لايزال الناس في كل سنة يختلفون في مسألة الاحتفال بالمولد النبوي.
ويصل ببعضهم إلى التراشق وتبادل التهم؛ بالرمي بالبدعة والضلالة من جهة، ومن جهة المقابلة توجيه التهمة بالجفاء للنبي صلى الله عليه وسلم، وكلا طرفي الأمر ذميم.
وحقيقة الخلاف في هذه المسألة لا تعدو أن تكون اختلافا في تحقيق مناط؛ لأن الكل يتفقون في القاعدة الكلية لكنهم يختلفون في التنزيل. ونقاط الاتفاق في هذه القضية أكثر من نقاط الخلاف.
والجميع متفقون على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم، وأنه أعظم نعمة على البشرية، وأنه يسن صيام يوم الاثنين فرحا بمولده، وأن البدعة – في الجملة – محرمة، وأن الأعياد توقيفية، وأنه يجوز مدحه ومدارسة سيرته طوال أيام السنة….
ولو نظرنا إلى قصد كل فريق من موقفه لوجدنا القصدَ حسنٌ؛ فالمحرِّم قصدُه الفرارُ من الابتداع، والمجيزُ قصدُه المبالغةُ في المحبة، ولا يوجد قصدُ الزيادةِ على الدينِ وتكميلِه، كما أنه لا يوجد عند الفريق المعارِض قصدُ جفاءِ الرسولِ– صلى الله عليه وسلم – أو بغضِه.
ولهذا نجد ابن تيمية – رحمه الله – رغم أنه يتشدد في هذه المسألة إلا أنه يلتمس العذر لمن خالفه من المجيزين، حيث يقول: “فتعظيم المولد، واتخاذه موسماً: قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم؛ لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-….”.
وليس القصد في هذا الملخص سرد الأدلة الدالة على الجواز أو التحريم. إنما القصد هو بيان بعض القواعد الكلية العامة ومحاولة تنزيلها على واقعنا. لنصل في النهاية – بعد تحرير محل النزاع – إلى أن الخلاف في هذه المسألة في واقعنا المعاصر ينحصر في جزئية فقهية واحدة، وهي مدى شرعية اتخاذ المولد النبوي ذكرى ومناسبة سارة من عدم ذلك، من غير اعتقاد تشريع عيديته.
على أن كلا الفريقين المختلفين أقاما الأدلة التي تبرر مذهبه؛ من مثل ما ذكره المجيزون؛ كعموم التذكير بأيام الله، وصومه صلى الله عليه وسلم ليوم الإثنين شكرا لله معللا ذلك بأنه يوم مولده، وتخفيف العذاب عن أبي لهب كل اثنين للفرح بمولده صلى الله عليه وسلم. وكل هذه الأدلّة قوبلت من المانعين بأدلة تحريم الابتداع والإحداث في الدين.
على أن بحث هذه القضية يتعلق به عدة قواعد؛ ومن ذلك:
حقيقة العيد الشرعي وضرورة التفريق بينه وبين العيد اللغوي، مجالات البدعة وإخراج العادات من دائرتها، حكم البدعة الإضافية، وما يتعلق بقاعدة التروك النبوية، وتحكيم فهوم السلف الصالح في تفسير النصوص من عدمه.
أولا: المقرر في قواعد البدعة أن وصف الشيء بأنه بدعة لا يكفي فيه النظر إلى صورة الفعل، بل لابد من مصاحبة ذلك باعتقاد المشروعية.
والاحتفالات ومظاهر البهجة والسرور لا تأخذ حكم الأعياد الشرعية إلا بالاعتقاد والنية؛ بأن يعتقد الإنسان بأنها عيد شرعي. واعتقاد عيديتها الشرعية مثل عيد الفطر والأضحى هو تعبد وتشريع ومن الأمور التوقيفية التي يحتاج إلى إقامة الأدلة والحجج والبراهين عليها.
ولا دليل يدل على عيدية المولد، بل جاء ما يدل على انتفاء عيديته الشرعية؛ وذلك ما ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين وندب إلى صيامه. وعلل صيامه بأنه يوم مولده. فلو كان عيدا شرعيا لما صامه؛ لأن العيد يحرم صومه؛ لما فيه من الإعراض عن ضيافة الله.
أما مجرد تسمية الناس لحفل أو مظهر ما بأنه عيد، من غير أن يصحبه اعتقاد تشريع عيديته، فهذا لا يعدو أن يكون إطلاقا لغويا أشبه بما قاله عمر عن التجميع لصلاة التراويح: (نعمت البدعة هي).
ثانيا: أما مجرد اتخاذه ذكرى ومناسبة سارة من غير أن يصحبه اعتقاد تشريع عيديته فهذا يخرجه من دائرة التعبديات وأمور الديانة إلى دائرة الدنيويات؛ والتي الأصل فيها الحل والإباحة، وصار أشبه بذكرى الاستقلال أو اندلاع الثورة أو يوم العلم أو العمال أو الشجرة… ودخوله – حينئذ – في دائرة الدنيويات يزيل عنه وصف الابتداع؛
ذلك لأن البدعة تتعلق بالعقائد والتعبديات لا بالعادات والدنيويات، ويدل على هذا حصر الإمام الشاطبي للبدعة في أمور الديانة فقط؛ عند تعريفه إياها بقوله: “هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الطريقة الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد”.
ثالثا: أما تخصيصه بعبادات معينة من غير اعتقاد تشريع عيديته، فهي من البدع الإضافية لا الحقيقية؛ والتي اختلف العلماء في حكمها بين مجوز (وهو مذهب الجمهور)، ومحرم (الشاطبي)، ومكره.
رابعا: أما تخصيص شهر ربيع الأول بمدارسة السيرة النبوية، فبالرغم من أن المطلوب مدارستها في سائر أيام السنة إلا أن تقصير الناس في تحصيلها طول السنة لا يلغي تحصيلها في ربيع الأول؛ لأنه جزء من السنة.
وترك مدارستها في ربيع الأول يوقع في تقصيرين؛ تقصير مدارستها طول أيام السنة، وتقصير مدارستها في ربيع الأول. ووقوع تقصير واحد أولى من تقصيرين.
خاصة وأن جملة من الأحداث والوقائع وقعت في ربيع الأول؛ كمولده صلى الله عليه وسلم، ووفاته، ودخوله فيه المدينة مهاجرا، وبدء تنزل الوحي فيه بالرؤيا الصالحة.
والخلاصة أن الاحتفال بالمولد النبوي على ثلاث صور:
– الاعتقاد بأنه عيد شرعي كالفطر والأضحى بدعة حقيقة.
– تخصيصه بعبادات خاصة فهي من قبيل البدعة الإضافية؛ والتي اختلف فيها ما بين مجيز (وهو مذهب الجمهور)، ومحرم(الشاطبي)، ومكره.
– اتخاذه ذكرى ومناسبة سارة هو من الأمور الجائزة المحمودة بشرط أن يسلم من الغلو والافراط والتعدي.
والله أعلم