هذا بعض تفصيل بخصوص تَخريج قول السَّادة المالكية بعلّة الكراهة للقراءة الجماعيَّة من أقْوالهم ولكي لا يَظن الظَّان بأنَّ قولهم بالكَراهة يُحمل على العمُوم وبهذا التَّفصيل فيه جواب لمن أزمع أنَّها من البدع المحدثة التي تخالف النُّصوص العامة وهو ما لا يوافقه القائلين بالكَراهة فحَشر البعض قول المشهور للسَّادة المالكية تحت هذه الجُزئيَّة بعدُّ من باب التقوُّل عليْهم بل تطبيقهم وتَصريحهم يُناقض هذا الفَرض.
قال الإمام الونشريسي المالكي في المعيار [ 1/155 ] :
(( وسئل – العلاَّمة الأصُولي ابن لبّ المالكي- عن قراءة الحزب في الجماعة على العادة[1] ، هل فيه أجر مع ما نقل فيه ابن رشد من الكراهة؟
فأجاب:
أما قراءة الحزب في الجماعة على العادة فلم يكرهه أحد إلا مالكا على عادته في إيثار الاتباع[2].
وجمهور العلماء على جوازه واستحبابه[3].
وقد تمسكوا في ذلك بالحديث الصحيح: “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده “.
ثم إن العمل بذلك قد تضافر عليه أهل هذه الأمصار والأعصار[4] ، وهذه مقاصد من يقصدها فلن يخيب من أجرها :
-منها تعاهد القرآن حسبما جاء فيه من الترغيب في الأحاديث،
-ومنها تسميع كتاب الله لمن يريد سماعه من عوام المسلمين، إذ لا يقدر العامي على تلاوته فيجد بذلك سبيلا إلى سماعه،
-ومنها التماس الفضل المذكور في الحديث إذ لم يخصص وقتا دون وقت،
ثم إن الترك المروي عن السلف لا يدل على حكم إذا لن ينقل عن أحد منهم أنه كرهه أو منعه في ذينك الوقتين.] أهـ.
-فهذا النَّص مُهمٌّ جدًّا لأحد المالكية الكبار وهو كالتَفسير لما أُجمل في غيْر هذا الموطن إذ المـــُكرّه من المالكية لهذه الصورة لا يخرج عن أصل إمامه “وهو إيثار الاتباع” وهو لا يدلُّ على نَهي صَريح وليسَ هذا [الاتباع] بقول له في هذه المسألة فقط فهوَ كمنهج مُطرد لكنَّه يتخلف في بعض الأحيان خُصوصا إذا دَعت الحاجة إلى ذلك وفي غيْر هذه المــَسألة الكثير من الجُزئيَّات ممَّا لا يُوافق من حشَر قوْلهم على الكراهة وعدم الجواز مُطْلقًا فلما هذا التحكّم والتَّشهي والتَّرجيح بدون مُرجّح.
– والمــَقاصد المذكُورة [ تعاهد القرآن …إلخ ]لا يَشكُّ العاقل بأنَّها جالبة للمصالح مئنَّة التي حثَّ الشَّارع على تَحصيلها وما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به فهوَ واجب مثْله.
ويُقال:
– إنَّ قراءة القرآن جماعة لا يُوجد نصٌّ ينصُّ على كراهة هذه الصُورة وإنما العمل لم يدلَّ عليها كأثر مَنقول ليس إلاَّ والكراهة المذكورة هيَ من هذا الجنس لا الكراهة الشَّرعية ولا يخفى أنَّ عدَمُ ورود العمَل لا يدلُّ على النَّهي كما سيأتي تفْصيله إذ لقائل يَقول الكراهة التي أزمعتَ أنَّها كذلك ما هو ضابطها عندك أليس القيْد “ما وردَ النّهي من الشَّارع عنه نهيَّا غير جازم” فأين هو النَّهي المفروض في هذه المسألة فعَدم وجود النَّهي يُبطل إطْلاق هذا الاسم من جهة الاصطلاح لا من جهة اللّغة والأخير هو المقْصود من إطْلاق بعض الأئمَّة.
–والمَصالح الموجودة في هذه الصُورة كثيرة ومتعددة وهي وسائل صحيحة لا تعارض أصْلاً واتباعٌ صحيح لعمومات الكتاب والسنَّة وهذا تقْديم للراجح.
-إنَّ إثبات الكراهة دليل الجواز إذ المـَـكروه جائز الفِعْلِ اتفاقًا فدلَّ على بُطْلان الأصل الذي استدلوا به في حَشر مُراد قول المالكية بالنَّهي مُطْلقًا فهوَ مُناقض لما فَرَضوه دليلاً فحَشرهم لأقوال الأئمَّة هو للاجتناب وأقوال الأئمّة على فرض صحة التسليم بظاهرها مُخالفة لما يَتوهمونه دليلاً ؛ “فقيْد الكراهة” يُبطل الاستدلال.
–التَرك لا يدلُّ على النَّهي إلاَّ جواز المـَــتروك وهذه المسألة معروفة في الدّرس الأصولي بمسألة التَرك ولقد فصَّل فيها القَول الشيخ المحدّث عبد الله الغمـــاري رحمه الله في رسالته ( حُسن التفهم والدَرك في مسألة التَّرك).
– وذكرَ الإمام القابسي وجْهًا آخرَ وهو من كبار المالكية عندما سئل فأجاب : ” إن اجتماعهم على القراءة بحضرته يُخفي عليه القوي الحفظ من ضعيفه فإذا زالت علة الغرر زال الحكم بزوالها” المعيار8/249.
فتأمَّل لهذا لتَّعليل من إمام مثل القابسي المالكي وهو وإن كان الوَجه المـَذكور يَقصد النَّهي من الشَّارع وهو ما لا يُوجد فيه دليل ولكنَّه كالجواب على ما ذَكروه فرض صحته.
– وعلّق العلاَّمة أبو العباس الونشريسي على اشتهار ذلك عن بعض الأعلام بقوله:
[ لكن إنما يقرؤون لله تعالى ، فلا يدركهم هذا الحكم المذكور، وهذا بعد تسليم جواز الاجتماع على القراءة وهو مذهب الجمهور ، وتُعضّده الآثار الصحيحة ؛ أي أنهم لا يتقاضون على تعليمهم أجرا ، فلا يلحقهم حكم الكراهة ؛ أما جواز القراءة الجماعية في غير وجه التعليم المأجور فهو مسلَّم كما ترى. ] أهـ
فكلامه رحمه الله تعالى ظاهر بنُصرة القائلين بالجواز وأنَّه الرَّاجح دليلاً إذ الجمهُور على هذا القَول وكذا الآثار الصحيحة وإعمالا للأصل المـُشتهر على السَّادة المالكية “الخُروج من الخلاف” لا يبقى لدينا مجَال للشَّك على انتفاء علّة الكراهة.
توجيه آخر:
معْلوم أنَّ القَول بالكراهة هو القَول المــَشهور في المـَذهب لا من حيث العَمل والتَطبيق وإنَّما من حيث النّسبة إذ التَّطبيق على الجواز والاستحباب وهُنا الــمَشْهُور تعارض معَ الرّاجح إذ الرَّاجح ما قويَ دليله وهو ما نصَّ على عمُومه هُنا أي في مسألة القراءة الجماعية وهو مذْهب للجمهور كما سبق فيُقدَّم الرَّاجح على الـمَشهور
كما قال من قال:
إن عارض المشهور راجح واجب*** بالرّاجح العمل حسبما نُسب
وقال أحد الأئمَّة :
مشهورهم لراجح تعارضا***يقدم الراجح وهو المرتضى
ولعله من نافلة القَول الإشَارة لمسألة : [ التَرك] !!!
تَرك النبي صلى الله عليه وسلّم لفعل مــا أو تَرك السّادة الصحابة والتَّابعين من غير بيان من الشَّارع لا يدلُّ على تَحريم ولا كَراهة كما نُصَّ على ذلك في الدَّرس الأصُولي.
قال الشَّيخ السيّد عبد الله الغماري في الرّد المـُحكم المـَتين مـــا نصُّه : ((أن ترك الشيء لا يدل على تحريمه، وهذا نص ما ذكرته هناك:
والترك وحده إن لم يصحبه نص على أن المتروك محظور لا يكون حجة في ذلك بل غايته أن يفيد أن ترك ذلك الفعل مشروع، وإما أن ذلك الفعل المتروك يكون محظوراً فهذا لا يستفاد من الترك وحده، وإنما يستفاد من دليل يدل عليه.
ثم وجدت الإمام أبا سعيد بن لب ذكر هذه القاعدة أيضاً، فإنه قال في الرد على من كره الدعاء عقب الصلاة: غاية ما يستند إليه منكر الدعاء إدبار الصلوات أن التزامه على ذلك الوجه لم يكن من عمل السلف،
وعلى تقدير صحة هذا النقل، فالترك ليس بموجب لحكم في ذلك المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج فيه، وأما تحريم أو لصوق كراهية بالمتروك فلا، ولا سيما فيما له أصل جملي متقرر من الشرع كالدعاء.
وفي المحلى (ج2 ص 254):
ذكر ابن حزم احتجاج المالكية والحنفية على كراهية صلاة ركعتين قبل المغرب بقول إبراهيم النخعي أن أبا بكر وعمر وعثمان كانوا لا يصلونهما ورد عليهم بقوله: لو صح لما كانت فيه حجة، لأنه ليس فيه أنهم رضي الله عنهم نهوا عنهما.
قال أيضاً:
وذكروا عن ابن عمر أنه قال: ما رأيت أحداً يصليهما.
ورد عليه بقوله:
وأيضاً فليس في هذا لو صح نهيٌ عنهما، ونحن لا ننكر ترك التطوع مَا لم ينه عنه.
وقال أيضاً في المحلى (ج2 ص 271):
في الكلام على ركعتين بعد العصر: وأما حديث علي، فلا حجة فيه أصلاً، لأنه ليس فيه إلا إخباره بما علم من أنه لم ير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاهما، وليس في هذا نهي عنهما ولا كراهة لهما، فما صام عليه السلام قط شهراً كاملاً غير رمضان وليس هذا بموجب كراهية صوم شهر كامل تطوعاً .أهـ.
فهذه نصوص صريحة في أن الترك لا يفيد كراهة فضلاً عن الحرمة. )) أهـ رحمه الله.
وهذه المَسألة على عدم التَّسليم باندراجها تَحت العمُوم الوارد في الآثار الصحَّيحة ففي هذه القاعدة مندُوحة للعمَل بمُقتضاها والله الموفّق.
ونَختم بعدَ هذا الإجْمال :
بنصّ من كبار أئمَّة الحنابلة يَنقض عليهم الاستدلال وحَشرهم لأقوال الأئمة على غير ما أرادوا وإلزَام لهم بنفس الصنيع.
-قال البهوتي رحمه الله في شرح منتهى الإرادات 1/256[ولا تكره قراءة جماعة بصوت واحد].
-وقال الحافظ ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى5/345
[وقراءة الإدارة حسنة عند أكثر العلماء ومن قراءة الإدارة قراءتهم مجتمعين بصوت واحد]
تأمَّلوا لنصيهما ففيه إثبات للمدَّعى …
وكذا هو معتمد مذهب الشافعية والأقوى عند الحنفية وهو المستحب عند الحنابلة.
وليْس الغَرض من هذا الإجمَال بيان المسألة تفْصيلاً فهذا له موضع آخر والله الموفّق.
ونسأل الله تعالى الهداية للتي هيَ أقْوم !!!
الهوامش:
[1]قوله على العادة فيه إثبات على أنَّ المسألة كان عليها العمَل آنَ ذاك في الكتاتيب والمعاهد والزاويا بل كانت من وسائل التَحفيظ والتَّرسيخ عندهم
[2]قيد مُهمُّ لمن تأمَّل إذ الاتباع هُنا منهج كُلي للإمام ولا يَعني به عدم جواز فالمُنْكر مُطالب بدليل جُزئي هُنا وهو ما لا يَجد.
[3]الجمُهور هُنا ما عدا المالكية قائلون بالجواز والاستحباب والنُّصوص من كُتبهم ظاهرة وكذا عندَ المُحققين من السَّادة المالكية كما هو ظاهر من قول العلامة ابن لب والونشريسي وغيرهما.
[4]كلام ظاهر السَّلامة ومَبني على مَلْحظ المــَصلحة التي هي أحد مقاصد الشَّارع بل حيْثُما وُجدت المَصلحة فثمَّ شَرعُ الله تعالى وللتمثيل لها من غير هذه المسألة معْروف إذ الكراهة كانت قبْل الذيُوع وبعدَ الانتشار والذيُوع يَكون لها حُكمٌ آخر خصُوصا عندَ زوال بعض ما كان يتوهمُّ أنَّه مفْسدة والعلة تدور مع معْلولها تبَعًا.
جزاكم الله كل خير وربي ينوركم كما نورتونا في بعض امور ديننا لاننا اصبحنا نعاني من تفكير بعض الخلق من يدعون انهم سلفيين ويصدرون بعض الأحكام والفتاوي من دون علم او تخصص واطلاع على امور الفقه،مثل موضوع قرأة الحزب الراتب جماعة.
بارك الله فيكم