في الرابع والعشرين من شهر جويلية من سنة 1974م، فقدت الجزائر واحدا من أبنائها البررة الذين لم يألوا جهدا ولم يدخروا وسعا في العمل لمجدها ورفعة مكانتها وإعلاء سمعتها؛ إنه الأستاذ الشيخ محمد المنصوري الغسيري، المعلم والمربي والدبلوماسي الجزائري.
من هو الغسيري؟
هو محمد بن أحمد يكن المنصوري الغسيري، ينتمي إلى عرش أولاد منصور، أحد أعراش منطقة غسيرة، التابعة حاليا لدائرة تكوت بولاية باتنة، وهي منطقة تجمع عدة قرى هي: تفلفال، أريناش، أولاد عابد، غوفي، كاف لعروس. وأولاد منصور يقتسمون مع أولاد يحيى قرية كاف لعروس الحالية.
وقبل أن تنشأ القرى الحالية، كان سكان غسيرة يعيشون على ضفتي الوادي الأبيض، وهو واد يبدأ من أريس وينتهي عند سيدي عقبة، وهذا الوادي كان دائم الجريان، وتجتمع مياهه من الأمطار والثلوج التي تهطل عادة على المنطقة، إضافة إلى المنابع المائية الكثيرة التي تلتقي مياهها لتصب في مجرى هذا الوادي.
وقد نشأت على ضفتي الوادي بساتين جمعت أصنافا مختلفة من الأشجار، لكن الصنف الغالب هو النخيل. وكان سكان المنطقة يعتمدون في غالب قوتهم على التمر، وهو وسيلتهم إلى شراء غيره من الحاجيات حيث يستبدلونه بغيره مما يحتاجون إليه. ولذلك كان غالب عمل أهل المنطقة في هذه البساتين، باعتبارها المصدر الوحيد لرزق بالنسبة لهم.
في هذه البيئة، ولد محمد يكن الغسيري، لأب هو أحمد بن محمد وأم هي أم الخير بنت أحمد يكن، وكان مولده في سنة 1915م، لكنه لم يسجل في سجلات الحالة المدنية بأريس إلا في سنة 1919م.
النشأة والتكوين:
عندما بلغ السابعة من عمره، أي سنة 1922، أُدْخِلَ الكتاب لتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، فتلقى تعليمه القرآني على أيدي عدد من المشايخ في بلدته، منهم: خلاف ورياشي، أحمد بن مخلوف بولطيف، حمودة حمودة.
وفي شهر ماي من سنة 1927 التحق بزاوية الشيخ أحمد بن الصادق التي كانت قائمة في أولاد ميمون في الطرف الجنوبي من قرية غوفي. وفي هذه الزاوية أتم حفظ القرآن الكريم في أربع سنوات، حيث انتهى من حفظه حفظا جيدا سنة 1931.
شد الرحال بعد ذلك إلى بسكرة، أين التحق بزاوية الشيخ محمد الصغير الجوادي، ثم انخرط سنة 1932 في صف تلاميذ مدرسة الإخاء للشيخ محمد خير الدين التي كانت قد تأسست في تلك السنة، وهناك تلقى العلم على عدد من معلميها، منهم:
الشيخ الطرابلسي الميزابي، الشيخ محمد خير الدين، الشيخ عمر البسكري، الشيخ بلقاسم الغسيري، وغيرهم من أفاضل العلماء. وكان يقيم في زاوية سيدي الجوادي مع الطلبة الجوالة فترة، ثم تكفل به رجل صالح محب للعلم وأهله، مقابل أن يتولى الغسيري تحفيظ القرآن الكريم لابنيه وابن أخيه.
لكن مقام الغسيري في هذه المدرسة لم يطل، بسبب توقف الدراسة بها نتيجة المشاحنات الانتخابية والخصومات التي كانت قائمة في ذلك الحين.
مع الإمام ابن باديس:
التحق بقسنطينة سنة 1933، رفقة زميله مسعود صحراوي، حاملا معه توصية خاصة من الشيخ محمد خير الدين، وعندما دخل على الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس في مقصورته وطلب منه السماح له بالجلوس بين يديه وأخذ العلم عنه، وافق الإمام على طلبه، ومنذ ذلك الحين لم يفارق الغسيري شيخه حتى وفاة هذا الأخير، حيث درس على يديه علوم الشريعة واللغة العربية، واقتبس من أدبه كما أخذ من علمه.
كما درس أيضا على غيره من الأساتذة الذين كانوا يعينونه في إلقاء الدروس على الطلبة.
وقد كان الإمام عبد الحميد بن باديس، إلى جانب تعليم طلبته مبادئ العلوم العربية والإسلامية، حريصا على تدريبهم على الخطابة والكتابة والتدريس، حتى إذا حصلوا العلم صاروا متهيئين لتبليغه بعد ذلك بسهولة. وكان يكلف قدامى تلاميذه بتدريب زملائهم الجدد.
ومما يرويه الأستاذ محمد الحسن فضلاء رحمه الله في هذا الصدد؛ أنه في نفس السنة التي التحق فيها الغسيري بقسنطينة، أي سنة 1933، كان الأستاذ الفضيل الورتلاني أحد عرفاء الطلبة قد سن سنة حميدة بتوجيه من الإمام ابن باديس، وهي جمع طلبة الجامع الأخضر مرة في كل أسبوع في مكان أسموه (المأوى)، وهو عبارة عن مرأب كبير استؤجر لفائدة الطلبة، فكانوا يتدربون فيه على فنون الخطابة والحديث، وذات مرة فاجأ الأستاذ الفضيل الطالب الجديد محمد الغسيري وطلب منه أن يقف ليلقي خطبة، فارتبك الغسيري ووقف يرتعد من الخجل لا يدري ما يقول، وسكت وطال صمته، ثم قال له الأستاذ الفضيل: تكلم عنك، اذكر اسمك وبلدك وأين تعلمت، ولماذا جئت إلى هنا؟ فقال:
أنا محمد المنصوري الغسيري، ولدت بغسيرة، حفظت القرآن الكريم، وتعلمت في مدرسة الإخاء ببسكرة، وجئت إلى قسنطينة لأتحصل على العلم والمعرفة لدى الأستاذ عبد الحميد بن باديس، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
كانت هذه المفاجأة المربكة سببا لأن ينطلق لسان الغسيري بعد ذلك ويصدح بالخطب البليغة والأحاديث الممتعة، ويبوئ صاحبه مكانة الخطيب المِصْقَع بين خطباء جمعية العلماء.
انخراطه في النشاط الوطني:
خلال مرحلة طلبه للعلم على يدي الإمام عبد الحميد بن باديس، تفتح وعيه الوطني، وأدرك خطورة الاستعمار على وطنه وبني قومه، ولذلك حرص على القيام بعمل من شأنه أن يخدم وطنه من خلاله، فكان أن أسس بقسنطينة في ربيع سنة 1934، رفقة عدد من زملائه منهم أحمد بن ذياب ومحمد الصالح رمضان وعلي شطاب وبلقاسم الزياني، خلية سرية ثورية.
وكانت هذه الخلية تجتمع بعد صلاة العصر في مصلى الجامع الأخضر، بعد أن ينصرف المصلون. وقد روى الأستاذ أحمد بن ذياب رحمه الله أن الإمام ابن باديس كان يقول له ولزملائه في هذه الخلية: لو أني دعوتكم لثورة أأنتم مستمعون؟ فيقولون جميعا بصوت واحد: نعم.
كما أسس الغسيري رفقة عدد من زملائه الأوراسيين، منهم عمر دردور وأحمد السرحاني وبوزيد قارش، الخلية الأوراسية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان لهذه الخلية نشاط اجتماعي وسياسي أقلق الاستعمار وأذنابه في المنطقة.
عمله في التربية والتعليم:
بعد أربع سنوات من الدراسة، تخرج الغسيري على يدي الشيخ عبد الحميد بن باديس، وكان يمكن أن يلتحق بالزيتونة لإتمام الدراسة العليا بها كما كانت عادة الطلاب في تلك المرحلة، إلا أنه يبدو أن جمعية العلماء لاحظت نبوغه والإمكانات العلمية والأدبية والأخلاقية التي يتوفر عليها، فقررت الاستفادة منه، وعينته سنة 1937 معلما بمدرسة باتنة، هذه المدرسة التي علم بها خلال أشهر صيف تلك السنة، لكنه سرعان ما غادرها عائدا إلى قسنطينة أين عين معلما في مدرسة التربية والتعليم بها، رفقة عدد من زملائه ومنهم: محمد العابد الجلالي، وعبد الحفيظ الجنان، والسعيد حافظ، ومحمد الصالح رمضان.
وفي هذه المدرسة كان له نشاط حثيث، وعناية بتدريس عدد من المواد للطلبة من الذكور والإناث، ومن بين المواد التي درسها: النحو والصرف، الإملاء والإنشاء، فقه العبادات، السيرة النبوية، تاريخ الخلفاء الراشدين، وغيرها من المواد اللغوية والشرعية.
نشاطه في إطار الكشافة:
إضافة إلى نشاطه في التربية والتعليم، انخرط الغسيري في صفوف الكشافة الإسلامية الجزائرية، وكان مرشدا لفوج (الإقبال) بقسنطينة لبضع سنوات قبل الحرب العالمية الثانية.
وبعد استشهاد السيد محمد بوراس مؤسس الكشافة وانقسام الحركة الكشفية إلى جامعتين، تولى الغسيري قيادة إحداهما، إضافة إلى عضويته في القيادة العامة على مستوى العاصمة، وكان يشارك في مخيماتها وملتقياتها وتجمعاتها، ويسهم في تمثيلها في مختلف التظاهرات.
وقد كتب عدة نصوص لفائدة الكشافة، منها: التقرير الديني والأخلاقي الذي كلف بإعداده من قبل السيد محمد فارس القائد العمالي للكشافة لعمالة قسنطينة سنة 1943م، وكذا لائحة المرشدين المقدمة للقيادة العليا للكشافة الإسلامية الجزائرية في مخيم تلمسان سنة 1944، وغيرها.
تعرضه للاضطهاد:
لم يكن نشاط الغسيري الدائب وعمله المستمر ليخفى على الدوائر الاستعمارية التي كانت ترصد كل نشاط وطني وتتحين الفرص للانقضاض على أصحابه، لذلك ما إن وقعت حوادث 8 ماي 1945، حتى سارعت القوات الاستعمارية إلى اعتقال قادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وعلى رأسهم الإمام محمد البشير الإبراهيمي.
كما اعتقلت نشطاء الجمعية ومنهم الغسيري، الذي تم اعتقاله وإيداعه السجن المدني بقسنطينة يوم 16 ماي 1945، ثم نقل منه إلى سجن الحراش، ومنه إلى معتقل جنين بورزق جنوب وهران بين بشار وعين الصفراء، وبعد إغلاق هذا المعتقل نقل إلى معتقل المشرية، الذي ظل به إلى غاية 27 مارس 1946، حيث صدر العفو بحقه وتم إطلاق سراحه، ليعود إلى مواصلة مهمته في ميدان التربية والتعليم.
عضويته في لجنة التعليم العليا:
وعندما أنشأت جمعيةُ العلماء المسلمين الجزائريين لجنةَ التعليم العليا، سنة 1946، أوكلت رئاستها إلى الأستاذ إسماعيل العربي، وعينت الأستاذ محمد الغسيري ضمن أعضائها، رفقة كل من المشايخ: محمد الصالح رمضان، عبد القادر الياجوري، أحمد حماني، الصادق حماني، عبد الحفيظ الجنان، علي مرحوم، العباس بن الشيخ الحسين، أحمد بن ذياب، رحمهم الله جميعا.
وقد قامت هذه اللجنة بدور بارز في توحيد التعليم وتطوير مدارس جمعية العلماء وإعطائها البعد المنهجي والتربوي والعلمي الذي رفع مستواها إلى أعلى المراتب.
كما اختير الغسيري كذلك لعضوية اللجنة الفرعية التي أُوكِل إليها وضعُ منهاج التعليم في المدارس العربية الحرة، وقد أعد في إطار أعمال هذه اللجنة: (خلاصة الدروس الفقهية)، التي وُزعت على جميع المدارس الحرة ووضعت موضع التطبيق العملي فيها.
وفي السنة نفسها (1946)، تم تعيينه كأول مفتش عام لمدارس جمعية العلماء على مستوى الوطن، وظل يؤدي هذه المهمة بكفاءة واقتدار إلى غاية سنة 1949.
تعين بعد ذلك مديرا لمدرسة باردو بقسنطينة في السنة الدراسية (1949 ـ 1950)، وفي السنة الموالية لها (1950 ـ 1951) مديرا لمدرسة الإرشاد بسكيكدة، والتي ظل بها إلى أوائل سنة 1956 حيث عاد إلى قسنطينة، مستأنفا من جديد مهمته في التفتيش.
جوانب أخرى من نشاطه:
لم يكن نشاط الغسيري مقصورا على العمل الإداري والتربوي بعيدا عما كانت تموج به الساحة الوطنية حينئذ، بل كان يشارك بهمة كبيرة في أنشطة جمعية العلماء ويقوم بمهمات كثيرة بتكليف منها، إضافة إلى مهمته كإطار قيادي في الكشافة الإسلامية الجزائرية.
من ذلك أنه زار تونس سنة 1949، مندوبا عن الشيخ العربي التبسي، لتفقد أحوال الطلبة الجزائريين في الجامعة الزيتونية.
وقام في أواخر شهر جويلية من سنة 1950، بزيارة إلى المغرب الأقصى، بتوجيه من الأستاذ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، فحل بفاس، وزار معظم مدارسها، كما زار مدارس مكناس، والرباط، وسلا، والدار البيضاء.
وقد حظي في هذه الزيارة بالتكريم والحفاوة من رجالات المغرب: مديرو المدارس ومعلموها، وأعضاء حزبي الشورى والاستقلال، وأعضاء الحكومة.
كما قام في صائفة سنة 1951 برحلة إلى فرنسا، عن طريق البحر، ومنها انتقل إلى النمسا وحضر المؤتمر العالمي للكشاف، ممثلا عن الكشافة الإسلامية الجزائرية ومرافقا لقائدها الأستاذ محمود بوزوزو.
وفي سنة 1953، توجه إلى جمهورية مصر العربية، ضمن وفد الكشافة الإسلامية الجزائرية المكون من 28 كشافا، لحضور حفلات الذكرى الأولى لثورة يوليو 1952، استجابة لدعوة الكشافة المصرية. وقد استقبلوا أثناء مرورهم عبر ليبيا من قبل كشافة طرابلس والإذاعة الليبية وأعضاء من الحكومة، وشاركوا في استعراض بشارع عمر المختار منشدين (شعب الجزائر مسلم).
وعند الوصول إلى مصر حظي الوفد الجزائري باستقبال حار من قبل الكشافة المصرية، وهيئت لهم جولات وزيارات واستقبالات على مدى عشرة أيام، حيث طوف بهم مضيفوهم في المدن، والمصانع، والمتاحف، والمعاهد، والمطابع، والمساجد، والقصور، والأهرامات، والمكتبات والإدارات، بما فيها قصر رئاسة الجمهورية، والبرلمان وجامعة الدول العربية، وغيرها.
وقد سجل الغسيري وقائع هذه الرحلة في مقال نشر على حلقتين في جريدة (البصائر) في شهر سبتمبر سنة 1953، بعنوان (مصر الشقيقة تحتفل بالكشافة الإسلامية الجزائرية).
إسهامه في الثورة:
مما كتبه الغسيري في مذكراته؛ أنه في زيارته السابقة الذكر إلى القاهرة حظي هو ورفاقه بلقاء المجاهد المغربي القائد السيد عبد الكريم الخطابي، وقد وصف لنا ما جرى في هذا اللقاء، فقال:
“في صائفة سنة 1954 زرنا، في رحلتنا إلى المشرق العربي، بالقاهرة (الأمير عبد الكريم الخطابي) وذلك في منزله، وكنا كشافة يبلغ عددنا 28 وصحافيين خمسة، ومنهم: فرحات عباس وأحمد بومنجل والطاهر التيجاني ومحمد الهادي جمام، وفي أثناء تحدثه إلينا أعلن بأنه سيطلعنا على سر يجب كتمانه، وأنه ليعمد إلى أخذ الأيمان منا على المصحف الشريف ألا نذيع هذا الخبر أبدا حتى يتحقق العمل به، وأقسمنا جميعا أن لا نذيع السر، ثم قال، بعد أن سأل كلا منا عن مهنته التي يمتهنها في البلد: إن عليكم ان تعلنوا الثورة المسلحة بعد عودتكم إلى الجزائر، ولقد أضحى مستحيلا أن تمنحكم فرنسا أي حق بدون إعلان الجهاد والشروع فيه فورا، وإن لم تفعلوا لا قدر الله فإن هناك من يعلنه ومن هنا من القاهرة، ولست أنا بعيدا عن ذلك.. وعدنا إلى الجزائر على أمل تنفيذ العهد والمشاركة في العمل العظيم الذي سيجابهه شعبنا، وما هي إلا اشهر حتى أعلنت الثورة يوم غرة نوفمبر 1954.
وبعدها مباشرة أعلنا تأييدنا لها والتحقنا جميعا بالفروع التي حددت لنا، وكنا نحن المعلمين في مدينة قسنطينة نعمل فرادى ومع وحدات الجيش في ميدان التمويل والتسليح، ثم ما لبثنا أن أعلنا نحن المعلمين الأحرار أي معلمي مدارس جمعية العلماء بواسطة منشور بجريدة (البصائر) أننا جميعا مؤيدون للثورة وملتحقون بصفوفها ونتحمل كل عواقب عملنا ذاك، وما هي إلا أيام حتى بدأت المدارس تغلق والإخوان يسجنون…”.
كان للغسيري إذن نشاط كبير في إطار دعم الثورة وحشد الطاقات البشرية والإمكانات المادية للإسهام فيها، وقد دام نشاطه على تلك الحال قريبا من سنة ونصف، مما جعل الاستخبارات الاستعمارية تتابع أنشطته وتحصي عليه حركاته وتتحين الفرص للانتقام منه.
وقد كانت حادثة اغتيال محافظ شرطة قسنطينة، فرصة سانحة للانتقام من رجال الفكر والثقافة الناشطين في إطار الثورة.
وقد كتب الغسيري في مذكراته عن هذه الحادثة وما نتج عنها من تداعيات، فقال:
“غرة أبريل 1956، وفي هذه الأيام حدثت أحداث في قسنطينة، قتل فيها رئيس قسم البوليس (رحبة الصوف) المدعو (سامار سيلي)، وذلك على يد فدائي أطلق عليه رصاصة أردته صريعا في الحين (في رواق الجزارين قريبا من الجامع الأخضر).
وكان أن عمدت السلطات الفرنسية إلى إلقاء القبض على جماعة من رفاق النضال في مدينة قسنطينة فأعدمتهم غيلة وغدرا، وكان بينهم الكاتب القصصي (أحمد رضا حوحو) كاتب (معهد ابن باديس)، والحاج إسماعيل بوعلاق عضو جمعية التربية والتعليم الإسلامية، وعلي بودور، وعلي نزار، وعبد الملك بوزو، وعلاوة بوالصوف، وغيرهم، وقد قتلوهم دون محاكمة.
كما أن ولد الكوميسار القتيل (سامار سيلي) حمل رشاشه في معية جمع من القتلة الفرنسيين، فخرجوا هائجين إلى الشوارع قرب (الكدية) يطلقون الرصاص على كل من يجدونه أمامهم، فقتلوا عديدا من سكان المدينة ثأرا لقتيلهم”. اهـ.
وقد أُخْبِرَ الغسيري، من طرف محام اسمه عبد الحميد بن باحمد كان صديقا لوالي قسنطينة، بأن اسمه مدون ضمن قائمة المعنيين بالاعتقال وربما الإعدام، مما اضطره إلى التخفي والخروج من قسنطينة متوجها إلى الجزائر العاصمة بواسطة القطار.
خروجه من الجزائر:
وفي 9 أبريل 1956، تمكن من السفر إلى فرنسا باسم مستعار، حيث وصل إلى مرسيليا التي انتقل منها إلى ليون، وهناك كلف بالعمل مع العمال الجزائريين بغية تأسيس خلايا جبهة التحرير الوطني بها، فقام بالمهمة التي أسندت إليه بنجاح.
وبعد مدة قضاها متنقلا في تلك المنطقة والمدن المجاورة لها، انتقل إلى باريس أين التقى بقيادة شعبة جبهة التحرير فيها حينئذ: أحمد طالب الإبراهيمي وصالح الوانشي ومحمد لبجاوي.
وقد قضى شهر رمضان من تلك السنة في باريس، في اجتماعات متواصلة مع العمال الجزائريين في منازلهم وفي أماكن اجتماعاتهم السرية.
ثم دُبِّر له بعد ذلك أمر السفر إلى القاهرة عبر سويسرا، حيث غادر التراب الفرنسي متوجها إلى زوريخ، التي وصلها يوم 19 ماي 1956، وفي صبيحة يوم 20 منه حل بمطار القاهرة.
تمثيل جبهة التحرير في دمشق:
أقام الغسيري في القاهرة مدة شهر، ثم جاءه التكليف من قيادة جبهة التحرير الوطني بالانتقال إلى دمشق، التي وصلها في 21 جوان 1956، حيث تم تعيينه ممثلا دائما للجبهة فيها، وقد عمل أولا مساعدا للأستاذ عبد الحميد مهري، ثم بعد استدعاء هذا الأخير إلى القاهرة صار هو الممثل الرسمي للجبهة في سوريا، وهناك ظل يقوم بمهمة حشد الدعم للثورة الجزائرية والتعريف بها والتبشير بقرب انتصارها، كما ظل يشرف على الحصص الإذاعية الموجهة من دمشق إلى الجزائر وثوارها، إلى غاية استقلال الجزائر سنة 1962.
وأثناء وجوده في دمشق، وبشهادة الأستاذ محمد مهري الذي عمل معه هناك، ربط الغسيري علاقات وطيدة مع أهل الشام حكومة وشعبا، وكان يحظى بمحبة واحترام كبيرين، لما كان يتميز به من تواضع جم وصدق في المعاملة وتفان في خدمة القضية الوطنية والتعريف بها وجمع الناس على تأييدها.
عمله الدبلوماسي بعد الاستقلال:
بعد الاستقلال عاد الغسيري إلى الجزائر ليستقر فيها، لكنه ما لبث أن تم تعيينه من قبل الحكومة الجزائرية سنة 1963 كأول سفير للدولة الجزائرية في المملكة العربية السعودية، وهو المنصب الذي ظل يشغله إلى غاية سنة 1970، وقد استطاع ببُعد نظره وحنكته السياسية ومرونته الدبلوماسية أن يربط علاقات ممتازة بين البلدين، مما جعله محل تقدير بالغ واهتمام كبير واحترام عال من قبل القادة السعوديين، يظهر ذلك من خلال منحه السيف الذهبي لآل سعود، وهو تقدير من الدولة السعودية لم يحظ به أحد قبله.
وفي سنة 1970، انتقل إلى الكويت سفيرا للجزائر بها كذلك، وممثلا أيضا للجزائر في اليمن الجنوبية والإمارات العربية المتحدة، مع الإقامة في الكويت.
وفاته:
في صائفة سنة 1974، عاد الغسيري إلى الجزائر لقضاء عطلته السنوية بها، وقام بزيارة إلى مسقط رأسه غسيرة، واتصل بأهله وأقاربه في كاف لعروس، ومنها انتقل إلى تكوت، حيث بدأ يشعر بآلام في البطن.
وفي مساء 22 جويلية كان على موعد مع العشاء في أريس بدعوة من رئيس دائرتها، لكن الآلام المتزايدة منعته من تناول الطعام، مما جعله يسافر في الساعة الحادية عشرة ليلا إلى مدينة باتنة، حيث قضى ليلته تلك عند الشيخ الأمير صالحي مدير الشؤون الدينية لولاية باتنة حينئذ.
وفي ضحى يوم 23 تعرض لنزيف داخلي، نقل على إثره إلى مستشفى باتنة ومنه إلى مستشفى قسنطينة.
ثم نقل إلى الجزائر العاصمة أين أدخل المستشفى، ليوافيه أجله المحتوم يوم 24 جويلية 1974م.
ودفن بمقبرة العالية. رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.
وكان الذي أبنه هو زميله وصديقه الشيخ علي مرحوم رحمه الله، الذي ألقى كلمة مطولة أشاد فيها بخصاله وجهوده وأعماله.
آثاره الفكرية:
تميز الغسيري بقدرات بيانية عالية، وكان يتوفر على موهبة ظاهرة في الكتابة والتأليف، إلا أن انشغاله المتواصل بالتدريس والتفتيش والإدارة في ميدان التربية والتعليم، ونشاطه القيادي في إطار الكشافة الإسلامية الجزائرية، ثم انخراطه بعد ذلك في العمل الدبلوماسي، كل ذلك منعه من أن يتفرغ للكتابة والتأليف، ولذلك كان ما كتبه قليلا رغم أهميته البالغة.
وقد أحصينا له من الآثار ما يلي:
1 ـ مجموعة مقالات في نشرية (الحياة) لسان حال الكشافة الإسلامية الجزائرية.
2 ـ مجموعة مقالات حول رحلته إلى الحج سنة 1953، منشورة في جريدة (البصائر) لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، صدرت الحلقة الأولى في العدد 250 من السلسلة الثانية، الصادر يوم 5 ربيع الثاني 1373 هـ، الموافق 11 ديسمبر 1953، أما آخر حلقة فظهرت في العدد 276 الصادر يوم 24 شوال 1373 هـ الموافق 25 جوان 1954م.. وهذه المقالات نشرها المجلس الإسلامي الأعلى سنة 2008 مجموعة في كتاب مستقل يحمل العنوان الرئيس الذي وضعه لها كاتبها، وهو (عدت من الشرق).
3 ـ مجموعة مقالات نشرها في جريدة (البصائر) في مناسبات مختلفة.
4 ـ مقال في مجلة (حضارة الإسلام) الدمشقية، العددان الخامس والسادس، جمادى الأولى والثانية 1380 هـ، تشرين الثاني وكانون الأول 1960 م، (الصفحات: 19 ـ 29)، بعنوان (الجزائر: ماضيها وحاضرها البطولي الثوري)، وهو عبارة عن خطاب ألقاه الغسيري بمناسبة أسبوع الجزائر الذي أقامته الجمهورية العربية المتحدة سنة 1960
5 ـ كتاب (خلاصة الدروس الفقهية) التي قررتها لجنة التعليم العليا لمدارسها وطبعتها في شكل منشور تم توزيعه على المدارس.
6 ـ كتاب (صورة من حياة ونضال الزعيم الإسلامي والمصلح الديني الكبير الشيخ عبد الحميد بن باديس)، وقد قمت برقنه والتقديم له والتعليق عليه، ونشرته جمعية الغسيري في باتنة سنة 2006.
7 ـ مجموعة حوارات أجرتها معه بعض الصحف والمجلات العربية أثناء الثورة وبعدها، وهي ما تزال متفرقة ولم يتم جمعها.
8 ـ مجموعة من الخطب والمقالات والمراسلات المخطوطة، والمتوفرة على مستوى مركز الأرشيف بولاية قسنطينة، وقد حصلت على نسخ منها.
شهادات عارفيه بحقه:
حظي الغسيري بكثير من الاحترام والتقدير من قبل عارفيه، لما تميز به من أخلاق عالية وخصال رفيعة، ولما كان يتحلى به من تواضع جم ووفاء نادر وتفان في خدمة دينه ووطنه، يتجلى ذلك من خلال الشهادات التي أدلى بها كثير من عارفيه بحقه، ومنها:
1ـ الأستاذ علي مرحوم رحمه الله: زميل الغسيري في الدراسة والتربية والتعليم، قال في تأبينه عند وفاته: “إن فقيدنا من بين أعضاء الفئة القليلة التي صمدت وثبتت في البأساء والضراء، وتعاونت على البر والتقوى في سبيل العمل على تربية الأجيال الناشئة تربية إسلامية، يوم أن كان العمل في هذا السبيل يعرض ذويه لأقسى ألوان الاضطهاد من طرف الاستعمار وزبانيته، ويوم أن كانت اللغة العربية تعد أجنبية في زعم هؤلاء لا يستحق ذووها إلا النبذ والاحتقار”.
2ـ الشيخ محمد الصالح رمضان رحمه الله: أحد الأعلام الشوامخ في سماء الثقافة العربية الإسلامية الجزائرية، وزميل الغسيري في طلب العلم وفي التدريس وفي قيادة الكشافة الإسلامية الجزائرية، يقول عن رفيقه وزميله: “الشيخ محمد الغسيري مناضل ماجد شريف من رجال العروبة والإسلام والوطنية في الجزائر، نشأ في أحضان الحركة الإصلاحية السلفية… وهو من نجباء تلاميذ ابن باديس بالخصوص، عمل في ميادين الحركة الإصلاحية التي تربى فيها، حيث كرس لها الشطر الأكبر من حياته المثالية، ينشر العربية ويعرف بالإسلام الصحيح والوطنية الحقة بقلمه ولسانه”.
3ـ الأستاذ محمد الحسن فضلاء رحمه الله: زميل الشيخ الغسيري في الدراسة والتربية والتعليم، يقول عنه: “الشيخ الغسيري؛ أحد بواكير النهضة التعليمية بقسنطينة، كاتب لامع، ومرشد كشفي بارع، علم فأجاد، وربى فأفاد”.
4ـ الشيخ عبد الرحمن شيبان رحمه الله: الرئيس السابق لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهو من أقران الشيخ الغسيري وممن عرفوه في قسنطينة عندما كان في ريعان شبابه، يقول عنه: “المرحوم الشيخ محمد يكن المنصوري الغسيري، من الرجال الأفاضل الكرام الذين أحمد الله على أن جمع بيني وبينهم، وقد كان رحمه الله مثال الطموح والجد والاستقامة، ويكفيه فخرا أنه من القلائل الذين عهد لهم الإمام المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس بالنيابة عنه في إلقاء بعض الدروس على طلبة الجامع الأخضر في سيدي بومعزة في أوقات فراغه من المدرسة، وذلك تنويها من الإمام ابن باديس رحمه الله بكفاءته واقتداره، هذه الكفاءة التي أهلته رحمه الله أن يشغل مناصب كثيرة ويتولى أدوارا خطيرة”.
5ـ الأستاذ محمد مهري: الأديب والمحامي، وهو أحد الذين عملوا مع الغسيري في دمشق في إطار تمثيل جبهة التحرير الوطني أثناء الثورة، يقول: “الحديث عن الشيخ الغسيري هو حديث عن الخصال، عن الفضائل، عن النبل، نبل الأخلاق… وأشهد أن هذا الرجل بسلوكه وبالفضائل التي تحلى بها غزا قلوب أهل الشام، فاحتل مكانة كبيرة في قلوبهم، كان هذا الرجل محل تقدير واعتبار من جميع الأوساط الحكومية والشعبية والحزبية والثقافية وغيرها”.
قبسات من فكره ونماذج من آرائه:
1ـ سنة الحياة:
“إن الحياة جارية على أس تنازع البقاء، ومن لم يتعرض للحياة ويأخذ بسنتها، جرفته الحياة، وألحقته بالغابرين البائدين، وسيان عندها الأقوياء الجبابرة والضعفاء الخاملون”.
2ـ التاريخ في مساره:
“التاريخ يمضي في أحقابه وأحداثه، لا يعرف شفقة ولا رأفة بالأمم التي تتنازع أنواعا من السيادة الخيالية، وضروبا من المطامع الحقيرة، منشأ غالبِها الهوى والأنانية والأثرة والكبرياء السخيفة، وهي جماع ما من شأنه أن يدني للأمم حتفها سريعا على يد أعدائها المتربصين بها الدوائر”.
4ـ سبيل الأمة إلى النهوض من عثرتها:
“إن الدواء كل الدواء في رأي المصلحين الاجتماعيين؛ هو أن نعمد إلى أنفسنا فنفحصها فحصا جديا، حتى نكتشف أدواءنا بأنفسنا، ونعالجها بأنجع أدويتها بأنفسنا.. نأتي على معايشنا نحسنها ونقومها، نأتي على أوضاعنا البالية وتقاليدنا الثقيلة نستبدلها بما يوائم الحياة الحاضرة في صرامتها وقوتها وجمالها ولا يتنكر لديننا وصالح تقاليدنا وعاداتنا”.
5ـ فضل جمعية العلماء على الجزائر:
“إن المعنِيَّ بتسجيل الظواهر الكبرى في الأمم والشعوب ليسجل لجمعية العلماء ظاهرة كانت الفاصلة بين عهد وعهد، وحياة وحياة، فلولا جمعية العلماء لحفت أخطار جسام بالإسلام والعربية في الجزائر، ولولاها لدهمنا سيْل من أنواع الزيغ في العقائد والفساد في التربية والتنكر إلى التاريخ الإسلامي الماجد والجنس العربي الأبيّ، أجل لولاها لحصدتنا التربية اللادينية، وابتلعنا المستأسد الضاري، وأصبحنا حديثا بين الناس، وعبرة للمعتبرين”.
6- أمراض الأمم:
“الأمم تصاب بأمراض، كالأفراد، يتصدع منها هيكلها، وينخرم منها عزها، وتنهدم بها جدران مقوماتها. وأكبر هذه وأعظمها الجمود الفكري، فإذا ما سُلِّطَ هذا المرضُ العُضَالُ على أمة فإنها تنعكس أفكارها في مصالحها الخاصة، فتجمد لها وتلتزمها وتحبس جميع مجهوداتها عليها، ويموت فيها الشعور بالمصلحة العامة، ويكون هذا الجمود سببا في موت الروح القومي في الأمة، فتتخرب مقوماتها وتتقوض صروح عزها، فتفقد كيانها وتموت وتنقلب حيوانا تربى لمصلحة الأمم المحافظة على كيانها وغلة لفراعنة الاستعمار الفاتكين بالإنسانية، وتكون وما معها من أرض وهواء ونبات وماء وثروة في ميزانية الطغاة المستبدين”.
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد ابن عبد الله وبعد :
انه لمن دواعي الغبطة والسرور أن أطلع على مثل هذه التصريحات لرجال خلدوا أسمائهم بأحرف من ذهب مثل العالم الجليل محمد بن أحمد المنصوري الذي تخرج على يد العلامة عبد الحميد ابن باديس رحمة الله عليه وأسكنه الفردوس الآعلى ومن تبعه ، قلت هذا ولأن الآستاذ الفاضل محمد بن أحمد المنصوري كان ضمن مجموعة من الشباب الذين قصدوا الجامع الآخضر بقسنطينة لطلب العلم من الشيخ الآمام عبد الحميد ابن باديس وكان ذلك رفقة والدي الشهيد عشاشة بوزيد الذي استشهد سنة 1958 ، مثله مثل بقية شهداء الثورة التحريرية الكبرى .
نعم واليوم أيها الآساتذة الآجلاء أطلب منكم تسليط الظوء عن هذه المجموعة التي ناظلت في وقت الذي كان فيه الجهل والظلم والآستبداد منتشر ومتسلط على الآسلام والعروبة وقد من الله عليهم بالنصر المبين .
ابن الشهيد العيد عشاشة برج بوعريريج