لقد خطت الأقدار في صحيفتي أن أزور منطقة “ڤنزات” مرّة ثانية في آخر يومين من شهر أوت من السنة الماضية، وكانت تلك الزيارة تلبية لدعوة كريمة من أخٍ كريم من أبناء تلك المنطقة، هو الأستاذ عبد الوهّاب حمودة، شفاه الله.
إنّ الأستاذ عبد الوهّاب حمودة من أشهر من عمل للفكر الإسلامي الرّشيد في الجزائر، ودعا إليه على بصيرة، وبالحكمة والموعظة الحسنة، ويتميّز بالواقعية الفعّالة، التي تسعى إلى التغيير دون تهوّر، ولا تقدير للأمور.
وأشهد -بما علمتُ عن مشاهدة واحتكاك- أنّه من أطيب من عرفتُ، فهو صادق في تديّنه، ولم يتخذ الإسلام سُلَّمًا لتحقيق مآرب ونيل مكاسب، وهو ذو فكر رشيد يقدِّر للرِّجْل خَطْوَها قبل وضعِها، وهو يُخالط النّاس ويعامِلُهم معاملة حسنة، ويصبِر على أذاهم.
لقد عرفتُ الأستاذ حمودة في سنة 1970م، في مسجد الطلبة بجامعة الجزائر، ذلك المصلَّى الصغير مساحة الكبير أثرًا، حيث انطلق منه فكر الصحوة قبل أن تَشُوبهُ شوائب، وقد كان للأستاذ حمودة سعيٌ طيِّب لفتح ذلك المصلَّى، وقد شهِد بذلك الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وزير التربية الوطنية آنذاك، فقال: “وخلال سنة 1966 طلبت مجموعة من الطلبة تخصيص قاعة للصلاة في جامعة الجزائر، وهو مطلب شرعي سارعتُ إلى تلبيته، وكان الناطق باسم هذا الوفد هو عبد الوهّاب حمودة. (مذكرات جزائري، 2/101. دار الغرب الإسلامي).
وقد سعدت بالعمل معه -متطوعًا- في ملتقيات الفكر الإسلامي، ثم عملت نائبًا له للتراث الإسلامي، ثم خَلَفْته في مديرية الثقافة الإسلامية والملتقيات بعدما عيِّن أمينًا عامًا لوزارة الشؤون الدينية.
ومن أجمل ما في الأستاذ حمودة توفيقه في التوفيق بين ما قد يبدو لبعض الناس تناقضًا، فهو ابن زاوية، وهو المشرف عليها الآن، وهو من تلاميذ الأستاذ مالك بن نبي، وقد زار الأستاذ مالك زاويته ومكث فيها مدّة، وهو من المقدرين لفكر الإمام ابن باديس، وعضو -حاليًا- في جمعية العلماء، وهو من المعجبين برمز الدعوة الإسلامية في هذا الزمن الشيخ محمد الغزالي.
كان سبب دعوته لمجموعة من الأساتذة هو المشاركة في ندوة نظّمها في زاويته “أُوقَرّي” حول نقطتين اثنتين هما:
– القرآن الكريم: نزوله، تدوينه، إعجازه…
– تدوين ما يسمى توراة وإنجيل.
وقد كان ذلك الملتقى من أحسن الملتقيات التي شهدتها، غزارة علم، وجودة تحليل.
وأما عملية تدوين القرآن وتدوين ما يسمى توراة وأناجيل، فقد شبّهتها بزجاجتين، إحداهما ملئت في النبع وأُحْكِم غلقها، فلم يتسرّب إليها شيء يكدّرها، وثانيتهما ملئت من الماء نفسه بعدما سار مسافة طويلة فاحتمل في سَيْرهِ أوشابًا وأوضارًا فأفقدها نقاءها، ذلك هو مثل ما يسمى التوراة والأناجيل التي لم تدوَّن إلاّ بعد أمدٍ طويل من نزولها، وكانت عملية التدوين قد اعتمدت على الذاكرة، فكان ضياعٌ، وكان خلطٌ، وكان تقوّلٌ على الله، وكان تحريفٌ، وكانت خرافاتٌ، وأما القرآن الكريم فمثله كمثل الزجاجة الأولى، فقد دُوّن بمجرد نزول كلّ آية، ثم جُمعت في مصحف واحد تقبلته الأمّة بقبول حسن، لأنّه لا تناقض فيه، ولا خرافة، ولا تحريف، ولا تقوُّل، وهو يهدي للتي هي أقوم، ورحِم الله شاعر الحركة الإصلاحية الجزائرية محمد العيد آل خليفة، القائل:
هيهات لا يعتري القرآن تبديل وإنْ تبدّل توراة وإنجيل