توفي الكاتب والمترجم الجزائري الدكتور أبو العيد دودو في 16 يناير 2004 عن عمر ناهز 70 سنة. ألف قصصا عديدة، أذكر منها: بحيرة الزيتون، دار الثلاثة، الطعام والعيون… كما ترجم مجموعة من الكتب التاريخية من الألمانية إلى اللغة العربية.
وهذا الجانب الأخير هو الذي يهمنا في هذا المقال القصير. ونأمل أن نعود بالتفصيل إلى هذا الموضوع في دراسة أخرى بحول الله.
أبو العيد دودو وتعلم اللغات:
تعلم أبو العيد دودو مبادئ اللغة العربية في المدارس القرآنية ثم واصل تعليمها واتقانها والتعرف على آدابها في معهد عبد الحميد بن باديس في قسنطينة، وجامع الزيتونة التي تحصل منه على الشهادة الأهلية في عام 1951 ثم دار المعلمين العالية ببغداد التي تخرج منها في عام 1956.
وانتقل أبو العيد دودو بعد ذلك إلى النمسا ضمن البعثة الطلابية لجبهة التحرير الوطني، وانتسب إلى جامعة فيينا لدراسة الأدب العربي. فتعلم أولا اللغة الألمانية حتى أتقنها مثل أهلها.
ويروي عنه الأستاذ أبو القاسم سعد الله مؤكدا هذا الكلام، فقال: “إن دودو أتقن هذه اللغة حتى أنه كان يترجم منها مباشرة دون استعمال الورق والقواميس”.
ثم تطلبت منه الدراسة تعلم لغات أوروبية أخرى إلى جانب اللغة الألمانية، فدرس اللاتينية والفرنسية والإنجليزية.
وقد ساعدته كل هذه اللغات على ترجمة الآداب العالمية إلى اللغة العربية، ويفتح بذلك نوافذ للقارئ الجزائري والعربي ليطل من خلالها على الثقافات الأخرى والتراث الإنساني.
ترجمة الآثار التاريخية:
ترجم الدكتور أبو العد دودو العديد من الآثار التاريخية.
وقد وصلت أعماله المترجمة من الألمانية إلى العربية إلى أكثر من 24 عملا بين مطبوع ومخطوط. وكان من أهمها كتب الرحالين الأوروبيين -الألمان أو الذين يكتبون باللغة الألمانية- إلى الجزائر سواء قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر أو بعده.
جاءت هذه الكتب في أشكال مختلفة: مشاهدات وانطباعات، مذكرات، شبه دراسات على الأمير عبد القادر وأحمد باي والطب التقليدي. أذكر هنا على سبيل المثال:
الجزائر في مؤلفات الرحالين الألمان (1830-1855) لمجموعة من المؤلفين، ثلاث سنوات في غربي شمال إفريقيا لهاينريش فون مالتساس، قسنطينة أيام أحمد باي (1832-1837) لفنرلتين شلوصر، الأمير عبد القادر لبيوهان كارل بيرنت، الأمير عبد القادر العلاقات الفرنسية العربية في الجزائر لدينيزن، مذكرات جزائرية عشية الإحتلال لسيمون بفايفر، الطب الشعبي الجزائري في بداية الاحتلال للطبيب الدانماركي يورغن يوهان شونبيرغ.
وتتضمن هذه الكتب المترجمة عن المؤلفين الأوروبيين منجما من المعلومات عن الجزائر في نهاية القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر كالتقاليد والعادات والذهنيات والأعيان والأسرى الأوروبيين، والتضاريس والغطاء النباتي والطب الشعبي، والعمران والأوقاف والمدارس في المدن والأرياف…
كما تحتوي هذه الترجمات تعريفات عن هؤلاء المؤلفين وقضايا عصرهم، ويجد فيها القارئ الجزائري والعربي ومضات عن الحياة العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية في أوروبا في العصر الحديث.
واختلفت مقاصد هؤلاء الأوروبيين بين الفضول العلمي والبحث والمغامرة والتجسس على حسب بلدانهم واختصاصهم ومهنتهم… وإذا كان بعضهم عاش في الجزائر على هامش مجتمعنا وشاهد الواقع الجزائري عن بعد، فإن آخرين منهم احتكوا مباشرة بالجزائريين سواء قادتهم مثل الأمير عبد القادر وأحمد باي أو أعوانهم في الأقاليم أو العامة من الناس، وهذا ما سمح لهم بوصف أشياء كثيرة بدقة وشمولية لا نظير لها، وتضيء جوانب غامضة أو مجهولة من تاريخنا الحديث.
الترجمة في خدمة التاريخ والمؤرخ:
كان الدكتور أبو العيد دودو أستاذا للأدب بجامعة الجزائر وكاتبا للقصص إلا أنه اهتم بترجمة كتب التاريخ والرحلات.
وهنا يتبادر إلينا السؤال الآتي: لماذا اهتم بهذا النوع من الترجمة حتى صار معروفا في هذا المجال المعرفي؟
لقد وجدت الإجابة عن هذا السؤال في مقدمة كتابه الشهير: “الجزائر في مؤلفات الرحالين الألمان” حيث قال بكل وضوح: «إني أعتقد من واجب كل من يتقن لغة أجنبية أن يشارك في إعادة كتابة تاريخ بلاده بغض النظر عن ميدان اختصاصه.
ومشاركته هذه تتم في نظري عن طريق عرض النصوص المكتوبة بهذه اللغة أو تلك وتقديمها للمؤرخ المتخصص لتقويمها وربطها بقرائنها التاريخية ثم مقارنتها بغيرها من النصوص لمعرفة مدى صحتها وموافقتها للوقائع التاريخية».
يعترف أبو العيد دودو أنه ليس مؤرخا ولا يقصد من ترجماته تأريخ الجزائر، وإنما يرمي إلى مساعدة المؤرخين في أعمالهم خاصة الذين لا يتقنون اللغات الأجنبية وبالخصوص اللغة الألمانية غير المتداولة عند العلماء الجزائريين على عكس الفرنسية أو الأنجليزية، فهو يوفر لهم المادة الخامة التي يحتاجون إليها في أبحاثهم، ويقرب إليهم المصادر والوثائق الأوروبية للاستفادة منها بأشكال مختلفة.
كيف نقيم هذه الترجمات؟
وإذا كانت هذه الكتب وما تحتويها من المعلومات الدقيقة الغزيرة محل اهتمام الفرنسيين ومصدراً لهم للتحكم في المجتمع الجزائري، فإنها بقيت فترة طويلة مجهولة عند الجزائريين رغم قيمتها التاريخية والعلمية. هل الخلل في ذلك يعود إلى صعوبتها وغموض أسلوبها؟
لم أكن أشعر وأنا أقرأ هذه الكتب بأنها مترجمة من لغة أخرى، فقد كان أسلوب الدكتور دودو جميلا وسلسا واضحا. وهنا أؤكد ما كتبه مؤرخ كبير مارس الترجمة، فهو يقول في هذا السياق: « إتقان دودو للغتين العربية والألمانية قد جعل القارئ لا يحس بأن الأثر الذي يقرؤه مترجم عن لغة أخرى.
فهو يكتبه بعربية جميلة سلسة وبأسلوب متسق لا اضطراب فيه ولا تمحل، فعمل دودو المترجم يظهر وكأنه نص في لغته الأصلية».
لقد أسس الدكتور أبو العيد دودو قواعد الأولى لمدرسة الترجمة من الألمانية إلى العربية في الجزائر غير أن الخلف الذي جاء من بعده لم يواصل المسيرة إلا استثناءات قليلة في مجالات محدودة كالفلسفة بينما الترجمات في المجالات الأخرى وخاصة الترجمات التاريخية تكاد تكون منعدمة رغم قيمتها العلمية التي لا تقل عن الكتابات الفرنسية والإنجليزية حول تاريخنا الوطني الثري.
*أستاذ تاريخ الفكر المعاصر بجامعة الجزائر 2