كثيرا ما سألني الطلبة وبعض الباحثين: هل ساهمت المرأة في الحركة الإصلاحية الجزائرية؟
وسألوني أيضا: ما هو الدور الذي أدته المرأة في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين؟
ولقد أجبت مرة عن السؤالين في مقال سابق عنوانه: “أقلام نسوية في جريدة البصائر”، وأجبت مرة أخرى عنهما في هذا المقال.
وستبقى الإجابة مفتوحة لأن مصادر البحث في هذا الموضوع ليست كلها متاحة ولا ميسرة كما قد يظن العديد من السائلين.
مدارس البنات
لقد بدأ تعليم البنات محتشما في مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومن هنا سارت الحركة الإصلاحية تهتم بتحرير العقول وتصحيح المفاهيم وإعادتها إلى نقائها ومسايرة تطوّر العصر.
وقد كللت جهودها بالنجاح.
وهكذا وافق الآباء على إرسال بناتهم إلى المدرسة للتعلم خاصة بعد أن شاهدوا أيضا إقدام المعلمين على تعليم بناتهم.
وفي هذا الجو المعترف بالحقوق الأساسية للبنت، استقبلت المدارس الإصلاحية في كل عام أفواجا من البنين والبنات.
وهكذا أصبحت معظم مدارس جمعية العلماء عبر التراب الجزائري تضم القسمين.
وكان التدريس في البداية حصريا على المعلمين، ثم التحقت بهم المعلمات التي عينتهم الجمعية مدرسات في أقسام البنات بعد تخرجهن بنجاح.
والحق أن عدد التلميذات والطالبات كان قد ارتفع بعد الحرب العالمية الثانية حتى بلغ عددهن في سنة 1951 أكثر من نصف مجموع عدد الطلاب أي 5696 تلميذة مسجلة بانتظام في 125 مدرسة منتشرة عبر التراب الجزائري.
ولم يقتصر وجود البنات في المدرسة على الدراسة فقط ثم العودة بالسرعة إلى البيت لتأدية الأشغال المنزلية، وإنما كن يشاركن في كل نشاطات المدرسة كالانخراط في فرق الأناشيد والمسرح، والمساهمة في إحياء الأعياد الدينية.
فكادت الحفلات التي كانت تنظم في مناسبات مختلفة لا تخلو من مشاركات التلميذات بتلاوة آيات قرآنية أو عرض فصول من المسرحيات أو أداء الأناشيد الهادفة.
وفتحت جمعية العلماء في الخمسينات، بعد أن توفر طاقم التدريس بفضل تزايد عدد المعلمات، مدارس خاصة للبنات تقدم فيها دروسا علمية، وأخرى تطبيقية في الفنون الأخرى التي تحتاجها المرأة كالطبخ والخياطة والطرز وغيرها من الحرف الأخرى.
وكان من أشهر هذه المدارس: مدرسة عائشة في تلمسان، ومدرسة تهذيب البنات في البليدة، ومدرسة شريفة الأعمال في الجزائر.
بعثات الطالبات إلى سوريا ومصر
كانت مدرسة التربية والتعليم رائدة في فتح أبوابها للبنات منذ تأسيسها في نهاية العشرينيات، وقد حرص مسؤولها الأول الشيخ عبد الحميد بن باديس على العدل بين البنين والبنات، لذلك عزم على إرسال الطالبات المتفوّقات في بعثات علمية خارج الجزائر كما كان يشجع الطلاب المتفوقين في مدارس جمعية العلماء على مواصلة دراساتهم في جامع الزيتونة بتونس والأزهر في القاهرة والقرويين بفاس.
لكنه لم يجد مدرسة تستقبل الطالبات الجزائريات في ذلك الوقت الذي كانت فيه جل المدارس والمعاهد العربية والإسلامية مقتصرة على تعليم البنين.
ولما علم الشيخ ابن باديس عن طريق مجلة الرابطة العربية بوجود مدرسة خاصة للبنات في دمشق فتحتها حفيدة الأمير عبد القادر السيدة عادلة بيهم، راسلها بسرعة لتستقبل وفدا من طالباته.
وقد وافقت هذه السيدة الكريمة على ذلك الطلب، وتم تعيين عشر تلميذات لمواصلة التحصيل العلمي في دمشق خلال العام الدراسي 1939-1940، وهن:
سليمة بن البرج، سليمة حافظ، نعناعة ونيسي، حليمة ونيسي، فاطمة صويلح، فلة بوالبارود، الرامضة بوعبد الله، فاطمة رودسي، عائشة دمق، ياسمينة دمق.
ورغم كل هذه الجهود الجبارة والإعداد التام لإنجاح هذه البعثة الأولى إلا أن الطالبات الجزائريات لم يغادرن الجزائر بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939، ووفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس في 16 أبريل 1940.
كما اتصل الشيخ عبد الحميد بن باديس بالشيخ الفضيل الورتلاني مندوب جمعية العلماء في فرنسا من أجل الاتصال بعلماء الأزهر الموجودين في باريس للدراسة في جامعة السوربون، من أجل التوسط لدى الهيئات العلمية في مصر لاستقبال الطلبة الجزائريين والطالبات الجزائريات في المعاهد والجامعات المصرية.
وكذلك طلب ابن باديس من الورتلاني أن يكلّم الأمير شكيب أرسلان المقيم في سويسرا في نفس الموضوع نظرا لصلاته القوية بالقادة العرب.
غير أن كل هذه الجهود لم تثمر للأسباب التي ذكرتها من قبل.
جمعيات نـسـويـــــــة
هل أسست النساء المصلحات جمعيات نسوية للدفاع عن حقوق المرأة الجزائرية وترقيتها كما تأسست في بعض الدول العربية؟
إذا عدنا إلى الوثائق والصحافة التي صدرت في الفترة التي تعنينا هنا (1931-1956) وجدنا جمعيات قليلة، أذكر منها بالخصوص جمعيتين
الجمعية الأولى كانت تطلق على نفسها جمعية “نهضة المرأة المسلمة”، وقد تأسست في تلمسان في بداية عام 1948 برئاسة السيدة فتيحة كاهية.
وهذه الجمعية بعيدة عن الفكر النسوي المتطرف السائد آنذاك في أوروبا وبعض الدول العربية، فهي لا تعلن العداوة مع الرجل، ولا تدعو النساء إلى التمرد على أزواجهن وغيرها من الأفكار التي لا تتناسب مع العادات والأعراف الجزائرية.
بل وجهت هذه الجمعية نقدا إلى المسلمات المتأثرات بالمرأة الأوروبية، كما وجهت نداء عبر الصحافة تدعو فيه المصلحين إلى ترشيد أعمالها ومساعدتها في أداء رسالتها، وقد جاء في هذا النداء المفتوح: « أرشدونا إلى الطريق الذي يمكننا تتبعه لنتحمل مسؤوليتنا معكم في النهوض بأمتنا حتى تحتل مكانها اللائق بين الأمم المتقدمة ونشيد مجد إفريقيا الشمالية».
أما الجمعية الثانية فتسمى “جمعية الفتاة العربية الجزائرية” فقد ظهرت في الجزائر العاصمة في ربيع 1948، وكانت من أنشط أعضائها السيدة أنيسة بومدين التي نشرت مقالا تعريفيا بها في جريدة “الأسبوع” التونسية.
وتشير وثيقة هامة أطلعني عليها باحث تونسي وجدها في أوراق العالم الزيتوني الشيخ محمد الصالح النيفر أن هذه الجمعية أسستها طالبات درسن من قبل على يد الأستاذ محمد الحسن فضلاء، وهو من أنجح أساتذة ومدراء مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
وقد تأثر به كثير من المعلمين والطلبة بسبب توظيفه لطرق التدريس المعاصرة واستعانته بالوسائل التوضيحية الجديدة، واهتمامه بالفنون والمسرح.
ولا شك أن هذه الجمعية جديرة بالبحث والدراسة. آمل أن أقوم بها أو يقوم غيري بذلك قريبا.
نساء رائدات
والحق أن هناك أسماء كثيرة من النساء اللاتي ساهمن بجهود كبيرة في ترقية المرأة الجزائرية سواء في مجال التعليم أو الكتابة الصحفية أو العمل الجمعوي.
غير أن الكثيرات منهن مغيبات ومنسيات، ولم ينصفهن بعد التاريخ، أو أنهن فضلنا هدوء التاريخ على ضجيجه.
ومهما تكون أسباب التغييب أو العزوف فإنه من الواجب أن نلفت الانتباه إلى جهودهن الإصلاحي، ونعرّف بأعمالهن من باب التقدير والاعتراف.
وأذكر هنا بعض من هذه الأسماء باختصار حسب المعلومات القليلة المتوفرة لدي حاليا.
«ومن المعلمات الرائدات عام 1947 في مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة :
حورية عربية وعقيلة كحلوش، ونعناعة ونيسي.
وفي مدرسة الفلاح بوهران: فاطمة طياب، وأمينة زعنان، وحورية خثير.
وفي مدرسة بلكور، حي الأمير عبد القادر الآنسة فاتحة قبو.
وفي مدرسة رويسو بالعاصمة، زينيب بوعامر.
وفي مدرسة آقبو، حرمة الفاضلة».
وأذكر أيضا من المساهمات في جريدة البصائر زليخة عثمان إبراهيم معلمة بمدرسة دار الحديث بتلمسان.
ومليكة بن عامر معلمة في مدرسة التهذيب بشلغوم العيد.
وباية خليفة، وزليخة إبراهيم عثمان، وفتيحة القورصو، وفريدة عباس، ولويزة قلال، وعائشة سحنون- نجلة الشيخ أحمد سحنون، وخديجة بوكثرة، ومليكة بن عامر.
وإذا أردنا شيئا من التفصيل، قلنا:
لا يمكن الحديث عن حضور المرأة في نشاط جمعية العلماء دون الإشارة إلى السيدة ليلى بن ذياب.
لقد ولدت في 26 جوان 1934، ودرست على والدها الشيخ أحمد بن ذياب، أحد أعلام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فحفظت القرآن، وتعلمت قواعد اللغة العربية.
كما كونت نفسها بنفسها من خلال مطالعة ما كانت تجده في مكتبة والدها من كتب الأدب.
وكانت تنقتل معه عبر عدة مدارس الجمعية، وتساعده في إعطاء الدروس للبنات والنساء.
وقد وافقها الحظ في عام 1950 لما زار بيتها الصحافي التونسي نور الدين بن محمود صاحب جريدة “الأسبوع” الذي قدم إلى الجزائر لجمع الاشتراكات ومستحقات جريدته من الموزعين، فأطلعه أبوها على مقالاتها فأعجب بها والتزم بنشرها.
وهكذا دخلت ليلى بن ذياب إلى عالم الصحافة من تونس، ثم نشرت مقالات في جريدة “البصائر”، لسان حال جمعية العلماء الجزائريين بتشجيع من الشيخ محمد البشير الإبراهيمي كما ورد في رسالة الشيخ أحمد بن ذياب إلى الدكتور يحي بوعزيز.
اشتغلت ليلى بن ذياب بعد ذلك بالتعليم في مدرسة إحياء العلوم الإسلامية بالعلمة، وتقاعدت في عام 1988، وتفرغت لتربية أولادها، والمشاركة من حين إلى آخر في النشاطات الثقافية والتربوية.
أما السيدة زليخة قوار فقد ولدت بتلمسان في 10 أوت 1930، ودرست في دار الحديث، وكانت من أنشط طلبتها رغم فقدانها للبصر مبكرا.
وكلفت بعد تخرجها بتدريس التربية الإسلامية للبنات.
وسافرت في عام 1966 إلى القاهرة لمواصلة دراستها في معهد المكفوفين، وقدمت رسالة جامعية عنوانها: “الرعاية البيئية والمنزلية في الجزائر”.
وتعرفت في هذا المعهد على الأستاذ ماجد حافظ وتزوج بها.
وعملت بعد عودتها إلى الجزائر أستاذة في مدرسة العاشور للمكفوفين إلى غاية 1979.
ومن رائدات التعليم الحر في العاصمة، شامة بوفجي المولودة في بئر قاصدي علي بولاية برج بوعريرج في 13 مارس 1922.
انتقلت مع أسرتها إلى القصبة بالعاصمة، ودرست في مدرسة الشبيبة الإسلامية التي كان يديرها آنذاك الشاعر محمد العيد آل خليفة، ويدرّس فيها نخبة من المربين أمثال فرحات الدراجي، وباعزيز بن عمر، وعبد الرحمان الجيلالي…الخ.
فحفظت القرآن وتعلمت العلوم الشرعية واللغوية.
وبعد إتمام دراستها أسست السيدة شامة مدرسة خاصة للفتيات تشمل الدروس الدينية والتعليم العام والحرف المنزلية.
وقد نجحت في استقطاب البنات اللاتي أقبلن عليها حتى فاقت طاقة استيعابها، فتأسست لها 7 فروع في الأحياء الكبرى للعاصمة بمساعدة الأولياء.
وواظبت السيدة شامة على التدريس والتكوين في هذه المدرسة، وفي مدرسة برج بوعريرج التي عملت فيها بعد الاستقلال لمدة 15 عاما، وتفانت في أعمالها التربوية إلى أن فارقت الحياة في 14 ماي 1987.
ارتبطت السيدة زهرة ساحلي المولودة في تاكسانة بجيجل في 19 سبتمبر 1922 بجمعية العلماء من خلال والدها الشيخ صالح ساحلي وأخويها محمد الطاهر وعلاوة الذين أشرفوا على تعليمها. فحفظت القرآن، وتعلمت العلوم الأخرى.
وانخرطت بدورها في التعليم فدرّست في عدة مدارس حرة إلى جانب زوجها الشيخ مصطفى بوهني، ولم تتوقف عن التدريس إلا بعد أن أحيلت على التقاعد في عام 1984.
ولا شك أن السيدة زهور ونيسي المولودة في ديسمبر 1936م بقسنطينة هي أشهر كل هذه النساء.
درست في مدرسة التربية والتعليم، وكتبت في جريدة البصائر وصحيفة الشعلة وهي مازالت طالبة. وعملت معلمة في عدة مدارس جمعية العلماء.
وواصلت تعليمها بعد الاستقلال وتحصلت على عدة شهادات جامعية في الأدب والفلسفة وعلم الاجتماع.
وهي أول امرأة جزائرية تقلدت منصب الوزير في عام 1982 كوزيرة للشؤون الاجتماعية في 1982م، ثم وزيرة للحماية الاجتماعية في سنة 1984م فوزيرة للتربية الوطنية في سنة 1986.
صدرت لها مجموعة كتب منها:
الرصيف النائم (قصص 1967م)، على الشاطئ الآخر (قصص 1974م)، من يوميات مدرسة حرة (رواية 1978م)، لونجا والغول (رواية 1996م)، عجائز القمر (قصص 1996م)، روسيكادا (قصص 1999م) مسار امرأة (مذكرات) (2013).
لا شك أن سجل النساء في الحركة الإصلاحية بشكل خاص، وفي تاريخ الجزائر المعاصر بشكل عام حافل بالتضحيات والانجازات، وستظل كل الكتابات عنها غير كافية ما لم تصدر موسوعة كاملة تضم أسماء كل النساء الجزائريات اللائي ساهمن في بناء مجد الجزائر عبر العصور.