إذا اجتمع خيّران أو أخيار على إنجاز عمل ما فأيقن بخيريّة ذلك العمل، وإتقانه، حتى يكون أقرب إلى الكمال الإنساني.
وقد قدر الله – عز وجل- أن يجتمع خيران في عمل فجاء كما يرضى العقل وتهوى النفس، وأعني بالخيرين شخصين من أخير من عرفت في حياتي التي ابتعدت فيها من مهدي واقتربت من لحدي، وهما الأخوان الأستاذ الدكتور مبروك زيد الخير
، والدكتور محند إيدير مشنان
، اللذان حصّنا عملهما بالتديّن السليم، وجمّلاه بالخلق الكريم، إذ لا علم من دون تديّن صحيح، ولا تدينا من دون خلق مليح، ولا نزكي لا أنفسنا ولا أحدا على الله، ولكن ما شهدنا إلا بما علمنا، وما سمعنا من الخيرة الكرام البررة، ولا نبخس الناس أشياءهم..
إن العمل الذي اجتمع عليه هذان العالمان الفاضلان، وتعاونا فيه على البر والتقوى بمن سبقهم من أهل العلم والتقوى هو تحقيق مخطوط في قواعد النحو العربي، الذي لا يستقيم الفهم إذا لم يستقم الكلام، وقد روي عن الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قوله: “خطأ رميكم أحسن عليّ من لحنكم”، وفي رواية أخرى “خطأ رميكم أخفّ عليّ…”، وبلغ الأمر بالإمام الحسن البصري، رضي الله عنه، إلى الخوف من عدم الاستجابة لدعائه بسبب لحنه، فنسب إليه قوله: “ربما دعوت فلحنت، فأخاف أن لا يستجاب لي”.
إن المخطوط الذي تعاون الأخوان الكريمان على إخراجه إلى الناس، بعد تحقيقه التحقيق العلمي، هو كتاب “نور السّراجي في مقدمة الصنهاجي”، وقد بذلا فيه مجهودا جليلا، دلّ عليه استشارتهما لأكثر من ستين ومائتي (263) مصدر ومرجع في علوم شتى.
وأما صاحب المخطوط فهو أحد علمائنا الذين تميزوا بالعلم الواسع، وامتازوا بالتدين الصحيح، والوطنية الصادقة، ولم يكن كأولئك “العلماء” الذين آتاهم الله – عز وجل- آياته فانسلخوا منها، وأتبعهم الشيطان، فشروا بآيات الله ثمنا قليلا، وركنوا إلى السلطان، خاصة أن هذا “السلطان” كافر بالله – عز وجل- معتد على شرف الوطن.. أعني فرنسا الصليبية، عدوة الإنسانية، منتهكة الكرامة البشرية.
وهذا العالم الجليل هو محمد بن أبي القاسم البوجليلي البجائي، نسبة إلى بلدة “بوجليل”، ومدينة بجاية ذات المجد، التي شوّه وجهها الناصع، وطمس تاريخها التليد خلف غرباء الوجه واليد واللسان، ممن استزلّهم الشيطان الإنسي، واستحوذ عليهم، فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وحوّلوا بجاية من “شمعة” منيرة في نفسها مضيئة لمن ولما حولها، إلى “فحمة” مظلمة.
ولد محمد بن أبي القاسم الحسيني البوجليلي في بلدة بوجليل، القريبة من مدينة بجاية في عام 1826، ولم يفرح بطفولته ولا بفتوّته، لأن الجزائر ابتليت بعد مولده بأربعة أعوام بأخبث ما يبتلى به شعب من الشعوب، ألا وهو الاستدمار الفرنسي الذي حل بأرضنا في سنة 1830، فعاث فيها ظلما وبغيا وتخريبا للإنسان والعمران لا نزال نعاني منه إلى اليوم.
أخذ مبادئ العلوم اللغوية والدينية بعدما أتمّ حفظ كتاب الله – عز وجل- على يد والده، حتى إذا استأنس من نفسه اشتداد عوده، ونضوج فكره انتقل إلى زاوية الشيخ عبد الرحمن الإيلولي في أعالي جرجرة، وذلك في حدود سنة 1854، فتتلمذ على ثلّة من أكارم العلماء كالشيخ محمد بن علي بن مالك التقابي، الذي وصفه بأن “العمدة في قراءتي” (ج1. ص24)، “لكونه نحويّا محسنا لصفات الحروف ومخارجها”. (1/25).
والشيخ محمد العربي الأخداشي، والشيخ محمد الطاهر الجنادي، الذي شهد الشيخ البوجليلي له بقوله: “لم أجد مثله من المعلمين”. (1/26). وقد ضاقت فرنسا ذرعا به فضايقته حتى اضطر إلى الذهاب إلى تونس في 1863، والشيخ محمد أمزيان ابن الحداد الذي أعلن مع المقراني الجهاد ضد فرنسا في عام 1871، والشيخ قدور الدّرعي، نسبة إلى الدريعات التابعة لبرج بوعريريج..
وقد ترك الشيخ البوجليلي تلاميذ أخذوا عنه العلم، وترك آثارا علمية ما زال أكثرها مخطوطا.
فمن تلاميذه نجله أحمد، والطيب شنتير، والحسين آل عيسى، والشريف الافليسي، ومحمد السعيد ابن زكري، الذي لم يقبض قبضة من كره شيخه لفرنسا، فركن إليها ورضيت عنه فعينته مفتيا في المذهب المالكي.. وهو صاحب كتاب “أوضح الدلائل في وجوب إصلاح الزوايا ببلاد القبائل”، وقد ذكر المحققان أن بن زكري “ترأس المدرسة الثعالبية بالعاصمة” (1/30)، والذي تولى ذلك هو ابنه أحمد ابن زكري. والشيخ محمد بن عمارة أوزلاقي.. وغيرهم.
كما ترك الشيخ البوجليلي آثارا علمية دلت على مكانته العلمية منها ما حقق ونشر كهذا الكتاب، وكتاب “التبصرة في قراءة العشرة” الذي حققه الأستاذ حسين وعليلي، ونال به شهادة الماجستير.. ومنها ما لا يزال مفقودا أو مخطوطا..
وقد توفّى الله – العلي القدير- الشيخ البوجليلي في الخامس من أكتوبر من سنة 1898.
وأجمل ما روي عن الشيخ البوجليلي أنه “أفتى بنقض وضوء من صافح الرّومي”، أي الفرنسي، ولست أدري كيف يحكم على من يحتضن الفرنسيين ويقبّلهم، ويفضّلهم على بني جلدته وبني ملته؟!