لا شك أن شهداء البحث العلمي كثيرون، وما كان للعلم أن يتقدم لولا تضحيات العلماء، وقد صدق من قال أن العالم كالشمعة التي تحترق لتضيء الناس. ولقد كان من بين هؤلاء العلماء الشهداء المؤرخ والمحقق الأستاذ رابح بونار (1923-1974) الذي نتذكره في هذا المقال من باب الوفاء والاعتراف حتى لا تمر الذكرى الرابعة والأربعون لوفاته في صمت.
ما هي أبرز المحطات في حياته القصيرة العامرة؟ وما هي أهم المخطوطات التي حققها ونفض عنها غبار السنين؟ وما هي إسهاماته في كتابة تاريخ الجزائر؟
محطات في حياة رابح بونار
ولد رابح بونار في قرية أرجاونة بأعالي مدينة تيزي وزو في 25 أفريل 1923. درس العلوم الشرعية واللغوية في العديد من الزوايا المنتشرة في منطقة الزواوة، ثم سافر في عام 1940 إلى مدينة تبسة للدراسة في مدرسة تهذيب البنين على الشيخ العربي التبسي (1895-1957) الذي توسّم فيه النجابة والنباهة، فنصحه في عام 1941 بالسفر إلى تونس ليواصل تحصيله العلمي في جامع الزيتونة. وقد توّجت جهوده بنيل شهادة الأهلية في عام 1944، ثم عاد إلى تونس في عام 1948 لنيل شهادة التحصيل من نفس الجامع في سنة 1951.
ولم يقتصر الطالب بونار على التحصيل العلمي في جامع الزيتونة والمدرسة الخلدونية، وإنما كان له نشاط طلابي في جمعية بعثة الزيتونيين المرتبطة بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكانت تهتم بالأحوال الاجتماعية للطلبة وتنظيم النشاطات الثقافية. وقد وصفه أحد رفقائه في تونس – وهو محمد الصالح الصديق- فقال:
«درسنا معا بجامعة الزيتونة، وكنا صديقين حميمين نتساقى راح الأنس، ونتطارح حديث الود والإخاء، ونستروح أرج الأمل في المستقبل… وكنت له خير حافز على الجد في الدراسة، كما كان لي أيضا خير حافز على ذلك.
وكان هذا التنافس بيننا يدفعنا دأبا إلى قراءة الكتب النافعة، وحضور المحاضرات القيمة المفيدة، والسهر إلى ما بعد منتصف الليل مطالعة ومذاكرة، وعدم الاكتفاء بما نكلّف به من قبل الأساتذة من أعمال أدبية وعلمية، فإذا ما غاب عن عيني ساعة لم أتخيله إلاّ منكبا على كتاب يطالعه، أو أوراق يكتبها، أو جالسا في قاعة يستمع إلى محاضرة». وقد نشر بونار تقريرا مفصلا عن أعمال جمعية البعثة في جريدة “البصائر” في عددها 120 الصادر في 22 ماي 1950 م.
وبعد عودته من تونس، استقر بونار في مدينة تيزي وزو للتدريس البنين والبنات في مدرسة الشبيبة.
وكان يقوم كذلك بالوعظ والإرشاد في المساجد والنوادي الإصلاحية الموجودة في هذا الإقليم الجزائري.
ولما اندلعت الثورة التحريرية انضم إلى صفوف المجاهدين الذين اختاروه قاضيا شرعيا. وبعد استرجاع الاستقلال في سنة 1962، عمل بونار محررا في جريدة “الشعب” ثم أستاذا للأدب العربي بثانوية الإدريسي بالجزائر. في عام 1969 انتدب من وزارة التربية إلى المكتبة الوطنية للمساهمة في مشروع إنجاز فهرسة عامة للمخطوطات.
اغتنم راح بونار فرصة وجوده بالجزائر العاصمة للعودة إلى التحصيل العلمي في الجامعة، فدرس الحقوق وتحصل على شهادة الليسانس في عام 1968.
ولم يكتف بهذه الشهادة، فرغم أعماله الكثيرة، فقد أعد بحثين حول “ابن خميس شاعر تلمسان في القرن السابع الهجري”، وآخر حول “المغرب العربي تاريخه وثقافته” لنيل دبلوم الدراسات المعمقة والدكتوراه في التاريخ، لكن المنية سبقته في يوم 25 أكتوبر 1974، فلم يحقق حلمه المنشود، لكنه ترك أثارا كثيرة تشهد له بالكفاءة العلمية والهمة البحثية العالية التي لا نجدها عند العديد من حاملي الشهادات العليا.
جهوده في تحقيق المخطوطات
اهتم رابح بونار بالمخطوطات لهدفين أساسين، فكان هدفه الأول علميا محضا وهو إحياء تراثنا الوطني وإنقاذه من الضياع والاستفادة من قيمته المعرفية. أما الهدف الثاني فهو يتمثل في المساهمة في تفعيل “المقوّمات الأساسية لشخصيتنا وأصالتنا”. بهذه النظرة المزدوجة تعامل بونار مع ذخائر تراثنا المخطوط، وبذل جهدا كبيرا لفهرسته واقتنائه من المكتبات الداخلية والخارجية خاصة المكتبات التونسية والمغربية، ونشره قدر المستطاع ليستفيد منه المهتمون من الباحثين والطلبة.
نشر رابح بونار المخطوطات التالية: “عنوان الدراية فيمن عُرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية” لأبي العباس الغبريني (ت 704 هـ)، و”مصباح الأرواح في أصول الفلاح” لابن عبد الكريم التلمساني (ت 909 هـ)، و”جامع جوامع الاختصار والتبيان فيما يعرض للمعلمين وآباء الصبيان” لأحمد بن أبي جمعة المغراوي (ت 920 هـ) وديوان ابن عبد الله المقدامي، و”تاريخ بايات وهران المتأخرين” أو ” أنيس الغريب والمسافر في طرائف الحكايات والنوادر” لمسلم عبد القادر (ت 1248 هـ)، و”رسالة القحط” أو “مجاعات قسنطينة” لمحمد صالح العنتري (1876 م)، و”تاريخ حاضرة قسنطينة” لأحمد بن المبارك بن العطار (1790-1870 م).
لقد نشر كتاب “عنوان الدراية” للمرة الأولى الدكتور محمد بن أبي شنب (1867-1929) في عام 1910، واعتنى أيضا بنشره وتحقيقه الباحث اللبناني الذي عاش في الجزائر عدة سنوات الأستاذ عادل نويهض.
وقد نشر كتاب “تاريخ حاضرة قسنطينة” لابن العطار الباحث نور الدين عبد القادر سنة 1952، وأعاد تحقيقه بونار، ونشره في عام 1971 في المكتبة العصرية ببيروت.
وترجم المستشرق دلبش أدريان ” أنيس الغريب والمسافر” لمسلم عبد القادر ونشر ترجمته في “المجلة الإفريقية” في عام 1873م. وقد وصف فيه الكاتب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في وهران وما جاورها، وسجل الأحداث التي وقعت فيها بين 1778 و1832م، وكان شاهدا على سقوط مدينة وهران تحت الاحتلال الفرنسي. وهنا تكمن أهمية الكتاب التاريخية.
أما كتاب “جامع جوامع الاختصار والتبيان فيما يعرض للمعلمين وآباء الصبيان”فقد ساعده على تحقيقه ونشره صديقه الشيخ أحمد جلول البدوي (1906-1970م)، وقد صدر في عام 1975م، أي بعد وفاة بونار بسنة واحدة. وتتمثل أهمية هذا الكتاب ليس في “دراسة أساليب التعليم وطرقه، ولا في تفصيل موضوعات العلوم، وإنما تتجلى في إعطائه صورة حية عن واقع تاريخي للتعليم الابتدائي في المكاتب القرآنية لحفظ القرآن وتعلم القراءة والكتابة بتلمسان والمغرب عامة” في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.
ولم تقتصر جهود الأستاذ بونار في هذا المجال على تحقيق المخطوطات ونشرها كلما سنحت له الفرصة، وتوفرت له أسباب الطبع، بل أشرف كذلك على ركن “التعريف بتراثنا المخطوط” في مجلة “الأصالة”، وركن “من تراثنا المجهول” في مجلة “آمال”، وقد عرّف في الركنين مجموعة من النصوص التراثية النادرة تنبيها للباحثين إلى أهميتها وضرورة الاهتمام بدراستها ونشرها خاصة المخطوطات التي تناولت موضوعات علوم الطبيعة من علم الفلك والجيولوجية والرياضيات وغيرها نظرا لحاجتنا الماسة إليها ونحن ننشد التنمية والتقدم.
وأذكر هنا مثالين: مخطوط “أزهار الأحجار” لأحمد بن يوسف التيفاشي الذي تناول موضوعا في علم الجيولوجية، ومخطوط “البارع في أحكام النجوم” لعلي بن أبي الرجال التاهرتي (ت 425 هـ) في علم الفلك.
كما كان يعتمد على المخطوطات غير المنشورة – يومئذ- في تطعيم مقالاته ومحاضراته، فهو استعان على سبيل المثال بمخطوط غير منشور عثر عليه في المكتبة الملكية بالمغرب وهو “طرس الأخبار” لمحمد المرقي. كما استعان بمخطوط ” الاستبصار في عجائب الأمصار” لمؤلف مجهول عاش في القرن السادس عشر الهجري، وهو محفوظ في المكتبة الوطنية الجزائرية.
وقد ساعدت رابح بونار عدة عوامل لتحقيق العديد من مشاريعه العلمية، منها: ارتباطاته العضوية بلجنة التراث بوزارة الثقافة إلى جانب مجموعة من العلماء أمثال أبو القاسم سعد الله (1927-2013م)، وعبد الحميد حاجيات (1929 م)، والمهدي البوعبدلي (1907-1992م)، وحمزة بوكوشة (1909-1994)، وكذلك انتسابه إلى لجنة البحث ودراسة المخطوطات العربية بالمكتبة الوطنية، وتعاونه أيضا مع الشركة الوطنية للنشر والتوزيع التي استحدثت سلسلة باسم ” ذخائر المغرب العربي” التي نشرت مجموعة من الكتب التراثية النفيسة التي أنجزها بونار وكذلك العديد من المحققين الجزائريين كأحمد توفيق المدني (1898-1983) وإسماعيل العربي (1919-1997م)، ومحمد بن عبد الكريم الجزائري (1924 م- 2012م) والمهدي البوعبدلي وغيرهم من الباحثين الجادين.
وهكذا عاش رابح بونار سنوات طويلة بين المخطوطات، و”كان من عادته حين يقلب صفحات المخطوطة أن يبل إصبعه بريقه تسهيلا للعملية… وقد نمت في شفته السفلى حبة سوداء … ثم تطوّرت، فلما استفحلت ولم تجد فيها المراهم ذهب إلى المستشفى لإجراء التحاليل، وهناك ارتابوا في الأمر فأرسلوه غلى ما وراء البحر للعلاج، ولكنه لم يلبث أن توفاه الله” في 25 أكتوبر 1974، وهو في عز عطائه.
الجزائر في مـرآة التـاريخ
نشر رابح بونار باكورة إنتاجه في جريدة “البصائر” التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكانت معظم مقالاته تمس الموضوعات الأدبية. وقد أثارت مقالته: “التوتر النفسي والنهضة الأدبية في الجزائر” سجالا مع أبي القاسم سعد الله.
لا شك أن “المغرب العربي تاريخه وثقافته” يمثل أهم كتب رابح بونار. ويبدو أنه أعده ليقدمه كرسالة جامعية لنيل شهادة الدراسات المعمقة في التاريخ. غير أن هذا العمل الرصين، لم يجد من يكفله، فأخذ مسارا آخر وطبع في شكل كتاب في سنة 1970، وأعيد نشره 3 مرات لحد الآن.
لم يكتف بونار في هذا الكتاب بدراسة تاريخ الجزائر من الفتح الإسلامي إلى دولة المرابطين (50 هـ / 542 ه)، بل ربط الجزائر بامتداداتها المغاربية، حيث وجد كثير من علماء الجزائر شروط الإبداع وحسن الإكرام. وقد ألفه بعد أن رأى إهمال تاريخ الأدب الجزائري وعلومه، واقتصار كتابته على المؤرخين الفرنسيين الذين لم ينصفوه دائما بقراءاتهم الأيديولوجية الاستعمارية.
وقد قسم تاريخ المغرب العربي إلى 5 عصور، وهي: النشوء الثقافي، النهضة الثقافية، والازدهار الثقافي، والنضج الثقافي، ثم الانحطاط الثقافي. وخصّ بونار كل عصر بدراسة جوانبه العلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإيراد تراجم أشهر الأعلام الذين عاشوا في ذلك العصر، وكذلك مختارات أدبية. ولم يكن هذا التقسيم دقيقا ومعبرا عن تلك العصور، وقد نبّهه إلى هذا الخلل ذلك بعض النُّقاد. ولا أدري لماذا اكتفى رابح بونار بالكتابة حول العصور الثلاثة الأولى دون دراسة العصرين الباقيين؟
لقد نشر رابح بونار مقالات تاريخية عديدة في المجلات الجزائرية: “الأصالة” و”المعرفة”، اللتين كانت تصدرهما وزارة الشؤون الدينية، و”الثقافة” و”آمال” اللتين كانت تصدرهما وزارة الثقافة. كما وجدت مقالا له صدر في مجلة “المجلة” المصرية. ولا شك أنه نشر أيضا في مجلات عربية أخرى، نتمنى أن تصل إليها أيادي الباحثين. وأنا على يقين أنه لو جمعت كل هذه المقالات والدراسات لشكلت مجلدا ضخما يشمل تاريخ الجزائر الأدبي في القديم والحديث.
اهتم بأعلام الجزائر بالكتابة عن حياتهم وأعمالهم ونشر نصوص من مخطوطاتهم أو مصادرهم النادرة، وأذكر منهم: عبد الحق الإشبيلي البجائي (510-582 ه)، وأبو علي المسيلي (ت 580 ه)، أبو بكر محمد بن داود (ت 681 ه)، والقاضي سعيد العقباني التلمساني (ت 720 هـ)، وإبراهيم بن أحمد الفجيجي صاحب القصيدة “روضة السلوان”.
كما كتب عن مجموعة من الأعلام في مقال واحد كمقاله عن مشاهير الأدب والسياسة الذين عاشوا في مدينة الجزائر عبر العصور، أو دراسة عن الرحالة الذين زاروا مدينة بجاية في فترات مختلفة.
وعلى الرغم من أن تخصصه الأول كان في تاريخ العصر الوسيط إلا أنه كتب في قضايا التاريخ المعاصر، فقد نشر مقالات عن الأمير عبد القادر عالج فيها جوانب متعددة من هذه الشخصية الفذة. وكتب أيضا عن محمد الشاذلي بن محمد بن عيسى القسنطيني (ت 1875م)، ومحمد عبد الرحمان الديسي (1854-1921)، وعبد الحميد ابن باديس (1889-1940م)، متناولا مجهوده في تفسير القرآن الكريم الذي دأب عليه في جامع الأخضر بقسنطينة مدة 25 سنة. وذكر الباحث الدكتور محمد أرزقي فراد أن رابح بونار أعد كتابا عن الشاعر الأمازيغي سي محند أومحند (1848-1905 م) ولكنه لم يكمله.
وفي مجال تاريخ المدن، نشر بونار نصا للسان الدين الخطيب عن مدينة بجاية، ونشر نصا طويلا أقتبسه من كتاب “نفسية الجمان في فتح وهران” لأبي راس الناصري (ت 1823 م) الذي تناول تاريخ مدينة الجزائر. كما نشر “تاريخ بايات وهران المتأخرين” لمسلم عبد القادر و”تاريخ حاضرة قسنطينة” لأحمد بن المبارك بن العطار كما أشرت إلى ذلك من قبل في المبحث الخاص بالمخطوطات.
كما كانت له تجارب في كتابة القصة القصيرة، وأذكر هنا قصة ” الشيخ جمعة” وهي مستوحاة من أحداث وقعت في قرية من قرى جبال جرجرة خلال الثورة التحريرية وكان بطلها الأساس إمام القرية وحكيمها الشيخ جمعة. كما نشر قصة أخرى سماها “البقال الحزين” التي تروي أيضا أحداثا تعبر عن الحياة الاجتماعية للجزائريين خلال المرحلة الاستعمارية.
واستمر اهتمامه بالأدب وتاريخه فنشر كتابا في عدة أجزاء عنوانه :” المطالعة الأدبية” موجها للمتمدرسين، وقدم كذلك برامج إذاعية في الأدب والتاريخ، ما زال الناس يتذكرونها إلى اليوم.
لقد كان حلم رابح بونار أن ينفض الغبار عن تراثنا الأدبي والتاريخي الذي ظل قرونا مغمورا يجهله الناس، ولم يدخر جهدا لتحقيق هذا الحلم على حساب صحته وماله وراحة أبنائه. وقد روت ابنته لطيفة بونار أنه كان لا ينام ” إلا بضع ساعات كل ليلة ليكمل أعماله الكثيرة من تحقيقات وتأليف الكتب”.
تنوعت كتابات الأستاذ رابح بونار بين المقالات القصيرة والدراسات الموثقة بالمصادر والمراجع. وتناولت في غالب الأحيان قضايا من تاريخ الجزائر الثقافي عبر العصور. أما في مجال تحقيق التراث، فإنه حرص دائما على الالتزام بقواعد التحقيق المعروفة كالمقارنة مع النسخ المتوفرة سواء المحفوظة في المكتبة الوطنية الجزائرية أو المستقدمة من رحلاته العلمية إلى خارج الوطن، وكتابة مقدمات تحليلية طويلة تتجاوز أحيانا 50 صفحة، وشرح المصطلحات والأعلام في الهوامش والحواشي، ووضع الفهارس.
وخلاصة القول أن الأستاذ رابح بونار أنقذ مخطوطات كثيرة من الضياع، ونشر عددا منها ليس ليستفيد منها الآخرون من قيمتها العلمية فقط، وإنما ليساهم كذلك -باعتباره مثقفا مرتبطا بهموم مجتمعه وتطلعاته- في الجهود الرامية إلى الحفاظ على الهوية الجزائرية، وتعميق انتمائها الحضاري، والارتقاء بموروثها الثقافي.