ودّعت مدينة العطف (تاجنينت) بولاية غرداية أحد أبنائها، وأبناء الجزائر، أستاذا كريما وعبدا صالحا، إنه الأستاذ صالح سماوي الذي عبد ربه حتى جاءه اليقين يوم الإثنين الماضي عن عمر ناهز التسعين، حيث رأى النور في عام 1931.
إن الموت “مصيبة” كما جاء في الكتاب الذي لا مرية فيه، ولكنني في الغالب لا أفقد تماسكي عندما ينعى إليّ من لي بهم صلة قربى أو صلة صداقة، لا لبرودة في مشاعري، ولا لتخشب في طبعي، ولكن لأن المؤمن – وحمدا لله على نعمة الإيمان- مهيأ نفسيا لتلقي مثل هذا الأخبار بـ”دواء الصبر”.
إنني أحفظ – بفضل الله عز وجل- ما جاء في كتابه خطابه لرسوله – صلى الله عليه وسلم- “إنك ميّت وإنهم ميّتون”.
وأحفظ: “وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد”.
كما أحفظ بيت الشعر الحكيم:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته*** يوما على آلة حدباء محمول
وأحرص – أشد الحرص- على أن أعرف الحال التي يموت عليها من فارق الفانية إلى الباقية، فإن كانت حسنة “فرحت” وحمدت الله، واستنزلت شآبيب رحمته على الفقيد، وإن كانت غير ذلك أسفت، ولم أقنط من رحمة الرحمن الرحيم التي وسعت كل شيء، وسبقت غضبه.
الأستاذ صالح سماوي قضى ثلث عمره في عذاب واصب تحت ألعن طغيان بشري، وهو الطغيان الفرنسي، وقد غالبه الأستاذ مع الشعب الجزائري حتى غلبه بفضل الله القهار للظلام، فولّى مدبرا مكللا بالعار، متوجا بالهزيمة، ملعونا في تاريخ البشرية، ثم قضى ثلثيه الآخرين يجاهد لإصلاح ما أفسدته فرنسا – رائد الفاسدين المجرمين-، ولا إصلاح لذلك إلا بالإيمان والعلم، والإصلاح بين الناس فيما شجر بينهم.
قدّر الله لي أن أتشرف بالتتلمذ على هذا الأستاذ الحليم في غير ميوعه، الصارم في غير غلظة، وذلك في ثانوية رمضان عبان بمدينة الجزائر، في العام الدراسي 1964-1965، ولكنه ليس كأحد من الأعوام.
لم تستطع السنوات التي جاوزت الخمسين أن تنسيني أستاذي صالح سماوي، وذلك لما كان يتمتع به من خلق جميل، وعلم جزيل، ورغم أنه كان يعلمنا التاريخ فالتاريخ عنده ليس حوادث جافة، ولكنه عبر ودروس تنبّه العقل، وتذكي القلب، وتربي النفس، وهذا ما كان يحرص على تلقيحنا به للقضاء على “جراثيم فرنسا” المزروعة في البرامج المدرسية، وهي الجراثيم التي عملت ابن غبريط ومن جاء بها على إعادتها إلى منظومتنا التربوية.
إذا كنت مدينا بالفضل لأستاذي عبد الحفيظ بدري ومحمد الصالح الصديق في عشقي لأجمل لغة وأخلدها لخلود القرآن فإنني مدين بالفضل لأستاذي صالح سماوي الذي حبّب لي التاريخ بما كشف لنا من حقائق، وبما فضح لنا أكاذيب “المدرسة التاريخية الفرنسية”، و”المدرسة الاستشراقية” في هذا الميدان فجزى الله أستاذنا خيراً، مراعيا في ذلك مداركنا العقلية.
من ذكرياتنا مع الأستاذ صالح أن زميلا لنا لم تعجبه النقطة التي أخذها في مادة التاريخ، فراجع الأستاذ في ذلك، فأعاد الأستاذ قراءة ورقة الزميل، ثم قال له: لك الحق، لقد أخذت ربع نقطة زائدة، فضحكنا.
ولم يغضب الزميل لأنه متأكد من عدل الأستاذ، الذي كان لنا ناصحا أمينا، وكان الطلبة في ذلك الزمان يحبون الناصحين.
فرحمك الله أيها الأستاذ الحليم وأكرم نزلك، ويمن كتابك، ويسر حسابك، وثبتنا على الإيمان حتى نلقاك..