القرآن حجّة الله البالغة، ومعجزة نبيّه الخالدة، تولّى العليم القدير حفظها، وهيّأ لذلك أسبابها((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [ الحجر 09].
ومن مظاهر هذا الحفظ توجه الأمّة بالعناية والرعاية، والفهم والحفظ، والتفسير والبيان لكلام الرحمن، مسارعين إلى الخيريّة، وطامعين في هذه المزيّة التي اختصّ الله بها أهل القرآن في قوله صلّى الله عليه وسلّم ” خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ”[1].
وبما أنّ القرآن وقف من عند الله كان كثيرٌ مما تعلّق به يندرج تحت دائرة الوقف أيضاً من رسم وضبطٍ وتجويد وما إلى ذلك.
وشاء الله أن تكون وسيلة هذا الحفظ الربّاني عن طريق التلقين والتلقي بدءاً من نبيّه ومصطفاه الذي عن جبريل تلقاه، كما يقول المولى في علاه ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)) [ الشعراء 193-194-195]، وصولاً إلى صحبه الكرام، والتابعين و التابعين لهم باقتداءٍ واهتداءٍ إلى يوم الدين.
القارئات المجازات بالجزائر:
أوّلاً: القارئات المجازات بالقراءات العشر بالجزائر
بحمد الله يوجد عدد من الجزائريات المجازات من حصل لهن شرف جمع القراءات العشر.
فيوجد ما يقارب من عشر قارئات أجزن بالقراءات العشر الصغرى من طريق الشاطبيّة والدّرة.
وإن كان هذا العدد لا يرقى إلى المستوى المطلوب فإنه لا بدّ أن نحيّيه وندعمه، ونسعى ونعمل على مضاعفته.
ومن بين أولئك المجازات بالعشر القلائل توجد واحدة فقط من نالت شرف الإجازة بالقراءات العشر الصغرى والكبرى وسط الملايين من نساء الجزائر، وهذا يبيّن مدى شحّ الاهتمام بهذا الأمر الجلل خاصّة من النساء وللنساء.
الملاحظ أيضاً:
أن من بين ثمان أخوات جمعن القراءات العشر الصغرى نحصيهنّ اليوم بالجزائر ستٌّ منهن تلقين القراءات خارج الجزائر.
خمسٌ منهن بدمشق الشّام أزال الله كربها.
وواحدة بمصر.
في حين ختمت قارئتان بالجزائر.
الملاحظ أيضاً:
أن بداية الجمع بدأت في مطلع التسعينيّات، وهذا يدلّنا على حداثة هذا العلم بالجزائر.
ونشير أيضاً:
إلى أنه لا تعرف قارئات جزائريات قرأن على شيوخ داخل أو خارج الجزائر قبل هذا التاريخ، اللهمّ إلّا ما يذكر عن إحدى تلميذات الشيخ الطّاهر آيت علجت، لكنّ الأمر غير واضح.
ثانياً: القارئات المجازات برواية فأكثر دون العشر بالجزائر
يقدّر عدد الأخوات اللّواتي يحملن القرآن الكريم اليوم بالجزائر برواية أو قراءة أو أكثر من ذلك دون العشر اليوم بالعشرات والحمد لله.
وما يثلج الصدر أن معظمهّن أجزن داخل الجزائر.
نشير أيضاً:
إلى أن عدداً منهنّ أجزن مصحفيّاً أي عن حاضر.
مجالات الإقراء النسوي بالجزائر:
أوّلاً : الإقراء الرسمي للنساء بالجزائر
لا تعرف اليوم بالجزائر مؤسّسة تتبنّى الإقراء بشكل رسمي من كليات ومعاهد.
فكلّيات الشريعة بمختلف تخصّصاتها وأقسامها، ومعاهد تكوين المرشدات لا تقوم بالإقراء النسوي.
وإذا وجد من المرشدات من تقوم بالإقراء فإنّما تقوم به من تلقاء نفسها، لا من قبيل التكليف الرّسميّ بذلك.
فعملياً لا يوجد قرارٌ رسميّ يخصّ الإقراء النسويّ بالجزائر.
حتّى المدارس القرآنيّة التابعة للشؤون الدينيّة والأوقاف فإنّما تقوم بما تقوم به بناء على جهود خاصّة وتمويل غير رسميّ.
كما لا اعتراف بالإجازة القرآنيةّ رسميّاً.
مع التنويه بدور بعض المديريات التي ترعى ملتقيات للإقراء، أو تشجع عليه.
ثانيّاً: الإقراء الجمعوي النسوي بالجزائر
يعتبر هذا المجال الأخصب في مجال الإقراء النسويّ، وثمرته يانعة، وثماره وافرة.
وقد تحققّت هذا المجال الكثير من النجاحات ولله الحمد.
وتتنوّع هذه النّشاطات بين مدارس تابعة للشؤون الدينيّة من مدارس قرآنية، ونشاطات مسجديّة.
ومدارس قرآنيّة أيضاً تابعة لجمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين، بالإضافة إلى نشاط بعض الزوايا وجمعيات علمية وأحزاب إسلاميّة.
ويتميّز هذا المجال بالإقبال الكبير، والعمل المستمر.
وذلك أنّه الأكثر قبولاً في المجتمع الجزائري باعتباره مقاماً في المساجد والمدارس وأماكن التجمعات النسويّة.
ثالثاً: الإقراء الفردي النسوي بالجزائر
يعتبر هذا المجال أيضاً من المجالات الهامّة في نشر القراءات بالجزائر.
وهو قليل وقليل روّاده.
ويتميّز بكونه محدّد الأهداف والأشخاص ممّا يعطي مجالاً للعناية بالطالبة من مقرئتها بشكل أكبر.
العوائق التي تواجه الإقراء النّسويّ بالجزائر:
أولاً: العوائق الإداريّة
لا يوجد اعتراف رسميّ في الجزائر بالإجازة القرآنيّة إلى حدّ كتابة هذه الأسطر.
ولا يكون التوظيف على أساسها، ولا تفتح المدارس ومراكز القرآن بناءً عليها، ممّا يقف عائقاً أمام الأخوات المجازات صنو إخوانهنّ المجازين في فتح أبواب خير كثيرة.
ممّا يضطرهنّ إلى الالتجاء إلى عمل آخر، ليكون الإقراء تطوعاً في أوقات الفراغ، أو جهداً فردياً بالبيوت أو الجمعيات.
ثانيّاً: العوائق العرفيّة
تعتبر كثيرٌ من مناطق الجزائر مناطق محافظة ولله الحمد، لكن هناك مناطق محافظة إلى حدّ الانغلاق ممّا يمنع كثيراً من الأخوات المجازات من مجالات للنفع.
فهناك مناطقٌ إلى اليوم لا مكان للمرأة في مسجدها، اللهم إلا العجائز، ولأجل صلاة الجمعة فحسب.
هذا عن المسجد فضلاً عن الأماكن الأخرى.
وتوجد مناطقٌ ما زالت تنظر إلى المرأة نظرةً دونيّةً حتى وإن كانت تحمل القرآن ، ومجازةً في كلام الرحمن.
وهذا يشكّل عائقاً كبيراً أمام الأخوات الراغبات في التعلّم والتعليم.
ثالثاً: العوائق “الفقهيّة”
اختصّ الإسلام المرأة بأحكام خاصة في الفقه الإسلامي لخصوصيّة حالها، إذا تعتريها أمورٌ أوجد لها الشرع أحكاماً خاصّة، غير أنّ هذه الأحكام مختلفٌ في فهمها، وغير متّفق على حدودها وضوابطها، ممّا يجعلها مجالاً لاختلاف الأفهام والأحكام.
ومن هذه المسائل:
1-مسألة قراءة الحائض والنفساء القرآن للتعلّم داخل المساجد أو خارجها.
2-قراءتها على الرّجال.
3-تغنيها بالقرآن الكريم.
وغيرها من المسائل كمفهوم الخلوة، وخروجها من بيت أهلها، وقراءة الرجال عليها، ووو
والنّاس في هذه المسائل متشدّد ومتسيّب، والضحيّة الإقراء النسويّ بالجزائر.
ففي المسألة الأولى: أفتى كثير من العلماء بجواز قراءة الحائض والنفساء للقرآن معلّمةً ومتعلمة من المصحف ومن دونه إذا كان للتعليم أو خوف النسيان.
وممن أفتى بذلك إمام الدنيا مالك عليه رحمة الله كما في البيان والتحصيل ((سئل مالك رحمه الله تعالى عن الحائض تكتب القرآن في اللّوح، وتمسك اللّوح فتقرأ فيه؟
قال:
” لا بأس به على وجه التّعليم”[2].
وبذلك أيضاً أفتى شيخ الإسلام ابن تيميّة عليه رحمة الله وقد سئل عن امرأة نفساء هل يجوز لها قراءة القرآن في حال النفاس؟
فأجاب:
“..أما قراءتها القرآن إذا لم تخف النّسيان فلا تقرأه ، وأمّا إذا حافت النسيان فإنّها تقرأه في أحدي قولي العلماء..”[3].
وقد أفتى بذلك أيضاً العالم الجزائريّ أحمد حماني عليه رحمة الله كما في فتاويه: (( ..كما يجوز قراءة الحائض والنفساء لليسير منه -أي القرآن-نظراً لطول أيّام الحيض والنفاس، وأنّ مسّ المصحف ممنوعٌ إلّا لضرورة كالعالم والمتعلّم)) [4].
أما دخولها إلى المسجد فغير جائزٍ ولو للإقراء على مذهب جمهور العلماء لورود النهي النّبويّ عن ذلك كما في البخاري ومسلم عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ : (( أَمَرَنَا تَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُخْرِجَ فِي الْعِيدَيْنِ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ ، وَأَمَرَ الْحُيَّضَ أَنْ يَعْتَزِلْنَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ )) [5]–[6].
المسألة الثانية: قراءة القرآن على الرجال
إذ تعتبر هذه المسألة من أشد المسائل أخذاً وعطاءً.
بداية الكلّ مجمع على أن الأولى للمرأة أن تقرأ على امرأة مثلها إن وجدت وتوفر عندها ما عند الرّجل من ضبط وإتقان.
لكن الخلاف واقع في غير ذلك.
فهناك من يجيز في الإقراء إذا كان فرضاً عينيّاً بأن لم توجد مقرئة أصلاً فيجوز عندها.
أما إن وجدت فلا ، ويكون التعلّم هذا من قبيل الفرض الكفائي فلا يجوز.
ومنهم من ينظر إلى طبيعة المتعلّمة فيجيز في الصغيرة التي لا يشتهى مثلها عادة، ويمنع غيرها.
ومنهم من يجيز ذلك وبشروط مشدّدة إذا لم يوجد من يقرؤها من النساء:
1-أن يكون التّدريس والإقراء من وراء حجاب.
2-أن يكون المدرّس كبير السّن، متزوّجا، مشهوداً له بالصلاح والاستقامة.
3-أن لا تقرأ القارئة بالألحان وتتغنى بالقرآن.
4-أن يقتصر كلامها مع المقرئ على قدر الحاجة فقط.
والذي عليه شيوخنا[7]ونستريح له ونعمل به جواز إقراء الرجل للمرأة إذا لم يوجد من يقرأها من النساء من غير حجاب إذا وجد المحرم أو الرفقة الموثوقة التي تكسر بها الخلوة.
كما لا نقول بشرط كبر السّنّ والزواج وإن كنّا نقدمه ونفضّله مع التّأكيد على الصلاح والاستقامة.
أما الكلام مع المقرئ على قدر الحاجة فهذا يشمل الإقراء وغيره لقول ربنا تعالى: ((فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا))[ الأحزاب32].
والخلاف في صوت المرأة هل هو عورة أم غير عورة مبثوث في كتب الفقه.
على أن من يقول بأنه ليس بعورة يشترط أمن الفتنة وعدم الخضوع بالقول [8].
المسألة الثّالثة: تغنيها بالقرآن الكريم
يشترط البعض تغليظ المرأة صوتها بالقراءة إذا اضطرت للقراءة على الرجل وفق الشروط التي مرت معنا في مسألة ” قراءة الرجل على المرأة”.
والذي عليه شيوخنا أن للمرأة أن تقرأ بصوتها الطبيعيّ إذا توفرت الشروط المعتبرة وابتعدت عن التمطيط والتنغيم والتغنّج والتلحين امتثالاً لقول ربنا: ((فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا))[الأحزاب32].
فإذا قرأت مجتنبة هذا مراعية لأحكام التلاوة فلا حرج في قراءتها.
وإذا وجد المقرئ في نفسه شيئاً من قراءتها، أو خشي الفتنة فليقلع.
والله أعلم.
رابعاُ: العوائق المادّية
لاقتصار جل الإقراء النسوي بالجزائر على الجمعيات الخيريّة والمدارس القرآنية التي تستمدّ تمويلها من التبرعات نجد أن مصادر التمويل غير ثابتة.
فلا يمكن معها التخطيط الواضح المعالم للمقارئ، ويشكل هذا الخلل المادي عائقاً أمام الإقراء النسويّ الذي تحتاج فيه المقرئة إلى دخل ثابت لأجل التفرغ، لأن الإقراء حسبة ليس بمقدور الكل.
كما أن الإقراء بالبيوت صعب أيضاً.
خامساً: العوائق العائليّة
تشكلّ الحياة العائليةّ من حياة المرأة، فطبيعتها تقتضي اهتمامها بعائلتها في مختلف أطوار حياتها.
وقد تشغل كثيراً عن الإقراء بسب عائلتها.
ويزداد هذا الانشغال بعد الزواج لما يتطلّبه من اهتمام خاص بالزّوج، وصعوبات الولادة، ومشاق التّربية وغير ذلك.
الخاتمة:
يمرّ الإقراء النسويّ بالجزائر بمرحلة نشأة ونمو لذا يجب تعهده ورعايته، والتخطيط لاستمراره وإيتاء أكله.
لذا نوصي بما يلي:
1-السعي الحثيث لإنشاء المقارئ القرآنية عبر ربوع الوطن.
2-متابعة الأخوات المجازات بعد الإجازة والعمل على تمكينهنّ من أداء واجب الإقراء.
3-العمل على الاعتراف الرسمي بالإجازة القرآنيّة كشهادة علمية ذات قيمة تخوّل لصاحبها التوجّه إلى المجال العملي.
4-تفريغ المقرئات لهذه المهمّة النبيلة وتهيئة الأجواء الملائمة لذلك.
5-نشر ثقافة الإقراء النسوي في المجتمع النسوي.
6-توضيح الضوابط الشرعية للإقراء النسوي رفعاً للالتباس، ودرءاً للفتنة.
7-إسبال ووقف منشئات تكون رفداً للإقراء النسوي.
8-إقامة ملتقيات خاصة لدراسة كيفيّة النهوض بالإقراء النسوي.
الهوامش:
[1]أخرجه البخاري عن عثمان برقم 4639.
[2]البيان والتحصيل 1/140
[3]الفتاوى الكبرى 2/357-358
[4]فتاوى الشيخ أحمد حماني 1/62
[5]أخرجه البخاري في «الحيض» (294)، ومسلم في «الحج» (1211)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
[6]حاشية الصاوي على الشرح الصغير1/367
[7]شيوخنا وشيوخ شيوخنا بالشّام كشيخ القراء كريّم راجح والعلّامة أبو الحسن الكردي وغيرهما.
[8]حاشية الدّسوقي 1/195