لعل من المفارقات الاصطلاحية السياق الدلالي الذي مرت فكرة به اللائكية كمصطلح يعكس هوية مناقضة جدا لما هي عليه اليوم , فمصطلح اللائكية أو La laicité أطلق في بدايته على الأشخاص المنتظمين في سلك الكهنوت الكنسي فالشخص اللائكي هو الشخص المسيحي التام الكامل في تدينه والذي رضيت عليه الكنيسة وأصل التسمية هذا راجع للاستعمال الاغريقي الذي كان يطلق على كل رجل يحافظ على موروث الالهة كلمة Cléros فكلمة كليروس أو الرجل المحافظ أو الكنسي أو المتدين كلها معاني يمكن أن يحمل عليها مصطلح اللائكي , ومع مطلع القرن العشرين برز مفهوم اللائكية كمفهوم لعدم تدخل الدولة في الشؤون الدينية الكنسية وبالعكس عدم تدخل الكنيسة في شأن الدولة وقد توج هذا المفهم بتشريع قانون الفصل الفرنسي عام 1905 ميلادي حيث ضمن هذا التشريع حقوق التدين والعبادة الفردية في مقابل التشديد على فصل الكنيسة عن أي امتداد سياسي أو اداري في جهاز الدولة .
ولعل أول تساؤل يخطر على ذهن القارئ الكريم هو سر هذه العلة التي حولت مفهوم اللائكية من النقيض للنقيض بحيث أصبحت تعني فصل الديني عن السياسي بعد أن كانت ترمز للديني البحت وكيف حدث هذا التطور الدلالي في العقل الغربي .
الفكرة اللائكية والجذور المسيحية :
كنا قد صدرنا هذا المقال بالتركيز على الخلفية التاريخية لمعنى اللائكي وقلنا أنها تشير الى المعنى الدال على الشخص المحافظ على التعاليم الكنسية وهنا لابد من التعريج على طبيعة تلك التعاليم الكنسية في حقل التشريع على وجه الخصوص بحيث لم تتميز الكنيسة بنظام تشريعي خاص بها نابع من التعاليم الإنجيلية عكس ما يظن الكثير فكثير من تلك الأحكام التشريعية راجع للقانون الروماني أو بعض الأعراف المحلية داخل كل مجتمع أوروبي , فالمسيحية كدين لم تحتوي على نظام تشريعي متكامل في الجوانب الجنائية والأسرية والاقتصادية وهنا برزت ظاهرة غريبة في تاريخ الأديان الابراهيمية الموجودة في العالم القديم , حيث كان المسيحيون يتعاملون مع التشريعات اليهودية أخذا وتحاكما في شبه الجزيرة العربية قبل البعثة المحمدية وفي مرحلة لاحقة مع التشريعات الإسلامية في الشرق الأوسط وشبه الجزيرة الأيبيرية ولم يكن هذا الأمر يلقى الاستهجان الكبير من الكنيسة المشرقية أو الكنيسة الأندلسية في شبه الجزيرة الأيبيرية أما القارة الأوروبية فعاشت تلك الفترة الانغلاق على الذات فلم تتأثر كثيرا بالتشريعات الاسلامية وعانى اليهود في القارة الأوروبية الاضطهاد فهجروا نحو الأراضي الإسلامية .
هذه الظاهرة التشريعية الغربية تظهر الفكرة التي حملتها الكنيسة لأتباعها بكون المسيح ليس سوى مبشرا بالخلاص والملكوت الرباني وليس حاكما أو قاضيا على الناس والكنيسة نفسها تقول أن تعاليم الانجيل ليست سوى انعكاس سيرة المسيح عليه السلام و أخلاقه لا أكثر .
بل حتى أن الحبر الأعظم بابا الفاتيكان أوربانيوس الثاني لم يستطع اقناع ملوك الاقطاع الأوروبي بضرورة الحملة الصليبية الأولى دون استعمال الحجة المادية حيث تمكن من اقناعهم أن الخروج للمناطق الدافئة والخصبة سيوفر طعاما أكثر ومساحات استيطان جديدة للشعوب الأوروبية لتأتي فكرة الدفاع عن قبر المسيح في المرتبة الثانية وهذا دليل على المسيحية لا تملك الدافع الذاتي الكافي ليتحرك اتباعها للدفاع عنها وعن مقدساتها حتى أضطر راعي الكنيسة للعمل وفق العامل الدنيوي ليضمن تحرك ملوك أوروبا .
هذه الطريقة الكنسية في الفصل بين حقيقة الايمان بالبشرى المسيحية مع الاغضاء عن حقيقة ترجمة هذه الحقائق الايمانية في واقع المؤمن بالكنسية عززت في نفسه فكرة الفصل بين الايمان والواقع بين الدين والتشريع بين العلم والعمل هو من جعل الرجل المسيحي يملك الاستعداد النفسي للفصل بين إيمانه المسيحي وبين الواقع الذي يعيشه وهو ما تحول فيما بعد في الذهنية الغربية والفرنسية منها على وجه الخصوص الى ضرورة الفصل بين الدين وجهاز الدولة فليس غريبا بعد هذا القول أن اللائكية نبتت في أشد البيئات تدينا في القارة الأوروبية وهي فرنسا التي تصف نفسها دائما ببنت الكنيسة الكاثوليكية .
اللائكية والحالة الفرنسية :
تعتبر اللائكية صنيعة محلية فرنسية داخل الفضاء الأوروبي وإن كانت انتقلت بحكم الثورة الفرنسية إلى باقي نماذج الحكم بعد عصر الإقطاع لكن بقيت مع هذا الحالة الفرنسية حالة نادرة وخاصة .
1/ فرنسا والحروب الدينية :
توصف هذه الحروب بحروب المائة عام حيث أصبح الحق الديني أحد الذرائع المباشرة لهذه الحروب , فقد طالب أحد أشهر ملوك انجلترا في تلك الفترة إدوارد الثالث بحقه في العرش الفرنسي كونه الوريث الشرعي للكنيسة البابوية في روما وبسبب أنه كان قويا وذكيا استطاع إقناع البابا بفكرته لتندلع حروب دينية كانت فرنسا مسرحا لكثير من معاركها وتركت في النفسية الفرنسية خصوصا والأوروبية عموما تساؤلا تجاه جدوى مثل هذه الحروب على الناس خصوصا وقد كان عدد القتلى كثير وقد خلدت تلك الفترة شخصيات قومية ودينية فرنسية مثل جان دارك التي لقبت بالقديسة [ على أنه لابد من التذكير أن سر هذه الحروب اقتصادي في الأساس فالملك البريطاني كان يريد توسيع دائرة نفوذه خارج الجزيرة البريطانية والتحرر من سيطرة الضرائب للمملكة الفرنسية والتي أرهقت شعبه ولم تكن المطالبة بالعرش باسم الكنيسة سوى الذريعة ]
2/ الثورة الفرنسية وحكم اليعاقبة :
في مطلع السادس عشر قامت الحركة الاصلاحية في أوروبا وقد تأثرت البيئة المحلية الفرنسية بهذه الحركة التي قامت على يد مارتن لوثر وكانت من أهم الأسباب لانقسام المجتمع الفرنسي إلى شمال يسوعي بروتيستانتي وجنوب محافظ على البعد الكاثوليكي وبعد قيام الثورة الفرنسية لم تكن أفكار التنوير واضحة بالشكل الكافي للمجتمع الفرنسي بسبب أن هدف الثورة الأول هو الخبز للفلاحين والحرية لمساجين الباستيل لكن بعد سنوات من حكم اليعاقبة [التيار الأكثر تطرفا في المذهب البرتيستانتي] وعمليات القتل والارهاب التي طالت كثيرا من الكاثوليك الذين ساندوا الملك الفرنسي لويس السادس عشر في الجنوب الفرنسي [للمفارقة كانت جميع أحداث الثورة الفرنسية في باريس والشمال بعيدا جدا عن الجنوب الفرنسي الذي تميز خلال الأعصار المختلفة بنوع من الاستقرار والاختلاف عن الشمال حتى أيام الحرب العالمية الثانية ظلت حكومة فيشي الفاشية تحكم لحين سقوط ألمانيا النازية ].
تعرف هذه الفترة في التاريخ الفرنسي بفترة حكومة الإرهاب والتي كانت الحكومة تقتل أي شخص تشك في ولائه للثورة والجمعية الوطنية الفرنسية والانتماء المذهبي وبعد قيام الحكم النابليوني أضطر لوضع أشخاص في حكومته لا ينتمون للمذهب الكاثوليكي ولا اليعقوبي حتى يتم حفظ التوازن داخل جهاز الدولة ومن هنا نشأت فكرة قائلة بأن الجهاز البيروقراطي لابد أن يكون محايدا عن الصراع المذهبي ,وفي مطلع عامي 1789 وعام 1799 ميلادي لم يكن مفهوم الدولة متطورا بالشكل الكافي ليتيح عملية الفصل بين الديني والسياسي الذي نعرفه نحن اليوم بمفهومه اللائكي .
3/ اللائكية عند الفرنسي :
تتعدى اللائكية عند الفرنسي مجرد تلك الأداة لتنظيم الشأن العام كما هو عليه الحال في بريطانيا أو ألمانيا بل هي روح الأمة وصوت الشعب الرافض للهيمنة الكنسية التي سببت تلك الحروب والجرائم في التاريخ والضمير الجمعي للأمة الفرنسية , وبما أن الثورة الفرنسية التي ولدت من رحمها الأمة قامت على أنقاض سلطة الكنيسة الزمنية المتمثلة في شخوص الملوك الفرنسيين على مر الزمن قبل الثورة والسلطة الروحية المتمثلة في الولاء للبابا الروماني من قبل الملوك كان لابد من أن يستحوذ الكيان الثوري الجديد على سلطات الكنيسة وينهي فكرة المملكة بشكل نهائي , هذه النظرة الفرنسية ربما قد لا تجدها عند البريطاني الذي لم تقم عنده فكرة الغاء الملكية أو لم تدر بخلده أصلا بينما نجد أن التاريخ الفرنسي قائم على الصراع بين الملكيين والجمهوريين .
تقوم اللائكية في المفهوم الفرنسي لا تقوم على فصل السياسي عن الديني فصلا اداريا بل تقوم على مقارعة الديني وطرده من الفضاء العام وهذا سر تركيزي على الحالة الفرنسية خاصة عن طريق أدوات التوجيه الثقافي والأيديولوجي التي تتم بمقتضاها صياغة الشخصية الفردية وشحن الفضاء العام بالقيم المناهضة للدين عموما وعلى رأس تلك الأدوات الترشيد الثقافي و التربوي ثم سلطة الضبط القانوني التي تفرض قيم محددة دون غيرها وتفرض نمطا ذاتيا تتميز فرنسا عن غيرها من الفضاء الأوروبي أو لنقل تتمتع بالشذوذ فيه ) قضية منع البوركيني في الشواطئ بينما تسمح بريطانيا للمرأة بلبس الحجاب في جهاز الشرطة الذي يمثل سلطة الدولة ( هنا تتميز فعلا تلك الحالة الفرنسية عن غيرها .
وقد كتب فريديناند بيوسون [ للكنيسة معقوليتها الخاصة وللدولة معقوليتها الخاصة أيضا وعلى الانسان أن يختار اما أن يكون مع الدولة أو ضدها اما أن يصطف مع الدولة وقيمها الجمهورية و اما أن يصطف مع الكنيسة ]
هذه العبارة من هذا الفيلسوف تلخص الفكرة اللائكية الفرنسية وأبعادها على الثقافة والمجتمع الفرنسي .
ثنائية الدين والسياسة :
الوجود قائم على مبدأ التكامل والتداخل الماهوي المنسجم بين المفاهيم و مصاديقها في الخارج ولولا ذلك لما احتاج العقل البشري الى التحديد عن طريق الجنس والفصل , بل حتى الاضداد والمتقابلات لايمكن تفسير الوجود دونها فهي التي تساعد على فهم معنى التكامل والتداخل فلولا الموت لما أدركالوجدان معنى الحياة ولولا السواد لما أدرك الحس معنى البياض ولولا السلب لما أدرك العقل معنى الايجاب وهكذا فالوجود قائم على معنى التكامل والتداخل هذا التكامل الذي يفرض على الوجود صفة التناسق ويمنح الإنسان شيئا من الاطمئنان ويبعده عن أفكار السفسطة والشك ووضع الثنائيات على شكل التقابل يمنع مبدأ التكامل ويعطله ليمنح العقل الانساني فرصة لرسم صورة مشوهة عن الوجود ويؤسس في وجدانه مبدأ الصراع بدل مبدأ الانسجام .
ولا غرابة أن عرفنا أن فلسفة الغرب كلها تقوم على مبدأ الصراع وترفض فكرة الانسجام في الوجود وليست ثنائية الدين والسياسة حالة شاذة في هذا التصور فالغرب يملك ثنائيات أخرى في ميادين مختلفة فالتجربة والرواية في ميدان الابستيمولوجيا والقانون والضمير في ميدان الأخلاق والفرد والمجتمع في ميدان النفس والمجتمع وهكذا فلا تعد ثنائية الدين والسياسة حالة شاذة من هذا النمط .
وبالعودة الى حقل الدين والسياسة نجد أن فكرة الفصل بين الديني والسياسي سواء كان فصلا كليا كالحالة الفرنسية أو فصلا نسبيا كما في الحالات الغربية الأخرى ليس سوى فصل شكلاني غير قابل للتحقق في الواقع بحيث ان فكر الكنيسة كان يفترض أنه عزل من العمل العام بعد الثورة الفرنسية أعلن نابليون نفسه ملكا على فرنسا والنمسا من قلب كنيسة نوتردام ) التي وقع فيها الحريق مؤخرا ( وصمتت الحكومة الفرنسية عن تبييض أموال الجمعيات الفرنسية للتبشير النصراني بينما تبتز كثيرا من الدول العربية المسلمة حين تتخذ اجراءات ضد النشاط التبشيري لعناصرها .
هذا فضلا عن اعتماد وزارة الداخلية عندها أحزاب اليمين المتطرف و الشعوبية التي تنادي بالوصول الى فرنسا النقية عرقيا ودينيا وللمفارقة هذه الحالة لم تعد فرنسية محضة بل حالة أوروبية إن لم نقل عالمية عامة تختلط فيها التوجهات الدينية والقومية ) على أنه عكس العالم الاسلامي لا يمكن أن نفصل الفكر القومي عند الغرب عن الدين فهتلر وجورج واشنطن والملكة فيكتوريا كانوا منتظمين في الكنائس وكانوا من أشد الشخصيات تدينا بل بعضهم كان راعيا للكنيسة كالملكة فيكتوريا عكس مصطفى كمال أتاتورك مثلا زعيم القومية الطورانية في تركيا ( بالسياسة وجهاز الدولة وفي بعض الأحيان تسيطر عليه وتوجهه في شكل صفقات سياسية بين القوى الدينية وبين جهاز الدولة ومؤسساتها.
وهذا ليس راجعا لقوة تلك القوى الدينية كما يخطر على بال القارئ بل لأن فكرة فصل الديني عن السياسي لم تكن صادقة من البداية في الفضاء الأوروبي والفرنسي على وجه الخصوص أو لم تكن تلك الفكرة التي تطورت لنظريات في مراحل لاحقة خاضعة للقوانين الوجودية التي تمنحها الواقعية خارج الذهن بل كان تصورا مشوشا تحتمه طبيعة الصراع بين القوى الثورية التنويرية في تلك المرحلة وبين سلطة الكنيسة فضلا عن كون فكرة السياسة مفهوما سرياليا أوسع من مجرد الممارسة للسيادة عن طريق الدولة وهذا الاشكال الفلسفي نفسه الذي وضعنا أمام المفهومين ) العلمانية , اللائكية ( اللذان قد يتداخلان في بعض الأوضاع السياسية والاجتماعية وقد يفترقان في أوضاع أخرى بما تحتمه المصالح النفعية . كذالك لابد من تحديد معنى السياسة والفعل السياسي حتى يمكن أن نميزه عن الوضع الديني , السياسة عكس ما يعتقد الكثير هي فعل انساني قديم يعتدى المجرد التنظيم الهيكلي للدولة والتي ليست سوى تجلي واحد فقط من تجليات الفعل السياسي البشري في التاريخ .
الإنسان من قيام فجر التاريخ عمل على الممارسة السياسة على مستوى الفرد فكانت له سياسة في الصيد والزراعة دونها عن طريق الرسم والكتابة في الجدران ثم تطورت سياسته إلى معرفة أماكن الكلأ والماء المناسبة له ولجماعته للرعي والاستقرار ليشكل بعدها قوانين داخل كل قبيلة ويحدد مناطق نفوذها ثم يتطور بعدها التنظيم للنظام البيروقراطي الامبراطوري كما حصل في عهد أباطرة الصين , هذا فضلا عن امتداد الفعل والممارسة السياسية في الأوضاع الوجودية المختلفة في هذا العصر خصوصا بعد ظهور فكرة التخطيط والمركزية في ادارة الدول المعاصرة فهو يرسم سياسة تكفل له اعداد المواطن الصالح عن طريق مناهج التربية , ويرسم في دستوره السياسة الاقتصادية التي تضعه في خندق القوى العالمية الكبرى الموجودة اليوم , ويتبنى هندسة مجتمعه والقيم التي ينبغي أن يطبعه بطابعها في إطار سياسة اعلامية موجهة .
وبعد كل هذا يعمل على تشكيل الخطاب الديني الذي تعزز بواسطته الدولة هيمنتها كما هو الحال في دولنا العربية مثلا أو تعزز سياستها الخارجية بوساطة مخاطبة المجتمع المحلي بخطاب الدين والهوية والثقافة الذاتية لأي مجتمع كما هو الحال في روسيا أو تركيا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو حتى داخل الكيان الصهيوني فالفعل السياسي فعل بشري لا ينفك عن الوجود ولا يمكن كما أسسنا سابقا في بداية الفصل تصوره بعيدا عن باقي الأوضاع الوجودية التي تتغلغل في الضمير والسلوك للفرد والمجتمع .
وبعد هذا فتصور أن يبتعد الدين وهو ثقافة متأصلة في المجتمعات الانسانية حتى التي تصف نفسها بأشد المجتمعات علمنة وبعد عن تأثير الدين وهنا علينا استحضار تعاطف الشعب الفرنسي مع حرق كنيسة مريم العذراء في باريس وحجم الحضور الغفير للداعية التركي الصوفي فتح الله كولن وحجم التأثر بموعظته وبكائياته وصمت الحكومة التركية العلمانية عنه بل وصل الأمر لتطوير علاقات جادة بين هذا الداعية وبين كبار قيادات الجيش التركي حارس العلمانية في تركيا وهذان مثالان اختصارا عن أمثلة كثيرة , أقول تصور المفاصلة بين الدين والسياسة بمفهومها الوجودي العام لا يعني سوى شيئ واحد وهو الغاء الوجود البشري من الأسس ودخوله في صراع مع ذاته ونفسه ثم فشله في تغلبه على هذه الذات وهذا ما حصل في أشد المجتمعات البشرية تطرفا ضد الدين كما هو الحال في الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية سابقا والذي يرى هذه المجتمعات والحكومات التي تسيرها لا يكاد يعرف من أثار تلك المرحلة سوى ما بقي منها من تاريخ .
اللائكية في الفضاء الاسلامي :
في الأخير لابد من موقف حول مدى صلاحية هذه الفكرة اللائكية في فضائنا العربي والمسلم وسأجتهد في تلخيصه في بعض النقاط .
الفكرة الفاصلة بين الدين والسياسة فكرة فرضتها المسيحية بسبب بعد تلك الديانة كوضع سماوي عن التشريع والاكتفاء بالعقيدة والأخلاق وهذا النظام الملي لا يعترف به الإسلام ويختلف معه اختلافا جذريا فالتصور الاسلامي في جانب العقيدة يفرض أنه دين متعالي مطلق عن الزمان والمكان وأن العقل والمجتمع البشري اليوم قد بلغ ذروته لتقبل تعاليمه بينما المسيح نفسه كان يردد أنه مجرد مبشر بهذا الوضع السماوي الإبراهيمي الجديد .
المسيحي لا يؤمن بشمولية وتكامل الوجود بل يقبل المفاصلة وفكرة الصراع ومقولة أترك ملك القيصر للقيصر واترك ما لله له تؤسس عمليا لهذه المفاصلة الوجودية بينما المسلم يؤمن أن الاسلام دين شمولي لكافة الأوضاع الوجودية التي تؤسس لمبدأ التناسق والانسجام .
اللائكي ينظر الى العقل كبديل ممكن عن المفاهيم الميتافيزيقية التي تتعالى عن الحس أما المسلم فهو ينظر الى أن العقل الطريق للتحقق من مدى صواب المفاهيم الميتافيزيقية وليس الأداة المثلى لاكتساب كل المعارف الممكنة في الوجود ولهذا ركز علماء الكلام رضي الله عنهم خصوصا من مدرسة أهل السنة والجماعة على كون العقل محايدا في مسائل الشريعة وأنها هي التي تؤسس لتصوراته وليس العكس .
الدولة في الإسلام وفي التصور الغربي ليس سواء فالدولة في الاسلام وسيلة لتحقيق معاني العدل والاستخلاف والعبودية بينما هي في التصور الغربي غاية في حد ذاتها تؤمن من بطش الكنيسة , وهناك فرق بين أن تكون الدولة وسيلة فلا تكتسي صفة القداسة وبين أن تكون غاية فتكتسب كل معاني الخيرية والتقديس مع استحالة أن تكون تلك الدولة العاكسة للرغبة العامة كما يصف روسو ولذلك لا تزال الدولة الحديثة تعاني من مشكلة الاقليات المذهبية والعرقية بينما تعاني دول أخرى من تحكم الفئات البرجوازية والنافذة في الرغبة العامة عن طريق توجيهها إعلاميا وفكريا .
السياق الاسلامي ليس سياق تحرر من سلطة الدين بقدر ما هو تحرر من سلطة الاستعمار الذي فرض عليه النمط الغربي بتناقضاته وتبايناته منذ فجر الاستقلال السياسي الشكلي في حالة شاذة وغريبة حيث ألغى سلطة المحاكم الشعرية والأوقاف ونظم التربوية والمؤسسية الاسلامية وعمل على تفكيكها اداريا وثقافيا وهذا هو الذي يفسر عدم التعاطف الكبير مع هذه الفئات اللائكية في السياق العربي والمسلم عموما حيث تبقى هذه الظاهرة محصورة في الإطار النخبوي و الإعلامي ودوائر السلطة فقط لكن ليس لها أي امتداد أفقي في الأمة .
والله من وراء القصد وهو الهادي لأحسن السبيل.
الهوامش:
————————————————-
1/ تاريخ اللائكية والاستبداد الجديد ; علي سلامة
2/ العلمانية الجزئية والعلمانية الكلية ; عبد الوهاب المسيري
3/ زمن الجمهورية الثانية ; فرديناند بيوسون