها تبديل أو تغيير، والأمة اليوم؛ وهي على عتبة تجديد النطق بالشهادتين، تعاني من أمر المصطلح، وإقامةُ المصطلح هي الأصل، وإذا لم يقم الأصل لم تقم الفروع، ومن ثم كان البدء ضرورة عند محاولة القيام بإقامة المصطلح، إقامة المصطلح الأصل؛ الوحي الإلهي، مصطلح كلام الله -عزّ وجلّ-.
وإقامة المصطلح القرآني تقتضي:
– إقامة لفظه.
– وإقامة مفهومه.
– وإقامة العمل به.
– وإقامة بيانه([56]).
ومن خلال تلمسنا لتفسيره اتضح أنه مقيم للمصطلح القرآني الأصل، وما يقتضيه ويستلزمه، ولا عجب في ذلك؛ فقد كان مجددًا للفنّ، بصيرًا بمواضع العلة، وهذا بعض ما ذكره عنه شاعر النهضة محمد العيد آل خليفة في حفل تكريم الإمام:
ودرسك في التفسير أشهى من الجنى |
|
وأبهى من الروض النظير وأبهرُ |
ودونكم ما أجملته تفصيلًا وتأكيدًا:
إقامة لفظه: ابتغى ابن باديس من خلال تجربته التفسيرية إلى ما ذكره في حفلة تكريمه: «فإننا -والحمد لله- نربي تلامذتنا على القرآن من أول يوم، ونوجّه نفوسهم إلى القرآن في كلّ يوم، وغايتنا التي ستتحقق أن يكوّن القرآن منهم رجالًا كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلق هذه الأمة آمالها، وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودها، وإن أعزّ ما وصلنا إليه هو تبيّن الغاية وتلاقي الجهود»([58])، فهذه الكلمة منه صريحة باقتفاء القرآن، والتزام تعاليمه في التربية القرآنية.
وبنظرة فاحصة، نجده مقيمًا لألفاظ القرآن في أساليبه وتحليلاته، وتوجيهاته وانتقاداته، مستعملًا إياه في التواصل تبيّنًا وتبيينًا، فمثال عنواناته على الآية المحللة كــــ: الفرار إلى الله، وحشر الكفار إلى النار، تثبيت القلوب بالقرآن العظيم، القرآن شفاء ورحمة، صدق المدخل والمخرج، إرادة الدنيا وإرادة الآخرة([59])، نجد انتقاءه اللفظي واستثماره له كما نصت عليه الآية لفظيًّا، مُظهرًا اعتناءه بالقرآن في التعبير العنواني، وإذا تأملنا في تحليلاته فإننا لا نعثر على مصطلحات عيِيَّة دخيلة انتقلت من علوم الآلة -مع تحكمه فيها وتوظيفها- إلى علم الغاية؛ بل ألفاظه قرآنية صرفة، حتى في تقدير الإعراب الذي ربما هو خارج عن محلّ التوظيف المصطلحي القرآني، حيث قال في تفسير الآية الأولى من سورة الفلق: «الأمر المفرد للنبي عليه السلام، ومن حسن الأدب في مقدرات القرآن أن تقدر في مثل هذا الأمر أيها الرسول أو أيها النبي؛ لأنهما الوصفان اللذان نطق بهما القرآن في نداء النبي عليه السلام، وأن لا تقدر يا محمد كما هو جارٍ على الألسنة وفي التصانيف، فإن القرآن لم يخاطبه باسمه، والأمر لنبينا أمر لنا؛ لأننا المقصودون بالتكليف، ولا دليل على الخصوصية، فهو في قوة: قل أنت، وقل لأمتك يقولون»([60]).
كيف لا تكون ألفاظ القرآن مثالًا للتأسي في التسمية، وهي مصطلحات لها ثقلها في الإيحاءات والدلالات، ذات مفاهيم كبرى وخصوبية مفهومية، عليها تتأسس فلسفة القرآن ونظرته الشمولية للكون والحياة، وهذا الذي أكده ابن باديس مرارًا، كما في تفصيله القول عن كلمة خلْفة في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورً [الفرقان:62]، إذ قال: «فقه لغوي: اختيرت لفظة الخلفة هنا لدلالتها على الهيئة…فكانت هذه اللفظة الواحدة منبهة على ما في اختلاف الليل والنهار من آية دالة ومن نعمة عامة، وهكذا جميع ألفاظ القرآن في انتقائها لمواضعها»([61]).
ولكن أبت بعض الفرق المنحرفة هذه الإقامة المصطلحية اللفظية، وتصرّفوا بالحوادث والتحريفات، وهجروا خطاب الله القرآني، وسموا ما لم يسمه الله، حيث تحرّجوا من تسمية دعائهم غير الله عبادة جهلًا أو عنادًا، ولكن سُدّد ابن باديس في إيقافهم عند اعتبار الشارع في قوله: «من دعا غير الله فقد عبده: ما يزال الذكر الحكيم يسمي العبادة دعاء ويعبر به عنها، ذلك لأنه عبادة، فعبر عن النوع ببعض أفراده، وإنما اختير هذا الفرد ليعبر به عن النوع؛ لأن الدعاء مخّ العبادة وخلاصتها، فإن العابد يظهر ذلّه أمام عزّ المعبود، وفقره أمام غناه، وعجزه أمام قدرته، وتمام تعظيمه له وخضوعه بين يديه، ويعرب عن ذلك بلسانه بدعائه وندائه وطلبه منه حوائجه، فالدعاء هو المظهر الدالّ على ذلك كله، ولهذا كان مخّ عبادته… فمن دعا غير الله فقد عبده، وإذا كان هو لا يسمي دعاءه لغير الله عبادة، فالحقيقة لا ترتفع بعدم تسميتهلها باسمها، وتسميته لها بغير اسمها، والعبرة بتسمية الشرع التي عرفناها من الحديثين المتقدمين لا بتسميته»([62]).
وهذه اللوثة المنهجية والتطبيقية تأصلت في بداية الوحي مع كفار قريش الملحدين، قد تعاضدوا على دفع الحقّ بكلّ شبهة يتعلقون بها، لا يتورعون من التبديل والتغيير
لكلمات الله، وقد وصفهم خالقهم بقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)} [الفرقان: 4-6].
لم تفت ابن باديس هذه الظاهرة الخطيرة في تبيينها بقوله: «وقال الذين أنكروا الحق مع ظهوره، وجحدوه مع وضوحه: ما هذا الكلام الذي يتلوه محمدٌ علينا إلا كلام كذب مصروف عن وجه الحق، اخترعه وصوّره وأعانه عليه غيره من أناس آخرين، فقد سموا الحق الصراح والصدق الخالص إفكًا، وجعلوا أخبار الأمين الذي كانوا يدعونه هم أمينًا افتراء، وجعلوا القرآن الذي عجزوا عن معارضته كلامًا عاديًّا متعاونًا على تركيبه وتصويره، فسموا الشيء بغير اسمه ووضعوا الوصف في غير موضعه، فانتهوا بذلك إلى ظلم عظيم أتوه ووقعوا فيه، وقد شهدوا بالباطل، فنسبوا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما هو بريء منه من الافتراء والاستعانة بغيره، فانتهوا إلى زور عظيم تحملوه…»([63]).
إقامة مفهومه: وهي تعني أن يفهم من لفظه ما فَهمه أو فُهِّمه من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم أول مرة دون تبديل أو تغيير، ولكم شوهت قضايا وبدلت علاقات عبر العصور، ولن يصلح آخر هذا الفهم إلا بما صلح به أوله؛ استفادة المفهوم من مجموع صور استعمال اللفظ مفهومًا بدلالة التنزل، وإلا فهو التشوّه والتشويه المستمر([64]).
التزم ابن باديس منهجية في التأويل؛ هي: تفسير الألفاظ بأرجح معانيها اللغوية، وحمل التراكيب على أبلغ أساليبها البيانيّة، وربط الآيات بوجوه المناسبات([65])، فوُفّق في تطبيقها، حيث لا يكاد يمر بآية إلا جعل لها فرعين في ابتداء شرحها قبل المعنى العام: المفردات، ثم التراكيب، مبالغة في فكّ الغموض، وتدقيق النظر، وفهم المصطلحات القرآنية كما هي، وقد يمزج بين المفردات والتراكيب، أو يسمي المفردات باسم اللغة، وحينًا يتجاوز التراكيب إذا كانت جلية، ويستوضح صرفها واشتقاقها إذا كانت خفية، ثم يعطف بعدها بالمعنى العام، ويزيده بيانًا عند الاقتضاء، مع توجيه القراءات نادرًا([66]).
وقد أبان -رحمه الله- طريقَهُ بقوله: «والاستعانة على ذلك بإخلاص القصد، وصحة الفهم، والاعتضاد بأنظار العلماء الراسخين، والاهتداء بهديهم في الفهم عن ربّ العالمين، وهذا أمر قريب على من قرّبه الله عليه، ميسّر على من توكل على الله فيه، وقد بدت طلائعه والحمد لله، وهي آخذة في الزيادة إن شاء الله، وسبحان من يحيي العظام وهي رميم»([67])، فالمدار كلّه على الفهم الصحيح، مع التنبه إلى ضرورة مراعاة الاستقراء الكامل لكتاب الله، وقد اعتنى بهذا الأصل وصرّح به([68])، فأول تصحيح الفهم هو تتبّع مواقع استعمال اللفظة في القرآن كله استقرائيًّا، واعتبار المقام في فهم الكلام حين تماثل اللفظان([69]).
إنّ الدراسة المفهومية إذن هي مربط الفرس؛ فهو يُبين مفردات القرآن وتراكيبه، معتمدًا على صحيح المنقول، وطرائق التأويل بالمعقول، محذرًا من تحريف الفهوم عن أصل وضعها، كالمفسرين اللفظيين الذين يتشبثون بالكلمات بعيدًا عن سداد المنطق واستقامة الرأي وأصالته، ولا أدلّ على هذا من التمثيل بما ذكره في تفسير قوله تعالى:{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}[الشعراء:129] عن بعض المفسرين: «والمصانع، يقول المفسرون أنها مجاري المياه أو هي القصور، وعلى القولين فهي دليل على معرفتهم بفنّ التعمير علمًا وعملًا، وبلوغهم فيه مبلغًا عظيمًا، فهي من شواهدنا على ما سقنا الحديث إليه، ولكن ليت شعري ما الذي صرف المفسرين اللفظيين عن معنى المصنع اللفظي الاشتقاقي، والذي أفهمه ولا أعدل عنه هو أن المصانع جمع مصنع من الصنع، كالمعامل من العمل، وأنها مصانع حقيقية للأدوات التي تستلزمها الحضارة ويقتضيها العمران، وهل كثير على أمة توصف بما وصفت فيه في الآية أن تكون لها مصانع بمعناها العرفي عندنا؟ بلى، وإنّ المصانع لأوَّل لازم من لوازم العمران وأول نتيجة من نتائجه.
ولا أغرب من تفسير هؤلاء المفسرين للمصانع؛ إلا تفسير بعضهم للسائحين والسائحات بالصائمين والصائمات، والحقّ أنَ السائحين هم الرحالون والرواد للاطلاع والاكتشاف والاعتبار، والقرآن الذي يحثّ على السير في الأرض والنظر في آثار الأمم الخالية حقيق بأن يحشر السائحين في زمرة العابدين والحامدين والراكعين والساجدين، فربما كانت فائدة السياحة أتم وأعم من فائدة بعض الركوع والسجود»([70])، ثم وصل حديثه بالدليل والبرهان.
كان الاجتهاد في التجديد المفهومي محطّ نظره، فبالرغم من عدم توسعه في شحن أقوال المفسرين، إلا أنه كان مطالعًا لها، يأخذ منها ما يشاء، ويدع ما يشاء، ناقدًا ومعللًا، وهذه جولة أخرى مع تفسير آخر، اقتُصر فيه على الظاهر والسطح، وأُهمل الاستعمال العربي، فكان التشوّه والتبديل، قال -رحمه الله- في بيان قوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}[سبأ:19]: «فإن المفسرين السطحيين يحملونه على ظاهره، وأي عاقل يطلب بعد الأسفار؟ والحقيقة أنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم، وإنما هو نتيجة أعمالهم، ومن عمل عملًا يفضي إلى نتيجة لازمة؛ فإن العربية تعبر عن تلك النتيجة بأنها قوله، وهذا نحو من أنحاء العربية الطريفة»([71])، فكان تعقيبه في كلّ مرة على المفسرين اللفظيين والسطحيين من مرتكزاته في إقامة مفهوم المصطلح القرآني الأصل.
إقامة العمل به: إنّ آثار ابن باديس آثار عملية قبل أن تكون آثار علمية صرفة، والأجيال التي ربّاها كانت مشعل النهضة ورمز الحركة الوطنية، وقليل من المصلحين في عصره من أتيحت له ظروف التطبيق العملي لنظرياته ومبادئه، فرشيد رضا كان يحلم بمدرسة للدعاة، ولكن لم يتحقق حلمه.
ومن آكد ما يُعمل به؛ القرآن الكريم، والسنة البيان، ولا عمل إلا بالفهم، ولا فهم إلا بالعلم الصحيح؛ الذي من مناهجه العلم المصطلحي([72])، «وبإقامة العمل بالمصطلح الأصل تقوم الحجة، وتمثل القدوة، ويظهر للعيان فضل ما جاء به القرآن، وما منع الناس أن يؤمنوا في هذا الزمان، إلا أن أمة القرآن لا تقيم العمل بمصطلح القرآن»([73]).
ابتكر ابن باديس طريقة خاصة في شرح بعض المصطلحات القرآنية: كمصطلح (الذكر)؛ حيث تناول المصطلح بشرحه من خلال قسمين: قسم علمي، وقسم عملي، تدليلًا على اعتنائه بجانب التنفيذ وممارسة التعاليم القرآنية، حتى نسلم من مشابهة اليهود والنصارى، فالإقامة العملية ركن بعد اللفظية والمفهومية، كما استعمل هذه الطريقة أيضًا في موضوع: (أفضل الأذكار)؛ حيث جعل التلاوة أفضل الأذكار من طريق الأثر والنظر، وقال في بيان ما يقصد من التلاوة: «والقرآن رحمة من الله للمؤمنين، فليستنزل بتلاوته وتدبره الرحمة من الله تعالى بإفاضة علوم القرآن على قلبه، وبتوفيقه إلى القيام بمقتضى هدايته»([74])، ثم أرشد المذنبين إلى التخلق بما يقتضيه مفهومه في الظاهر والباطن معًا، ذاكرًا حظّه من التجربة الواقعية المعاشة بقوله: «وأما حظّ التجربة فوالله الذي لا إله إلا هو، ما رأيت -وأنا ذو النفس الملأى بالذنوب والعيوب- أعظم إلانة للقلب، واستدرارًا للدمع، وإحضارًا للخشية، وأبعث على التوبة، من تلاوة القرآن وسماع القرآن»([75]).
وكثيرة تلكم العناوين الفرعية التي ينادي فيها بالعمل، وتكون غالبًا بعد شرح الألفاظ والتراكيب، والتفسير الإجمالي، والمتمثلة في: تطبيق وتحاكم، إرشاد واستنهاض، مشاهدة وتوصية، سلوك، اهتداء؛ ما لا يترك مجالًا للشك بأنه حقيقة صانع أجيال، ومنشئ حضارة، لا صنم وتمثال.
ومن ثمرات العمل ما ذكره عن نفسه، ولكن في سياق التواضع مع أنه الرجل الأمة، استنهاضًا للشباب، وتوصية بالاقتداء، كأحسن وسيلة للنشاط من العِقال، وأفضل حافز للاستباق إلى الكمال، في ختامه لتفسير قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38]، حيث وصف حاله بقوله: «نعرف في حياتنا مواطن ما نجونا فيها إلَّا بدفع الله، وبطل كيد الكائدين فيها بمحض صنع الله، وقد كنا فيها -فيما نرى- على شيء من العمل لله، فكيف بمن كانت أعمالهم كلها لله، وهذه المشاهدة التي شاهدنا -ولا نشك أن من غيرنا من شاهد مثلنا أو أكثر منا- توجب علينا أن نوصي بالإيمان بالله، والمحافظة على عهده، والثقة به؛ فإن ذلك يحقق وعد الله بالدفع، وينيل أهله العزة والحفظ، فعلى المسلم أن يعمل لذلك، ويعتد به ثقة بالله وصادق وعده، والله لا يخلف الميعاد»([76]).
أما إذا لم يتمثل المفهوم في واقع يمثله فلن تظهر الثمار؛ لذلك رفع صوته بالتحذير والترهيب، وقصّ علينا حالة المسلمين عمومًا يوم تركوا الهداية القرآنية، بارتكاب الشركيّات، وتحوير المصطلحات الشرعية، وذلك في تطبيقه على قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا}[الإسراء:56]؛ حيث قال: «إذا علمت هذه الأحكام فانظر إلى حالتنا معشر المسلمين الجزائريين وغير الجزائريين؛ تجد السواد الأعظم من عامتنا غارقًا في هذا الضلال، فتراهم يدعون من يعتقدون فيهم الصلاح من الأحياء والأموات، يسألونهم حوائجهم من دفع الضر، وجلب النفع، وتيسير الرزق، وإعطاء النسل، وإنزال الغيث، وغير ذلك مما يسألون…وتراهم هنالك في ذلّ وخشوع وتوجه، قد لا يكون في صلاة من يصلي منهم، فأعمالهم هذه من دعائهم وتوجههم كلّها عبادة لأولئك المدعوين وإن لم يعتقدوها عبادة؛ إذ العبارة باعتبار الشرع لا باعتبارهم، فيا حسرتنا على أنفسنا كيف لبسنا الدين لباسًا مقلوبًا حتى أصبحنا في هذه الحالة السيئة من الضلال»([77]).
إقامة بيانه: وهي تعني أداؤه كما حُمِل، بعد حَمْله كما أُنزل، ولا إقامة للبيان دون إقامة لما سبق من التبيّن؛ لفظًا ومفهومًا وعملًا، ولا شهادة على الناس دون شهادة على النفس، لتحقيق الأهلية للشهادة على الناس([78]).
الدعوة بالقرآن، والدعوة إلى القرآن، وفق إرشادات القرآن؛ ربانية في البيان. ولقد كان أمل ابن باديس الذي أمّله سنين عديدة: البيان الكامل لكتاب الله، ولا أدلّ على هذا من شهادتين؛ شهادة رفيقه، وشهادته على نفسه، فأما الأولى فهي شهادة البشير الإبراهيمي، تؤكد فضل ابن باديس في البيان، وحرقته على الوصول للمبتغى مهما كلّف الثمن، حيث يقول: «أذكر أننا كنا في جماعة من الرفقاء الأوفياء، تذاكرنا مرة في إقامة حفل تكريم لرفيقنا الأستاذ ابن باديس، تنويهًا ببعض حقّه على العلم، وشكرًا لأعماله الجليلة وآثاره الحميدة في التعليم بهذا الوطن، واعترافًا بكونه واضع أسس النهضة، وإنصافًا لكونه أسبقنا إلى التعليم، وأشدنا اضطلاعًا به، وأكثرنا انتاجًا وتخريجًا فيه…وذهبنا في تقدير الفوائد التي تجنى من هذا الاحتفال مذاهب لا غلوّ فيها ولا إسراف، ثم فاتحنا أخانا الأستاذ بهذه الفكرة، فكان الجواب قوله: دعوا هذا حتى نختم دروس التفسير -وبيننا وببين الختم يومئذ سنوات-، كأنه يرى أن عمله في التفسير هو أجلّ أعماله في التعليم، وأنه بإتمامه لهذا العمل يستكمل مزية الاستحقاق للتكريم والإجلال من أمته؛ إذ يكون قدّم لها عملًا تامًّا ناضجًا، وصورة كاملة من مجهوداته، زيادة على ما خرج لها من رجال…كأنه -حفظه الله- كان معلق البال بهذا العمل، ويخشى أن تقطعه قواطع الدهر»([79]).
بعد مرور سنوات من التبين اللفظي والمفهومي والعملي؛ كان البيان في صورة ناضجة كما ترقّبه ورجاه، فحقق أمنيته من ختم التفسير، وللأمة رجاءها في تسجيل هذه المفخرة للجزائر، ولأنصار السلفية غرضهم من تثبيت أركانهم بمدارسة كتاب الله كاملًا، وجاءت شهادته على نفسه -التي أخرها مرة بعد مرة- في تواضع وتحقير كبيرين، حيث قال: «أنتم ضيوف القرآن، وهذا اليوم يوم القرآن، وما أنا إلا خادم القرآن، فاجتماعكم على تنائي الديار، وتباعد الأقطار؛ هو في نفسه تنويه بفضل القرآن، ودعوة جهيرة إلى القرآن، في وقت نحن أحوج ما نكون إلى دعوة المسلمين إلى قرآنهم، فهل علمتم أنكم باحتفالكم هذا قمتم بواجبات أهونها ما سميتموه احتفالًا بشخصي، إنّ أقوال خطبائكم وشعرائكم كلّها في الحقيقة إشادة بيوم القرآن، ووفود القرآن، وكلّ ما لي من فضل في هذا فهو أنني كنتُ السبب فيه»([80]).
فالجهود شاهدة على البيان حقيقة لا ادعاء، والرجال المتخرجون من المدرسة الباديسية أدلّاء، ومضامين تراثه حافلة بشرح آيات الدعوة، وفضلها، وطرقها، وأساليبها، وترغيب الناس فيها، يختار آيات الدعوة، ويسهب في بيانها، وتنزيلها على الواقع، كآية {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125]، حيث شرحها بقوله: «هدتنا الآية الكريمة إلى أسلوب الدعوة: وهو الحكمة، وتجلت هذه الحكمة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فعلينا أن نلتزمها جهدنا حيثما دعونا، ونقتدي بأساليب القرآن والسنة في دعوتنا، فبها يحصل الفهم واليقين، والفقه في الدين، والرغبة في العمل والدوام عليه، وها نحن قد بلغ الحال بنا إلى ما بلغ إليه من الجهل بحقائق الدين، والجمود في فهمه، والإعراض عن العمل به، والفتور في العمل، فحقّ على أهل الدعوة إلى الله -وخصوصًا المعلمين- أن يقاوموا ما بيَّنَّا من جهل وجمود وإعراض وفتور؛ بالتزام البيان للحقائق العلمية بأدلتها، والعقائد ببراهينها، والأخلاق بمحاسنها، والأعمال بمصالحها، وقد وجد الأخذ بهذه الأساليب القرآنية -والحمد لله- وأخذ أثرها -بفضل الله- يظهر في الناس بقدر الأخذ بها، ويوشك أن تتجدد بذلك في المسلمين حياة إن شاء الله»([81]).
المبحث الرابع: معالم في مدى اهتمامه بمنهج الدراسة المصطلحية:
الدراسة المصطلحية ضرب من الدرس العلمي لمصطلحات مختلف العلوم، وفق منهج خاص؛ بهدف تبيّن وبيان المفاهيم التي عبرت أو تعبر عنها تلك المصطلحات في كلّ علم، في الواقع والتاريخ معًا، وسر الصناعة في المنهج المعتمد، فهو مفتاح المفتاح؛ الذي به يتم الكشف عن الواقع الدلالي لمصطلح ما في متن ما، ووصفه، وهو الذي به يتم رصد التطور الدلالي لمصطلح ما، وتاريخه، وهو الذي به -أثناء ذلك- يتم التبيّن والبيان للمفاهيم؛ إذ بدراسة النصوص التي ورد بها مصطلح ما دراسة معينة يحصل التبين، وبعرض نتائج تلك الدراسة على نمط معين يحصل البيان، وبهما معًا -متلازمين متكاملين- يتحقق الهدف المتوخى من الدراسة المصطلحية([82]).
ولمنهج الدراسة المصطلحية مفهومان: عام، وخاص، أما العام فهو طريقة البحث المهيمنة المؤطرة للمجهود البحثي المصطلحي كله، وهو الموصوف بالوصفي أو التاريخي…، وأما الخاصّ فهو طريقة البحث المفصلة المطبقة على كلّ مصطلح من المصطلحات المدروسة، في إطار منهج من مناهج الدراسة المصطلحية بالمفهوم العام، وهذا الذي يمكن تلخيص معالمه الكبرى بإيجاز شديد في خمسة أركان:
– الإحصاء.
– الدراسة المعجمية.
– الدراسة النصية.
– الدراسة المفهومية.
– العرض المصطلحي؛ بذكر (التعريف، الصفات، العلاقات، الضمائم، المشتقات، القضايا)([83]).
هذا المنهج الذي يعد من الآليات العصرية لم نكن لنجده في التفاسير السلفية أو المتأخرة -قبل ظهور المنهج-، فعملية التأويل تجري على سنن وقواعد معتبرة، جرى العمل عليها من قديم الزمان، ورغم فاعلية مناهجها وسلامة نتائجها إلى حدّ بعيد -خاصة ما تم تجديده من المدرسة المنارية والبيانية- تبقى في «غياب شبه تام لمنهج هادف وناظم لسمات المصطلح الدلالية، أو استقراء شامل لكلّ نصوصه، وتصنيف دقيق لاستعمالاته في القرآن الكريم، وما حُصّل من معانيه إنما تم -في الغالب- في ضوء فهوم العلماء والمفسرين والدارسين؛ مما جعل دراسته أقرب إلى الدراسة الأدبية أو الفكرية أو التفسير الموضوعي منها إلى الدراسة العلمية والمنهجية التي تقرب صورة المصطلح كاملة إلى الفهم»([84]).
وعند الفحص لتفسير ابن باديس، خلصت نتائج مدى اهتمامه بمنهج الدراسة المصطلحية إلى ما يلي:
عنصر الإحصاء: يكثر عنده جمع الآيات ونظائرها من القرآن والسنة في الموضوع الواحد، ولكن منهجية الاستقراء قليلة، ومنها ما ذكره عرضًا عن امتزاج المواعظ الحسنة بالحكم البالغة؛ حيث قال: «فتتبعها في جميع سوره تجدها، وتدبرها تقع منها على علوم جمة وأسرار غزيرة»([85])، وما ذكره عن عباد الله، حيث نفى أن توجد آية واحدة دالة دلالة صريحة على ذكر عباده دون خوف أو رجاء([86])، فالمثال الأول يرشد إلى الإحصاء، والثاني يدل على أنه أعمله في منهجه؛ إذ لا نفي إلا بعد السبر والتأكد.
عناصر العرض المصطلحي: وهي متفاوتة في الاهتمام، تكثر في الحدود والقضايا، وتقلّ في غيرها.
التعريف: وهو أبرز العناصر اللافتة التي تكرر الحديث عنه في كلّ آية تقريبًا، فلا يكاد يمضي في التفسير وتجلية المعنى العام حتى يبيّن مفاهيم المصطلحات، وغرائب الآيات، يضع شرحه على المراد بذكر أصله اللغوي، ووجه اشتقاقه من غير اطراد، ومناسبة الاصطلاحي للغوي أحيانًا، ثم يختار ويعلل بعد التنقيح والتمحيص.
أمثلة: قوله عن مصطلح التأويل: «مصدر أول، بمعنى رجع، من آل يؤول أَوْلًا، بمعنى رجع، وهو هنا بمعنى المرجع والمآل، أي العاقبة»([87]).
قوله عن مصطلح الفتنة: «البلاء بأنواع النقم أو بنعم تستدرج إلى النقم، هذا معنى الفتنة لأنها ذكرت في مساق الوعيد»([88]).
قوله عن مصطلح نُزِّل في آية الفرقان: «يأتي مرادفًا لأنزل، والتضعيف أخو الهمزة، ويأتي مفيداً للتكثير؛ فيفيد تكرر النزول وتجديده، وخرج على هذا قوله تعالى:{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ}[آل عمران:3]، وأما هنا فلا يصح حمله على التكثير المفيد للتدريج؛ لئلا يناقض قولهم جملة واحدة، فيكون من التضعيف المرادف للهمزة. وعندي أن (نَزَّلَ) المضاعف يرد لكثرة الفعل ولقوته، فجاء لكثرته في آية آل عمران المتقدمة، وجاء لقوته في هذه الآية؛ لأن إنزال الجملة مرة واحدة أقوى من إنزال كلّ جزء من الأجزاء بمفرده»([89]).
الصفات: هذا العنصر يكاد ينعدم، ولم أجد له تمثيلًا في الصفات المبينة أو الحاكمة، وإنما وجدتُ له مثالًا في الصفة المصنفة عن موقع لفظ البشر في سياق سورة الناس، وسبب اختياره، حيث يقول: «واختير لفظ الناس من بين الألفاظ المشاركة له في الدلالة كالبشر والبرية؛ لأنه يَنُوسُ ويضطرب وينساق، وهي صفات يلزمها التوجه ويسهل التوجيه، فلا غنى لصاحبها عن توفيق الله للوجهة الصالحة والتسديد فيها ما دام لا يملك لنفسه ذلك، وما دام محاسبًا عليه، وما دامت هناك قوّة مسلطة تنزع به إلى الشر»([90]).
العلاقات: وهي بأنواعها الثلاثة متوسطة الحضور، وهذه أمثلتها:
– علاقة الائتلاف:
قوله عن مصطلح الفلق: «الفجر المفلوق المفري، ومن لطائف هذه اللغة الشريفة أن الفتح والفلح والفجر والفلق والفرق والفتق والفري والفأ والفقأ والفقه كلها ذات دلالات واحدة، وتخصيصها بمتعلقاتها باب من فقه اللغة عظيم»([91]).
– علاقة الاختلاف:
قوله عن مصطلح المكروه: «هو المبغوض المسخوط عليه، وهو ضد المحبوب المرضي عنه»([92]).
– علاقة التداخل والتكامل:
قوله عن مصطلح العلم من حيث معناه الأصلي والفرعي: «والعلم إدراك جازم مطابق للواقع عن بينة، سواء كانت تلك البينة حسًّا ومشاهدة أو برهانًا عقليًّا، كدلالة الأثر على المؤثر والصنعة على الصانع، فإذا لم تبلغ البينة بالإدراك رتبة الجزم فهو ظنّ، هذا هو الأصل، ويطلق العلم أيضًا على ما يكاد يقارب الجزم ويضعف فيه احتمال النقيض جدًّا»([93]).
الضمائم: من أمثلته: لما درس مصطلح الخسار ذكر أنواع إضافاته فقال: «الخسار: النقص والضياع يكون في الأموال، يقال: خسر ماله إذا ضيعه، ويكون في النفوس فيقال: خسر نفسه إذا ضيعها ولم يستعملها فيما خلقت له من الطاعة والكمال، ويكون في الدين فيقال: خسر دينه إذا ضيعه ولم يعمل به، فخاسر القرآن هو من ضيعه ولم يؤمن به»([94]).
المشتقات: وهي قليلة التعرض، خاصّة إذا حددنا المشتق بكلّ لفظ اصطلاحي ينتمي لغويًّا ومفهوميًّا إلى الجذر الذي ينتمي إليه المصطلح المدروس، ومن الأمثلة المتعلقة بهذا الباب تفصيله الاشتقاقي لمصطلح تبارك، حيث يقول -رحمه الله-: «تبارك: مادة برك كلها ترجع إلى معنى الثبوت، منها بروك الإبل استناختها، والبركة كالقربة مثل الحوض يثبت فيها الماء، والبراكاء الثبات في الحرب، ومنها البركة بمعنى النماء والزيادة، ولا ينمو ويزيد إلا ما كان ثابت الأصل، وشأن ثابت الأصل أن ينمو ويزيد، فلم تخرج عن الثبوت، وتبارك من البركة، فمعناه تزايد خيره، والله تعالى له الكمال ومنه الإنعام، فتبارك؛ أي: تزايد كماله وإنعامه فلا تحصى إنعاماته ولا تُحَدّ كمالاته»([95]).
القضايا: وهو العنصر الذي طغى على بقية العناصر؛ حيث تمثل تقريبًا بأنواعه في كلّ آية مفسرة، سواء الأنواع، أو الأقسام، أو الأركان، أو الشروط، وهذا بعض ما جاء منها:
– حديثه عن شروط السعي المشكور في آية: {وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا}[الإسراء:19]([96]).
– حديثه عن أنواع القضاء في قوله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}[الإسراء:23]([97]).
– حديثه عن أقسام الشياطين لما فسّر قوله تعالى:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}[الناس:6]([98]).
– حديثه عن أركان الدعوة من خلال قوله تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن}[النحل:125]([99]).
– بسطه لمسائل تتعلق بالتكريم الرباني للنوع الإنساني من خلال قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ}[الإسراء:70]([100]).
يعد تفسير ابن باديس من التفاسير التي جمعت بين العتيق والجديد، عتيق في التأصيل، جديد في التفعيل، ولكن الباحث فيه عن أثر الدراسة المصطلحية بمميزاتها العلمية والمنهجية وبالمقاييس التي نريدها اليوم لن يجد فيه شيئًا كثيرًا، فحقيقة الاعتناء بالمصطلح القرآني موجودة، ولكن بالكَمِّ الذي يتصوره المعتني بالدراسة المصطلحية ضئيل، ويزداد قلّة في مفتاح المفتاح الذي هو منهجية البحث المقررة، ورغم محاولتي المتواضعة في حصر جهوده بتتبع تفسيره كلمة كلمة، إلا أني لا أدعي الإحاطة والشمول.
هذا الحضور لعناصر المنهجية المصطلحية، وإن لم يلتزم فيه ترتيب معين، أو اهتمام متقارب، أو تنظيم وفق ما تم اقتراحه والعمل عليه في الدراسة الحديثة؛ لكن مع ذلك يجب التنبيه إليه، والاعتذار لصاحبه بتقدم وفاته، وأول التجديد -كما قيل- قتل القديم فهمًا، فلا يسعنا ونحن نروم دراسة عصرية تجديدية أن نضرب صفحًا عن تراث أسلافنا، فهم السابقون، والمصطلحيون، والمصلحون، ونحن نسير خلفهم مُلَمْلِمين ما استطعنا بما خلفوه، ودراسته وتخليصه وقتله درسًا واستقراء، وفق آليات العصر التي فرضت نمطًا من البحث لم يفرض من قبل؛ لمواكبة زمن المتغيّرات بالثوابت الراسيات، والمناهج القرآنية المستمدة من تاريخ تراثنا الغابر، والممتدة في عصرنا ومستقبلنا؛ بإبداع مصطلحي لبناء الذات، واستقلال مصطلحي لحوار الذات، وتفوق مصطلحي لشهود الذات.
والذي يسعني أن أقدمه من اقتراحات أو توصيات في خاتمة هذا البحث، والتي أحسبها قد كشفت جانبًا مظلمًا من أهم جوانب تفسير ابن باديس، العناية بالمصطلح القرآني والاهتمام به، ما يلي:
– اعتماد تفسير ابن باديس في تأريخ مفاهيم المصطلحات القرآنية، فدرسه كان بحقٍّ تجديدًا معرفيًّا حديثًا لكثير من المصطلحات التي كساها الزمن عوامل التحوير والتحريف.
– مواصلة الكشف عن مواضع الجِدّة في التراث التفسيري الحديث؛ لاعتماده أو إهماله في عملية الجمع والتوثيق.
– تأطير الطلبة في مراحل دراستهم الجامعية بأصول المنهج المصطلحي، وذلك بمحاولة التنسيق مع رؤساء الجامعة لإدخال المادة في برامج الدراسة، وتدريبهم بالبحوث، فجلّ الدارسين في غيبةٍ عن وعي وفقه المنهج.
___________________________________________
– أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، أبو القاسم سعد الله، دار البصائر، الجزائر، طبعة خاصة، 2007م، جزأين.
– اتجاهات التفسير بالغرب الإسلامي في القرن الرابع عشر الهجري، عبد الله عوينة، دار الأمان، الرباط، ط1، 2012م.
– بحوث المؤتمر العالمي الثاني للباحثين في القرآن الكريم وعلومه، مطبعة آنفو، فاس، 2013م، جزأين.
– تاريخ الجزائر الثقافي، أبو القاسم سعد الله، دار البصائر، الجزائر، طبعة خاصة، 2007م، عشرة أجزاء.
– التجديد في التفسير في العصر الحديث -مفهومه وضوابطه واتجاهاته-، دلال السلمي، رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى، كلية أصول الدين، قسم الكتاب والسنة، شعبة التفسير وعلوم القرآن، 2014م.
– التجديد في التفسير، نظرة في المفهوم والضوابط، عثمان أحمد عبد الرحيم، مجلة الوعي الإسلامي، الكويت، بدون.
– التجديد في التفسير، يحي شطناوي، مجلة ثقافتنا للدراسات والبحوث، سوريا، المجلد السادس، العدد 23، 2010م.
– جريدة البصائر.
– جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ودورها في الحركة الوطنية الجزائرية (1931-1954)، مازن صلاح حامد المطبقاني، رسالة ماجستير بجامعة الملك عبد العزيز، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم التاريخ، 1406ه.
– جوانب مجهولة من زيارة محمد عبده للجزائر، المهدي البوعبدلي، مجلة الأصالة، الجزائر، العدد 54/55، 1978م.
– الحركة الوطنية الجزائرية، أبو القاسم سعد الله، دار الغرب، بيروت، ط1، 1992م، ثلاثة أجزاء.
– حقائق وأباطيل، عبد الرحمن شيبان، منشورات ثالة، الجزائر، ط2، 2009م.
– الخطاب القرآني ومناهج التأويل نحو دراسة نقدية للتأويلات المعاصرة، عبد الرحمن بودرع، مركز الدراسات القرآنية، الرباط، ط1، 2014م.
– دراسات مصطلحية، الشاهد البوشيخي، دار السلام، مصر، ط1، 2012م.
– ديوان محمد العيد آل خليفة، محمد العيد خليفة، دار الهدى، الجزائر، 2010م.
– سجل مؤتمر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين المنعقد بمركزها العام (نادي الترقي) بالجزائر 1354ه/1935، دار كردادة، الجزائر، طبعة خاصة، 2014م.
– شروط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، 1986م.
– شعراء الجزائر في العصر الحاضر، محمد الهادي السنوسي، المطبعة التونسية، تونس، ط1، 1936م.
– الشيخ المولود الحافظي حياته وآثاره، محمد الصالح آيت علجت، منشورات دار الكتب، الجزائر، 1998م.
– عبد الحميد بن باديس مفسرًا، حسن عبد الرحمن سلوادي، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1984م.
– مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، عبد الحميد بن باديس، تحقيق: جماعة من الباحثين، دار البعث، قسنطينة، ط1، 1982م.
– مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، عبد الحميد بن باديس، تحقيق: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1995م.
– المرجع في تاريخ الجزائر المعاصر، مقلاتي عبد الله، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2014م.
– المفسرون مدارسهم ومناهجهم، فضل حسن عباس، دار النفائس، الأردن، ط1، 2007م.
– مفهوم التأويل في القرآن الكريم دراسة مصطلحية، فريدة زمرد، مركز الدراسات القرآنية، الرباط، ط1، 2014م.
– من قضايا تاريخ الجزائر المعاصر، إبراهيم مياسي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1999م.
– المنهج النقدي في التفسير عند ابن باديس، محمد دراجي، مجلة الموافقات، الجزائر، العدد السادس، 1997م.
– منهجية البحث في المصطلح القرآني من الدراسة المصطلحية إلى التفسير الموضوعي، جميلة زيان، imagerie pub neon، المغرب، ط1، 2013م.
– نشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في فرنسا (1936-1956)، سعيد بورنان، دار هومة، الجزائر، 2011م.
[1] المرجع في تاريخ الجزائر المعاصر، مقلاتي عبد الله، ص9 وما بعدها.
[2] أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، أبو القاسم سعد الله، ج1، ص35.
[3] من قضايا تاريخ الجزائر المعاصر، إبراهيم مياسي، ص21.