لقد كرّس الشيخ عبد الرحمان شيبان (1918-2011) قلمه للكتابة في الصحافة الجزائرية والتونسية حول الثورة الجزائرية التحريرية من جوانب متعددة.
وقد جمعت أغلب هذه المقالات المنشورة خلال خمسين سنة في كتابين، وهما: حقائق وأباطيل (2008)، في موكب الثورة (2010).
ما هي إرهاصات الثورة التحريرية في نظره؟ ما هو طابعها؟ كيف نجحت في تحقيق أهدافها؟ ما هي أبرز نشاطات الشيخ شيبان خلال الثورة؟ كيف واصل نضاله بعد استرجاع الاستقلال؟ هذه بعض الأسئلة التي أجبت عنها في هذا المقال الذي أهديه إلى روحه الطاهرة في الذكرى الرابعة لوفاته.
إرهاصات الثورة التحريرية
إن الثورة التحريرية لم تبدأ في نظر الشيخ عبد الرحمان شيبان في عام 1954، وإنما سبقتها إرهاصات قديمة تمتد إلى سنة 1937 لما كتب الشيخ عبد الحميد ابن باديس نشيده الخالد:
يا نشء أنت رجاؤنا وبك الصباح قد اقترب
خذ للحياة سلاحها وخض الخطوب ولا تهب
وفي سياق تحرير العقول وتحضير النفوس لخوض الجهاد وتحرير الوطن، كتب عبد الرحمان شيبان مقالا في جريدة “وحي الشباب” التونسية في عام 1947 وهو طالب آنذاك بجامع الزيتونة عنوانه :”واجب الشباب المغربي” يذكرهم بمسؤوليتهم تجاه شعوبهم وأمتهم التي علقت فيهم ثقتها الكاملة، ويدعوهم إلى الارتقاء ليكونوا في “مستوى هذه الطموحات وتحقيق الأماني ” المنشودة.
لقد كانت أوضاع الجزائر قبيل الثورة التحريرية سيئة للغاية حتى يئست كل الجمعيات والأحزاب الوطنية من التغيير في الأفق القريب، لذلك نشرت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 25 جوان 1954 أي ثلاثة أشهر قبل اندلاع الثورة- بيانا واضحا اعتبره الشيخ شيبان بمثابة ” إعلان للجهاد” ودعوة للتحرر والاستقلال.
فماذا جاء بالضبط في هذا البلاغ الخطير الذي يستشهد به الشيخ شيبان باستمرار؟
لقد عبّر البيان بوضوح عن روح اليأس في إصلاح النظام الاستعماري الذي يسير عكس اتجاه التحولات الدولية آنذاك، فعوضا أن يسلك مسالك جديدة ويتبنى قرارات متناسبة مع موجة التحرر التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وتأسيس هيئة الأمم المتحدة الواضعة لقوانين مشجعة على تقرير مصير الشعوب المستعمرة، فإن الاستعمار الفرنسي في الجزائر تجاهل كل هذه التطورات، وبقي يتعامل مع الجزائريين بذهنيته القديمة التي عفا عنها الزمن.
وقد اعتبر كُتاب البيان أن كل محاولة للتحاور مع هذا النظام الاستعماري الممثل في الحكومة الفرنسية والمجلس الجزائري المزوّر هو ” ضرب من العبث والاستكانة”.
هكذا لم يعد بعد هذا التاريخ من أولويات جمعية العلماء المطالبة بحل المشكلات الاجتماعية والمسائل الدينية بل المطالبة بحل ” كامل للقضية الجزائرية التي هي وحدة لا تتجزأ”. وقد حان الوقت لتغيير الذهنيات الجزائرية من أجل مستقبل أفضل للجزائر. وطالب البلاغ من الجزائريين أن يتحركوا ككتلة موحدة لتحقيق أهدافهم: ” إن الأمة الجزائرية يجب عليها في الساعة الحاضرة وفي مستقبل الأيام أن تتوجه بكليتها لمحاولة حل قضيتها حلا عادلا يتناسب مع التطور العالمي الحديث”.
الجذور الشعبية للثورة التحريرية
هل كانت الثورة الجزائرية نتيجة العمل السياسي الطويل أو ثمرة الجهود الإصلاحية الجبارة، أم هي خلاصة كل التجارب السابقة، وعصارة كل التضحيات التي قدمها الشعب الجزائري بكل أطيافه الأيديولوجية وطبقاته الاجتماعية؟
إن الشيخ عبد الرحمان شيبان يرى أن الثورة لم تكن بورجوازية أو ماركسية كما يصفها بعض المؤرخين الفرنسيين والجزائريين، ذلك بأن صانعيها كانوا ينحدرون من الأرياف ومن المدن، ولم يتخل عنها الأغنياء والفقراء، ولم يتنكر لها العلماء والبسطاء، ولم يبخل عليها الرجال والنساء، فكلهم ساهموا بطرق مختلفة كل حسب تضحيته وقدراته في دفع عجلة التاريخ وإيقاد لهيب الثورة الذي لم يخمد إلا بعد سبع سنوات ونصف من الإصرار الذي انتهى بالانتصار.
ولقد لخّص الشيخ شيبان هذه المعاني في هذه الفقرة المعبرة: “إن الإعداد والتمهيد للثورة التحريرية الكبرى ساهم فيه عموم الجزائريين والجزائريات، ساهم فيه المجاهد بسلاحه، والسياسي بنضاله، والمعلم بتعليمه… والإمام بوعظه، والطبيب بعلاجه، والمحامي بدفاعه، والصحافي بقلمه، والمهندس برسومه، وصاحب الأدب والفن بإبداعه، وصاحب الفلاحة والتجارة بماله، والفقير البائس بعرق جبينه وحرمانه، وكل المعذبين في سبيل الحرية والكرامة من الضحايا والمساجين والشهداء والثكالى والأيامى واليتامى، يحدو الجميع إيمان صادق في عدل جهادهم، وثقتهم بربهم أن ينصر من ينصره.”
مثقف في موكب الثورة
انخرط الشيخ شيبان –صاحب هذه العقيدة الثورية الراسخة- في موكب الثورة منذ سنتها الأولى، فكان عمله في البداية سريا قبل أن يعلن عنه في غرة عام 1956. كان يقدم شهادات مزوّرة من معهد عبد الحميد بن باديس للمجاهدين الذين كانوا يتجهون نحو المشرق العربي بذريعة مواصلة دراساتهم العليا في الجامعات العربية.
لقد قلت له يوما أنني وجدت وثيقة في مصلحة الأرشيف العسكري الفرنسي (فانسان) تشير إلى ما ذكرته سابقا، فهل هذا صحيح أم هو تلفيق من الجهاز الأمني الفرنسي وليس له صلة بالواقع؟ أجابني الشيخ رحمه الله إنه فعلا كان يقوم بهذا العمل السري في السنوات الأولى للثورة التحريرية وهو يعمل آنذاك أستاذا للأدب العربي والبلاغة في معهد ابن باديس، بالإضافة إلى بث الوعي القومي في عقول طلبته، والدفاع عن الكفاح الوطني في مقالاته التي كان ينشرها في جريدة “البصائر”.
وفي ربيع 1956 خرج من الجزائر إلى تونس فانضم إلى هيئة تحرير جريدة “المقاومة الجزائرية” التي كانت تصدرها لجنة الصحافة والنشر لجبهة التحرير الوطني وإعداد ركن دائم عنوانه: “صفحات خالدة من الإسلام”. وكانت غايته من ذلك هي ربط كفاح الشعب الجزائري بجهاد المسلمين عبر التاريخ، وتأكيده على الطابع الإسلامي لثورة التحرير وبعدها الروحي.
وهكذا شبّه الأستاذ عبد الر حمان شيبان -على سبيل المثال- في مقال نفيس ثورة فاتح نوفمبر بغزوة بدر التي سجل خلالها المسلمون المستضعفون أول انتصاراتهم على أعدائهم، وفتحوا بذلك عهدا جديدا في تاريخ الإسلام، وكتبوا الصفحة الأولى في كتاب مجد المسلمين.
وفاتح نوفمبر جدد أيضا عهد الجزائريين مع بطولات أجدادهم القدامى والمعاصرين، ورسم لهم طريق الجهاد والتضحية لنيل الحرية والعزة والكرامة التي وعد الله بها عباده العاملين المخلصين.
كما شارك الشيخ شيبان في تأسيس مجلة “الشباب الجزائري” التي كانت تصدرها لجنة الشباب والرياضة لجبهة التحرير الوطني. وكانت مهمتها تجنيد الشبان والطلبة الجزائريين للالتحاق بصفوف الثورة في الداخل والخارج.
وهكذا يعلن منذ العدد الأول عن هذه المهمة التعبوية داعيا الشباب والطلبة إلى الانضمام إلى الثورة بعد أن بيّن لهم تضحيات المجاهدين وانتصاراتهم، ونبّههم إلى مدى حاجتهم إلى النصرة والمساعدة لتحقيق الأهداف :” إنك تعيش بعيدا عن وطنك حيث تجري المعارك دامية عنيفة بين قوى الشر والعدوان : قوى الاستعمار الأثيم وبين شعبك الأبي، جنّد جميع طاقته وكل إمكانياته ليفتك حريته ويسترجع استقلاله متحملا في سبيل ذلك أقصى التضحيات وأفدح النكبات، يحدوه إيمانه القوي بالنصر النهائي، وثقته الكاملة في جيشه البطل وحكومته الحازمة”.
كذلك نشر الشيخ شيبان في هذه المجلة مقالات في الوعي الوطني وتصحيح الذهنيات البالية والتعريف بأمجاد الجزائر، واقتبس مقولات للأدباء والمثقفين المعروفين المساندين لكفاح الشعب الجزائري تأكيدا منه على رواج الثورة التحريرية وقدرتها على كسب الأصدقاء في كل أنحاء العالم معبرين عن شرعية كفاح الجزائريين من أجل الحرية والاستقلال كسائر شعوب العالم.
كما كان يساهم في ركن “الحديث السياسي” الذي تبثه إذاعة صوت الجزائر بتونس. وهو برنامج يتضمن تحاليل لأبرز الأحداث السياسية والعسكرية التي لها صلة بالثورة التحريرية.
هذه هي أهم الأعمال الثورية التي كان يقوم بها الشيخ عبد الرحمان شيبان في تونس وليبيا مع مجموعة من المثقفين الجزائريين أمثال محمد الميلي، محمد الصالح الصديق، لمين بشيشي، عبد الله شريط والجنيدي خليفة، وغيرهم.
ولا شك أن كل عمل من هذه الأعمال يحتاج إلى الدراسة والتفصيل، وهو ما لا يتسع له هذا المقال.
جمعية العلماء والثورة التحريرية
لقد كان الشيخ عبد الرحمان شيبان حريصا على إبراز دور جمعية العلماء في نشر ثقافة المقاومة وترسيخ أفكار التحرر سواء في مقالاته أو محاضراته أو خطاباته الإذاعية.
ودأب على ذلك بعد نيل الاستقلال. فقد كان يحرص على حضور الندوات والملتقيات التاريخية المخصصة للثورة الجزائرية –خاصة بعد توليه رئاسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين (1999-2011)– ليقدم محاضرة أو تعقيبا.
وكانت كل هذه الجهود تصب في التذكير بدور هذه الجمعية الإصلاحية الفعال في الحركة الوطنية والثورة التحريرية.
كما كان يشجع المثقفين والباحثين على الكتابة في هذا الموضوع، وأتذكر هنا أنه لما سمع بأنني سأقدم محاضرة عن دور جمعية العلماء في الثورة التحريرية، هاتفني وقال لي بأنه يملك بعض الوثائق حول الموضوع، وسأل عن عنواني ليبعثها إليّ. وفعلا في الغد أرسلها إلي عن طريق سائقه الخاص.
وكان يتابع الكتابات المخصصة للثورة التحريرية من كتب ومقالات فإذا وجد فيها جملة أو فقرة أو صفحة يجحد فيها صاحبها دور جمعية العلماء في الثورة راسل الجريدة لتصحيح الخطأ، أو خصص افتتاحيته الأسبوعية في جريدة البصائر للرد على صاحب المقال أو الكتاب. وهكذا كتب مقالات كثيرة مدعمة بالآيات والأحاديث والشواهد التاريخية ليبرز الحقائق ويفند الأباطيل.
ماذا بقي من قيم الثورة التحريرية؟
يرى الشيخ شيبان أن الثورة الجزائرية نجحت في أعمالها وحققت أهدافها لأنها توفرت فيها ثلاثة شروط أساسية، وهي: وحدة الشعب، وصلاح القيادة، والظروف الخارجية.
وهي شروط لم تتوفر كلها في المقاومات السابقة التي قادها رجال مخلصون وشجعان ومهرة، لكن كانت ثوراتهم محلية لم يلتف حولها كل الشعب الجزائري كما أنها لم تستفد من أي دعم خارجي سواء بالسلاح أو المال أو الرجال أو الدبلوماسية.
أما الثورة الجزائرية فقد جنّدت كل فئات الشعب الجزائري التي وقفت إلى جانب قادتها الذين يتصفون بكل مواصفات الإخلاص والتضحية والكفاءة والشجاعة… كما كسبت الثورة دعما كبيرا في الخارج في ميادين متعددة.
غير أن الوحدة الوطنية التي كانت “رأس مال الشعب في جهاده وانتصاره” أصبحت مهددة بعد أن ظهرت قوى سماها بـ ” الطابور العاق لهويته وتاريخه” تشن “حملات منظمة …ضد المقومات الأساسية للشخصية الجزائرية المتمثلة في إسلامها، وعروبتها، ورموزها، وقياداتها العلمية والروحية”.
لقد كتب الشيخ شيبان كثيرا عن هذه الردة الثقافية، وانتقد سياسات تهميش اللغة العربية في المجالات الحيوية، وتحسر على ابتعاد الناس عن الدين الصحيح، غير أنه كان يؤكد دائما أن حركة التاريخ تسير بالجزائر نحو الأمام بثوابتها الراسخة وقيم ثورتها العالية رغم كل المعوّقات، وأنها لن تعود بها مؤامرات الاستعمار ومغالطات أذنابه خطوات إلى الوراء!
وكان يتوجّه إلى الله سبحانه وتعالى متضرعا بهذا الدعاء الصادق الذي أختم به هذا المقال: “اللهم أزح الغشاوة عن أبصارنا، لنستلهم روح نوفمبر –الذي وحّدنا فجاهدنا فانتصرنا- في العمل الجاد على جمع كلمتنا، واجتثاث جرثوم الهدم والفساد من كياننا، فنجتاز محنتنا بما يحقق آمالنا في الاستقرار والازدهار، في كرامة شامخة كاملة منيعة …” آمين!