الرئيسية / مقالات و دراسات / دراسات جزائرية / مقياس الرجولة والعظمة في نظر الإمام البشير الإبراهيمي – الدكتور مسعود فلوسي

مقياس الرجولة والعظمة في نظر الإمام البشير الإبراهيمي – الدكتور مسعود فلوسي

Print Friendly, PDF & Email

من قديم شُغِلَ الناسُ بالرجال العظماء وامتلأت نفوسهم بمشاعر التقدير لهم في حياتهم ودوام ذكرهم بعد مماتهم، ويبدو أن ذلك راجع إلى أن الناس بمقتضى ما فطرهم الله عز وجل عليه يشعرون من أنفسهم بالعجز عن بلوغ الكمال والسمو في مراتب المجد، فإذا ما وجدوا من يتقدمهم في هذا المضمار، سارعوا إلى الانبهار به وإضفاء صفات التميز والتفرد عليه، وربما رفعوه إلى مقامات لم يحلم بالوصول إليها وأضفوا عليه من الصفات ما لم يخطر له على بال. وإلى هذه الطبيعة في بني الإنسان يشير الإمام الإبراهيمي، إذ يقول:

“من الغرائب التي ينطوي عليها الاجتماع البشري؛ أن أفراده وجماعاته يشعرون بالقصور عن مراتب العظمة، ويشعرون أنهم مفتقرون إليها، لا تستقيم لهم حياة بدونها، فإذا لم يوجد فيهم عظيم ولم تَسُقْهُ إليهم المقاديرُ ساقتهُ الأساطيرُ، فتُصَوِّرُ لهم أخْيِلتُهُم عظيما ويُفِيضُون عليه من التمجيد ما يُصَوِّرُه مثلا أعلى ويُصَيِّرُه مرجعا أسمى، ثم يَعْمِدُون إلى معاني العظمة الكاملة المتفرقة فيهم فيخلعونها عليهم إعارة ليأخذوها عنهم استعارة، بالقدوة والاتصاف في الأعمال، أو بالتمثل والاستشهاد في الأقوال” [الآثار، 3/588-589].

بيد أن المعروف المشاهد في هذا الباب أن مقاييس الحكم بالرجولة والعظمة تختلف بين الناس، وخصوصا بين أتباع الملل والنحل، وأشياع المذاهب والأفكار، والأحزاب والجمعيات، قديما وحديثا. وإن هذه المقاييس لتتعدد، حتى لتكاد تختلف في بعض الأحيان بين شخص وآخر، حيث يرى كل منهما أن الرجولة والعظمة لا تتحقق في إنسان إلا إذا توفرت فيه صفات معينة يشترك فيها مع غيره من العظماء أو ينفرد بها دونهم، وهذه الصفات مختلف في أهميتها وفي تقديم بعضها على بعض.

احتفال الإبراهيمي بالرجال:

نقف في آثار الإمام الإبراهيمي على كثير من المقالات التي تحدث فيها عن شخصيات بعينها، إما في معرض الحديث عن مآثر ميت، أو في ذكرى وفاة رجل عظيم، أو في معرض التعريف بعلم من الأعلام، أو في إطار بيان جهود شخصية من الشخصيات وأثر تلك الجهود في حياة الناس.

وقد أحصيتُ عددَ الشخصيات التي تَحَدَّثَ عنها الإبراهيمي فيما هو مطبوع من آثاره، فوجدتُ أنها بلغت قريبا من أربعين شخصية، منها ما تكرر الحديث عنها عدة مرات، كما كان الحال بالنسبة إلى الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس وتلميذه الأستاذ الفضيل الورتلاني رحمهما الله، ومنها ما وقع الحديث عنها مرة واحدة وهو حال معظم الشخصيات.

واللافتُ للانتباه؛ أن حديثَ الإبراهيمي عن الرجال ينصرف عادة إلى تلمُّسِ مواضعِ التمَيُّزِ والنبوغ والسمو في شخصياتهم، مما هو موضعُ الاقتداء والاتِّباع، ويبتعدُ كل البُعد عن إزجاء المدح إلا إذا كان الممدوح ممن يستحق المدح فعلا.

يقول الإبراهيمي مبينا عن مقياسه في مدح الرجال وإبراز مآثرهم: “إن جريدة (البصائر) لا تمدحُ أحدا إلا حيث يكون المدحُ دعاية إلى حُسْنِ التأسِّي والاقتداء، ولا تُثني إلا على عمل يتصل بمبدئها الديني التعليمي أو يُؤيِّدُه، ولا تُطري إلا المناقب المُذَكرة بأمجاد الأوائل، المُحْيِيَة لمكارمهم وآثارهم في سبيل العلم والخيْرِ العام” [الآثار، 2/168].

ويقول في موضع آخر: “(البصائر) ميزانُ حق، ولسانُ صدق، فهي تزن الرجال بأعمالهم الجليلة، ومواقفهم الشريفة، وتُقَوِّمُهُم بالقيم الإيجابية لا بالقيم السلبية، وهي تمدحُ المستحقين للمدح فلا تشين المدح بالغلو، وتذم المستأهلين للذمّ فلا تزين الذم بالكذب والاختلاق.

و(البصائر) لا تأبه للصيت الطائر في المجامع، والاسم الدائر على الألسنة، والشهرة السائرة في الآفاق، ما لم يكن من ورائها أعمال نافعة تشهد وآثار صالحة تُعهد، وثمرات طيبة تُجنى” [الآثار 3/548].

والإبراهيمي لم يتحدث فقط عن شخصيات علمية صرفة، أو أسماء لامعة مشهورة، وإنما تحدث عن أشخاص ربما كان باعهم في العلم قليلا، إلا أن مواقفهم معروفة وآثارهم في الحياة مشهودة وأعمالهم الخيرة النافعة معلومة.

وهو في حديثه عن كل شخصية يحرص على أن يكشف فيها ما يميزها عن غيرها كل التميز.

فما هو يا ترى مقياس الرجولة والعظمة الذي يتخذ منه الإبراهيمي ميزانا للحكم على الرجال، وسببا إلى استحقاقهم للمدح والثناء؟

الرجال أعمال:

إن مقياس الإبراهيمي الذي لا يخيب في هذا المجال هو مدى ما يقوم به الإنسان من أعمال وما يحققه في الحياة من أهداف، وما يقدمه للإنسانية من خدمات، وفي ذلك يقول: “إذا كانت الشهرة قد تكذب، فإن الأعمال لا تكذب… ونحن حينما نذكر العمل لا نريد به المعنى القاصر في عرف الفقهاء، وإنما نريد منه هذه الأعمال النافعة التي فيها ما في النور والماء من غذاء وقوة وحياة، وفيها ما في الدهر من استمرار وامتداد” [الآثار، 5/548].

بهذا الميزان وفي ضوء هذا المقياس حكم الإبراهيمي على أحب الناس إليه وأقربهم إلى نفسه رفيق دربه وزميل جهاده الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله، فقال فيه:

“باني النهضتين العلمية والفكرية بالجزائر، وواضع أسسها على صخرة الحق، وقائد زحوفها المغيرة إلى الغايات العليا، وإمام الحركة السلفية، ومنشئ مجلة (الشهاب) مرآة الإصلاح وسيف المصلحين، ومربي جيلين كاملين على الهداية القرآنية والهدي المحمدي وعلى التفكير الصحيح، ومُحْيِي دَوَارِسِ العلم بدروسه الحية، ومفسر كلام الله على الطريقة السلفية في مجالس انتظمت ربع قرن، وغارس بذور الوطنية الصحيحة، ومُلقِّن مَبَادِيهَا، عَلَم البيان، فارس المنابر، الأستاذ الرئيس الشيخ عبد الحميد بن باديس، أول رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأول مؤسس لنوادي العلم والأدب وجمعيات التربية والتعليم، رحمه الله ورضي عنه.

وحسبُ ابن باديس من المجد التاريخي؛ هذه الأعمال التي أجملناها في ترجمته، وإنَّ كل واحد منها لأصلٌ لفروع، وفصلٌ من كتاب، وإذا كان الرجال أعمالا فإن رجولة أخينا عبد الحميد تُقَوَّمُ بهذه الأعمال.

وحَسْبُه من المجد التاريخي؛ أنه أحيا أمة تعاقبت عليها الأحداث والغِيَر، ودينا لابسته المُحْدَثات والبدع، ولسانا أكلته الرَّطانات الأجنبية، وتاريخا غطى عليه النسيان، ومجدا أضاعه ورثةُ السوء، وفضائل قتلتها رذائل الغرب.

وحَسْبُه من المجد التاريخي؛ أن تلامذته اليوم هم جنود النهضة العلمية، وهم ألسنتها الخاطبة، وأقلامها الكاتبة، وهم حاملو ألويتها، وأن آراءه في الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي هي الدستور القائم بين العلماء والمفكرين والسياسيين، وهي المنارة التي يهتدي بها العاملون، وأن بناءه في الوطنية الإسلامية هو البناء الذي لا يتداعى ولا ينهار.

وحَسْبُه من المجد التاريخي؛ أن إخوانه الذين حملوا معه معظم الأمانة في حياته، اضطلعوا بحملها كاملة بعد وفاته، في أيام أشدّ تجهما من أيامه، وفي هزاهز ما كان يتخيلها حتى في أحلامه، فما وهنوا ولا هانوا، ولا ضعفوا ولا استكانوا. وأنهم استُخلفوا على النهضة فكانوا نعم الخلف، تَمَّمُوا وعَمَّمُوا، وأجمعوا وصَمَّمُوا، وأنهم وفوا له ميتا كما وفوا له حيا، واعتزوا باسمه بعد مماته، كما كان يعتز بهم في حياته” [الآثار 3/552].

ويشير إلى جوانب العظمة في شخصية أخيه الإمام الرئيس، فيقول عنه كذلك: “عبد الحميد بن باديس عظيم بأكمل ما تعطيه هذه الكلمة من معنى؛ فهو عظيم في علمه، عظيم في أعماله، عظيم في بيانه وقوة حجته، عظيم في تربيته وتثقيفه لجيل كامل، عظيم في مواقفه من المألوف الذي صَيَّرَهُ السكوتُ دينا، ومن المَخُوفِ الذي صيره الخضوعُ إلها، عظيم في بنائه وهدمه، عظيم في حربه وفي سلمه، عظيم في اعتزازه بإخوانه، ووفائه لهم، وعرفانه لأقدارهم.

وإذا كان من خوارق العادات في العظماء أنهم يبنون من الضعف قوة، ويُخرجون من العدم وجودا، وينشئون من الموت حياة، فكل ذلك فعل عبد الحميد ابن باديس من الأمة الجزائرية” [الآثار، 3/589].

ولا يخص الإمام الإبراهيمي أخاه الإمام ابن باديس بالرجولة والعظمة دون غيره، وإنما يضفي هذا الوصف على كل من يستحقه، حتى وإن كان من تلاميذه ومن هم في درجة أبنائه، ومن هؤلاء الأستاذ الفضيل الورتلاني الذي تحدث عنه الإبراهيمي كثيرا ومدحه بأعماله وخصاله، حتى بلغ أن اعتبره الرجل الحق الذي جمع الرجولة من أطرافها: “أقول في ولدي وتلميذي وخالصتي الأستاذ الفضيل الورتلاني، ما يقوله الوالد العاقل الحساس في ولده البرّ، وما يقوله الشريك الأمين في شريكه الأمين، وما يقوله الزميل الشريف في زميله الشريف، وأقول فيه في المشهد ما أقوله في المغيب، ولا أقول -إن شاء الله- إلا حقا. أقول: إنه رجل أيّ رجل، أو إنه الرجل كل الرجل” [الآثار، 4/148].

بل إن الإبراهيمي لا يتردد في إضفاء هذا الوصف على كل من يحقق مصداقه في الواقع، حتى وإن لم يكن من العلماء، يكفي أن تكون له أعمال نافعة خدم بها الناس وترك بها أثرا في الحياة، يقول عن أحد المحسنين الأغنياء الذين شُغِلوا بخدمة الناس والإحسان في أعمالهم ولم تغرهم الحياة ولم تستعبدهم المادة: “محمد خطاب من الأغنياء الذين يظهرون آثار نعمة الله عليهم، ويُحَصِّنُونَها بالإحسان؛ فهو برٌّ بعُمَّاله، برٌّ بأمته ووطنه، وهو نابغة من نوابغ الإحسان… ففي ماله حقوق لله يقسمها على عيال الله، وفي ماله حقوق لأمته يقسمها على مصالحها العامة، وفي ماله حقوق لوطنه الثاني كفاء لما أفاء عليه من خير واعترافا بما لبنيه عليه من فضل الأخوة، وحقوق لوطنه الأول بدأت بذوي القربى والأرحام ورفقاء الصبا والملاعب، وانتهت عند المصالح العامة والمشاريع النافعة” [الآثار، 3/570].

الأعمال فروع لأصول:

مقياس العظمة ومعيار الرجولة الحقة، إذن، هو ما يقدمه الإنسان من أعمال وما يتركه من مآثر، إلا أن هذه الأعمال لا تأتي من فراغ ولا تصدر عن غير منبت، فهي فروع لأصول، هذه الأصول هي الخصائص النفسية والمزايا الخلقية التي يتصف بها الإنسان، والتي منها ما هو أصلي طبع عليه الإنسان، ومنها ما هو مكتسب بالمران والاجتهاد.

1- العلم والأخلاق:

يأتي على رأس هذه الأصول؛ العلم والأخلاق. والإبراهيمي رحمه الله يعلي كثيرا من شأنهما ويرى أن أثرهما في حياة الإنسان عظيم. ولذلك اعتبرهما سببين أساسين فيما يقدمه الإنسان من خير وما يحققه في حياة الناس من أعمال، وما يكتسبه في القلوب من مكانة، إذ لا يبلغ الإنسان أن يرتفع في مدارج الرجولة والعظمة ما لم يكن له نصيب من العلم ونصيب من الأخلاق، وكلما ترقى فيهما ازداد رقيا في مراتب الرجولة والعظمة.

نجد الإبراهيمي يشير إلى هذا المعنى في كلمته التي ألقاها بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاة الدكتور محمد بن شنب رحمه الله، حيث يقول مبينا ما ترتب على موته من أثر: “مات محمد فأيقن زملاؤه وشركاؤه في الصنعة أنهم فقدوا بفقده ركنا من أركان العلم الصحيح، وعلما من أعلام التاريخ الصحيح، ومثالا مجسما من الأخلاق العالية والخلال الرفيعة، لا بل فقدوا معيارا من أصدق المعايير لقيم الروايات وعَيْنا لا تغر صاحبها بالسراب، لا بل فقدوا عقلا هذبه العلم وعلما هذبه العقل فأنتجا خير النتائج، لا بل فقدوا مثالا كاملا من حياة العمل والنشاط والعبادة للعلم والفناء في العلم..

مات محمد فلم يخسر تلامذته تعليمه وإرشاده ونُصْحَه واجتهاده، بل خسروا وراء ذلك الغاية التي يَصْبُون إليها وينتظرُها الوطن منهم، وهي الانطباع بطابعه في الذوق، في الأخلاق، في أسلوب البحث، في طرز التفكير، في الاعتماد على النفس، في الانقطاع للعلم والإخلاص له، في الأدب النفسي، في الصبر على العمل -وإن شقَّ- حتى الوصول إلى النهاية” [الآثار، 1/45-46].

2- علو الهمة والعزم والتصميم:

لا يمكن لإنسان أن يحقق شيئا ذا أثر في الحياة، ما لم تتوفر له همة عالية وعزم أكيد وتصميم على الترقي في مدارج الكمال والمجد، فضعاف النفوس خائرو القوى أعجز من أن يحققوا شيئا ذا قيمة في حياتهم، فضلا عن أن يحققوا شيئا ذا أثر في حياة الناس، وقد لاحظ الإبراهيمي أثر سمو النفس وعلو الهمة وتأكد العزم والتصميم في حياة الشيخ مبارك الميلي رحمه الله، فقال وهو يعدد مآثره ويلخص حياته:

“حياةٌ كلها جِدٌّ، وحيٌّ كله فكر وعلم، وعُمُرٌ كله دَرْسٌ وتحصيل، وشباب كله تلقٍّ واستفادة، وكهولةٌ كلها إنتاج وإفادة، ونفسٌ كلها ضمير وواجب، وروحٌ كلها ذكاء وعقل، وعقلٌ كله رأي وبصيرة، وبصيرةٌ كلها نور وإشراق، ومجموعةُ خِلالٍ سديدة وأعمالٍ مُفيدة، قلَّ أن اجتمعت في رجل من رجال النهضات، فإذا اجتمعت هيأت لصاحبها مكانه من قيادة الجيل، ومهدت له مقعده من زعامة النهضة.. ذلكم مبارك الميلي…” [الآثار، 1/183].

ويبين الإبراهيمي الأسباب التي أمكن بها لمبارك الميلي أن يتفوق على أقرانه في العلم والعمل، فيقول: “إن الذي بلغ به تلك المكانة أربعة أشياء ما اجتمعت في طالب علم إلا رفعته بالعلم إلى تلك المنزلة: استعدادٌ قويٌّ، وهِمَّةٌ بعيدة، ونفْسٌ كبيرة، وانقطاع عن الشواغل الفكرية والجسمية يصل إلى حدّ التبتُّل، وهذه الأخيرة –لعَمْرِي- هي بيتُ القصيد”.

ويقول مستنهضا هِمَمَ طلاب العلم للتأسي والاقتداء بالشيخ مبارك فيما وصل إليه: “هذه هي الأسباب التي كونت لنا مبارك الميلي عالما مستكمل الأدوات يملأ معناهُ لفظَه، وهي أسباب كما نرى كسبية يستطيع كل طالب للعلم أن يقلل منها فيقِلَّ، أو يُكْثِرَ منها فيعظُم ويَجِلّ، وإنما يتفاوتون بالطبيعة في شيئين: الاستعدادُ وبُعْدُ الهِمَّة، وإن الثاني منهما أصلٌ لجميع ما ذكرنا” [الآثار 1/185].

هذه المأثرة نفسُها لاحظها الإبراهيمي قبل ذلك في حياة محمد بن شنب، حيث يقول بصدد تعداد مآثره: “الرجل معتمد على نفسه، يظهر ذلك في جميع أطوار تعلمه، وإن الهمة التي سمت به إلى تعلم عدة لغات حية أجنبية وإتقانها هي عنوان هذا الخُلق العظيم، خُلق الاعتماد على النفس، والاعتماد على النفس خيرُ ما حمل الآباءُ عليه أبناءَهم فهو الرائد إلى السعادة وهو أساس الحياة الاستقلالية”. [الآثار، 1/46].

3- سمو النفس والترفع عن المغريات:

كثير من الناس يسقطون في مضمار الحياة ويعجزون عن الترقي في درجات المجد لأنهم لم ينتصروا على أنفسهم ولم يُطَوِّعُوها لمعالي الأمور، بل خضعوا لنزواتها واستعبدتهم شهواتُها وصاروا لا يتحركون في الحياة إلا تلبية لرغابتها، ولذلك فهم أفشل الناس في مجال العلاقات الإنسانية وأبعدهم عن خدمة البشرية. وقد كشف الإبراهيمي أن من أهم ما يرفع قيمة الإنسان ويُعلي من شأنه؛ أن يتسامى عن الخضوع لنزواته وأن يبتعد عن اتباع شهواته، وأن يحذر من تدنيس شرفه بما يسيئ إلى سمعته. من ذلك قوله في تأبين الأستاذ محمد بن مرزوق التلمساني:

“انتُخب عضوا بالمجلس البلدي مرات متواليات، فكانت ثقة الأمة به في محلها، وكان في حياته النيابية -التي استغرقت بضع عشرة سنة من عمره- مثال الصدق والإخلاص وأداء الواجب، لم يدنس شرفه بمطمع ولم يغمس يده في دنيئة، مع رقة حاله وكثرة عياله، وكان طاهر العقيدة متينها في دينه، صائب الرأي سديد التفكير في الشؤون الدينية العامة” [الآثار، 1/385].

4- العيش للناس وعدم الانغلاق على الذات:

بلاءُ الإنسانية الأكبر، ومرضُها الأظهر؛ داءُ الأنانية والأثرة، الذي يسيطر على معظم الناس ويجعل منهم عبيدا لأنفسهم لا يعيشون إلا لها، ولا يحرصون إلا على نفعها، وإن أدى ذلك إلى دمار الإنسانية كلها وموت الناس أجمعين.

ولذلك فإن من أمارات العظمة وعلائم الرجولة الحقة؛ أن يعيش الإنسان لهدف أعظم وغاية أسمى، وهو ما يدفعه إلى القيام بجلائل الأعمال خدمة للدين والأمة والوطن والإنسانية جمعاء.

يقول الإبراهيمي عن السيد محمد خطاب الفرقاني: “هذا الرجل من أبناء الجزائر الذين رفعوا رأس الجزائر، ومن أبناء هذا الشمال الذين أوسعوه برا وتكرمة وجعلوا من مالهم ومواهبهم وسائل لغرس الأخوة بين أبنائه، ولم يعيشوا لأنفسهم، بل عاشوا لإخوانهم وأوطانهم وما أقل هذا الصنف من الرجال فينا ويا للأسف” [الآثار، 1/167].

5- الارتباط بالأمة وقيمها ورموزها العظيمة:

لا يتحقق للإنسان وصف الانتماء بحق إلى دين من الأديان أو أمة من الأمم أو وطن من الأوطان، ما لم يكن هناك رابط وثيق يربط قلبه وروحه بدينه وأمته ووطنه، وإذا وجد هذا الرباط كان دافعا للإنسان إلى السعي فيما فيه خدمة دينه ونفع أمته ومصلحة وطنه وقومه، وذلك طريق من طرق الترقي في مدارج الرجولة والعظمة. كتب الإبراهيمي عندما بلغه خبر وفاة أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله، فقال:

“مات شاعر الإسلام الذي كان يعتز بمفاخره، ويشدو بمآثره، وينطق بلسانه، ويجول في ميدانه، ويدعو إلى جامعته، ويمشي في ركاب خلافته.

مات شاعر العربية الذي تشرب روحها وتملكت هي روحه، فحمى أسلوبها ونغمتها، وعرضها على أهل هذا القرن مُعْرِبَة عنه كما أعربت عما قبله بلغة فصيحة، فحمل لواءها خفاقا في الآفاق، كما تُوِّجَ على شعرائها في الأقطار باستحقاق.

مات شاعر الشرق الذي كان يهتز قلبه لهزاته، وتضطرب حياته لاضطراباته، وترتفع آهاته مع آهاته، فيدوي صوته حتى لتتحرك له جبال، ويهلع منه رجال، وتسري كهرباؤه حتى لترتبط بها بعد الشتات أوصال، وتحيا بها بعد الموت آمال” [الآثار 1/106].

6- الشهامة في المواقف والخطوب:

ما أكثر الذين تتسع دعاواهم عريضة في حال اليُسر بأنهم دون غيرهم أهل الشهامة والمروءة والرجولة الحقة، وأنهم لا يتخلفون عن نجدة صديق ولا يترددون في نصرة مظلوم، ولا يتأخرون عن مكرمة من المكارم، ولكنهم إذا جدَّ الجد، بان كذبهم وافتضحت سرائرهم وتلاشت دعاواهم العريضة. والقلة من الرجال من تثبت عند الخطوب وتقف شامخة أمام العواصف المدمرة دون خوف ولا وجل.

وتلك أمارة من أمارات العظمة وشاهد من شواهد الرجولة الحقة. وقد لاحظ الإبراهيمي أن هذه الخصلة الكريمة إذا توفرت في شخص كانت سائقا له إلى جليل الأعمال، من ذلك قوله عن رفيق صباه الشيخ محمد الطيب عميد آل الشيخ الحواس: “من واجبي أن أتحدث عن الفقيد حديث من عاشر وجرب، ومن واجبي أن أنوه من صفات الفقيد بصفة فاق فيها أقرانه ولم يلحقه فيها لاحق، وما أكثر خصاله الحميدة لو كان في الوقت متسع لذكرها، هذه الصفة التي تُعَدُّ هي الغُرَّة اللائحة من خِلال الفقيد هي الشهامة بأوسع ما تدل عليه كلمة الشهامة، فقد كان حامل لوائها والسابق المُجلي إذا تسابقت الرجال في ميدانها.

ولقد كانت تطير الحوادث وتقع فتجد عنده لكل ورد منها صدرا ولكل مبدإ عاقبة.

ولقد كانت المَلمَّة تنزل بصديقه فيُسابقها رأيٌ منه يفض مشكلها أو مالٌ منه يكسر من شِرَّتِها.

ولقد كانت الكرامة تُمتهن فيكون له منها الوليُّ النصير.

ولقد كان الملهوف تَحْزِبُه الحاجة فيكون له الغياث المُفَرِّج” [الآثار، 1/99].

الإبراهيمي الرجل العظيم:

جدير بنا، وقد بينا مقياس الرجولة والعظمة عند الإمام محمد البشير الإبراهيمي، الذي وزن به غيره من الناس وحكم عليهم به من خلال أعمالهم؛ أن ننظر في مدى انطباق هذا المقياس عليه هو نفسه، فهل كان الإبراهيمي رجلا عظيما بمقتضى هذا المقياس أم أنه قصر عن الرجولة الحقة وعجز عن تحقيق العظمة التي بحث عنها في أعمال غيره؟

الحق أن الإبراهيمي بمقتضى هذا المقياس هو أحد الرجال العظماء الذين عرفهم تاريخ الجزائر عبر مراحله المتتابعة، ولا يكاد يفوقه في العظمة أو يبزه في الرجولة سوى تربه ورفيق دربه الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس.

فمن حيث الأعمال العظيمة، لا أحد يمكنه أن ينكر ما حققه الإبراهيمي في السنوات القليلة التي تولى خلالها رئاسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وما أنجزه من أعمال لفائدة الجزائر وثورتها بعد خروجه إلى الخارج وجولاتها في المشرق العربي وآسيا.

ومن حيث الخصال النفسية والخلقية، يشهد له كل من عرفه وخالطه بعظمة النفس وعلو الهمة وسمو الأخلاق.

وحتى لا يكون حديثنا رجما بالغيب وكلاما بلا دليل، نورد فيما يلي جملة من الشهادات التي أدلى بها رجال كبار عرفوا الإبراهيمي وخالطوه وخبروه في ميادين كثيرة وعملوا إلى جانبه في مجالات مختلفة.

يقول الأستاذ أحمد توفيق المدني رحمه الله: “كان الإبراهيمي أمة، كان جيلا، كان عصرا، كان من أولئك الأفذاذ القلائل الذين أمْلوا إرادتهم على الحياة، وأخضعوا الأيام لمشيئتهم فكيفوها كما أرادوا، وأخرجوا بلادهم من مصير شاءه لها الظالمون إلى مصير رسموه لها بأنفسهم، فحددوا أهدافه واستبانوا مسالكه واقتحموا اقتحام الرواد الصادقين طريقه الوَعْرَ المُنْهِك للقِوَى، غير عابئين بما كانوا يَلْقَوْنَه من عذاب وتنكيل واضطهاد، ولا مُعيرين السمعَ لما كان يُحَاكُ حولهم بوحي من الغاصب الدخيل من دَسٍّ وبُهْتان، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعُفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين” [الثقافة، السنة 15، العدد 87، شعبان رمضان 1405هـ، مايو يونيو 1985، ص39].

ويقول مبرزا جانبا من الأعمال التي أنجزها الإبراهيمي في بضع سنين: “كان الإبراهيمي خلال عشرة أعوام من رئاسة فعلية لجمعية العلماء، يقضي سحابة يومه في البناء والتعمير، ويقضي سواد ليله في التدبير والتفكير، ولم نكد نعرف له خلال هذه الملحمة مقرا معلوما، إلا السيارة يمتطي متنها الأيام والليالي، يخترق بها النجود والوهاد، فما من مدينة، وما من قرية، وما من مضرب من مضارب البدو، إلا غشيها وبث فيها الروح، وغرس فيها بذور النهضة واجتث منها الطفيليات القاتلة، ولا يبرحها إلا عن مسجد مُؤسَّس، أو مدرسة مرتفعة، أو ناد عامر” [الثقافة: 44].

ويكشف الشيخ عبد الرحمن شيبان رحمه الله، عن جانب آخر من جوانب العظمة في شخصية الإمام الإبراهيمي، فيقول: “إذا كان من العظماء من لا يُقَدِّرُه معاصروه حَقَّ قَدْرِه، وإنما تنتصر له الأيام التي تؤكد مِصْداق ما نادى به ودعا إليه، فإن من العظماء من ملأوا الدنيا وشغلوا الناس في حياتهم ومن بعد وفاتهم، ومن هؤلاء الشيخ الإمام محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله” [الثقافة: 71].

ويقول الأستاذ محمد فاضل الجمالي رحمه الله، وهو يبرز جانبا آخر من جوانب العظمة في شخصية الإمام الإبراهيمي: “من الأشخاص المعدودين الذين تركوا أثرا عميقا في نفسي وكان لهم الفضل في إثراء حياتي القومية والدينية العلامة الجليل الشيخ البشير الإبراهيمي طيب الله مثواه، فقد كان علما من أعلام الإسلام وعظيما من عظماء الزمان.

كان منبعا فياضا من منابع العلم والإيمان، يمتاز بالحيوية والشجاعة وفصاحة البيان. كان ذا شخصية جذابة محبوبة مؤثرة، جاهد في سبيل الله وكافح الاستعمار بكل ما أوتي من قوة، بهمة لا تعرف الكلل وبمثابرة وإصرار” [الثقافة: 121].

ويقول الأستاذ محمد خمار، مبينا ما كابده الإبراهيمي من مشقة، وما بذله من جهود: “الشيخ البشير كان أمة في رجل، وكان طاقة جبارة من العزيمة والنشاط والشجاعة والجرأة في الحق، وفي ذلك عُذِّب وسُجِن ونُفِيَ وشُرِّدَ فما لانت له قناة ولا وهنت له عزيمة، بل ما زاده ذلك إلا قوة وصلابة واسترسالا في الجهاد الوطني والإصلاح الاجتماعي” [الثقافة: 354].

وهذا تلميذه الدكتور عبد المجيد مزيان رحمه الله، يقول مبرزا عظمة أستاذه في علمه ومعاملته: “نشهد كما عرفناه، ونحن تلامذته، أنه كان من أعلم أهل عصره بالعلوم الإسلامية والعربية. كان إماما لا نظير له في علوم الحديث… وكان مفسرا للقرآن في دروس عمومية ودروس للطلبة أتى فيها بإبداعات سجلتها عنه ذاكرة الأجيال، ولو لم تجمعها المكتوبات.

وكان معلما للتاريخ الإسلامي ببراعة وتحليل وسعة نظر، يتطرق إلى فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع والأخلاق لينير التاريخ بمنظار الفكر الإسلامي والالتزام الأخلاقي الذي تدعو إليه النهضة الثقافية والإصلاح.

وكان أستاذا في اللغة والآداب العربية يجمع بين الأصيل والجديد… وكان مع هذا قدوة في سهولة المعاملة والاتصال، بشوشا مرحا في مجالسه، واسع الصدر في ممارسته للمسؤوليات، متفجر الحيوية في أنشطته الثقافية، كاتبا، وخطيبا، وصحافيا، وأستاذا، وإماما” [الثقافة: 8].

وهكذا، فلو ذهبنا نستقرئ كل ما قيل في حق الإبراهيمي وما أبرزه عارفوه من خصاله وجوانب عظمته، لملأنا صفحات وصفحات، فالرجل لم يعش لنفسه وإنما عاش لدينه ووطنه ولغته وبني ملته، وتلك هي العظمة، وذلك أبرز مظاهرها في حياته وبعد مماته، رحمه الله وطيب ثراه وجعل الجنة مستقره ومنتهاه.

عن عمار رقبة الشرفي

- مجاز في القراءات العشر المتواترة من طريق الشاطبية والدرة. - مجاز في الكتب التسعة بالسند المتصل وبعدد من كتب الحديث الشريف. - شهادة تخرّج في العلوم الشّرعية والعربية من معهد بدرالدّين الحسني بدمشق. - شهادة الدّورة التّأهيليّة للدّعاة. - إجازة تخرج (ليسانس) من معهد الدّعوة الجامعي (فرع دمشق) في الدراسات الإسلاميّة والعربيّة. - ديبلوم ماجيستير في الفقه المقارن (تحقيق جزء من كتاب عيون الأدلّة - للقاضي أبي الحسن علي بن أحمد المالكي البغدادي المعروف بابن القصار (ت :398هـ - 1008م- قسم المعاملات. - مؤسس ومدير معهد اقرأ للقرآن وعلومه، باب الزوار- الجزائر العاصمة http://iqraadz.com/ - المؤسس والمشرف العام على موقع المكتبة الجزائرية الشّاملة http://www.shamela-dz.net/

شاهد أيضاً

جهود المدرسة الإصلاحية الجزائرية في دراسة المصطلح القرآني –تفسير ابن باديس أنموذجًا- الباحث نبيل صابري

تمهيد: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: في ظل الموجات الاستدمارية التي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *