أحسنت عملا “جمعية دار الحديث للتربية والثقافة والعلم” في تلمسان، وشعبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين فيها، إذ أحيتا الذكرى الثمانين لافتتاح “مدرسة دار الحديث”، الذي وقع في 27 سبتمبر من عام 1937، وكان كما وصفه أصحاب الرأي السديد والنظر الحديد بـ”العرس العلمي”، على مرأى ومسمع أعداء العلم، والحرية، والكرامة الآدمية، من الفرنسيين وعملائهم.
وقد تنادى إلى حضور هذه المناسبة التي لا يعقل مغزاها، إلا العاقلون، ولا يدرك بُعدها إلا العالمون، فجاءوها من مناطق مختلفة من الجزائر، كما حضر افتتاحَها منذ ثمانين حولاً كرامُ الجزائريين وخيرتُهم، يتقدمهم إمامهم ورائدهم الذي لم يدلهم بغرور، ولم يكذبهم، ولم يخدعهم، ولم يتخذهم سلمّا لتحقيق “زعامة” كاذبة، أو “بطولة” زائفة، كبطولة “هبنقة” مع كلب.
وأحسنت عملا “جمعية دار الحديث” إذ آثرت “دار الحديث” على غيرها من الأماكن لإقامة هذه الذكرى، فأحيت في العقول أياما خالدة عاشتها “دار الحديث”، وذكّرت بمواقف لشرفاء الجزائريين وكِرامهم… ويكفي أن يعلم “الجاهلون” الذين “بلغوا الثمانين” ولم يسأموا ولم يتعلموا ويطمعوا أن يُزاد لهم، يكفيهم أن يعلموا أن في “دار الحديث”، وبمناسبة افتتاحها قال الإمام ابن باديس “وإياك أعني واسمعي يا جارة”: “نحن قوم لا نهاجر، نحن حراس الإسلام والعربية والقومية بجميع مدعماتها في هذا الوطن”. “مجلة الشهاب. أكتوبر 1937. ص 355”.
وفي المناسبة نفسها قال من وصفه الإمام ابن باديس بـ”فخر علماء الجزائر”، الإمام محمد البشير الإبراهيمي: “لا بد من يوم يأتي نحتل فيه مساجدنا، ونتمتع بحريتنا التامة فيها، فاستعدوا لهذا اليوم”. (المصدر نفسه، ص 353).
فهل سمع الذي رُدَّ إلى “أرذل العمر” بهذا؟ لو سمع به لما “هدر” و”هرف” بما هرف به فيما سماه « ..Réflexions inédites »، ولو أسمعه الله – عز وجل– لأعرض وتولى، وقال: ما نفقه شيئا مما يقال… وقد يكون صادقا، لأن الـ “نيفو” هابط…
(*) الظفران (” “) في كلمة الصغار من وضعي أنا ليدلا على صِغَار عهدنا وصَغَارهم ولمن كبروا في العمر، وعلوا في المناصب.
افتتِح اليوم الدراسي بآيات بيِّنات من كتاب الله – عز وجل– الذي أحيته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في عقول الجزائريين وأنفسهم، فأحيتهم به، وغيَّرت ما بأنفسهم فغيَّر الله– عز وجل– ما بهم من خزي واستعباد و”حياة” أشرف منها حياة الحيوانات.. ثم أذيع “النشيد الوطني”، ثم صدح نشيد جمعية العلماء:
“شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب”
وهو لمن كان له عقل، أو ألقى السمع، وفهم المعاني “خطة طريق” لتحرير الجزائر، ولكن “الجاهلين” الذين “كذّبوا” بآيات الله كيف لا يكذّبون بـ”آيات” جمعية العلماء، ويحرِّفونها، بل ينسخونها ولا يأتون بأدنى منها؟
ثم ألقى الشيخ آيت سالم ابن يونس، نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كلمة رحَّب فيها بالحاضرين، وذكَّر ببعض معاني ذلك اليوم من عام 1937، ثم عُرض شريطٌ قصير سجل فيه بعض ما جرى في ذلك اليوم المشهود من الجزائريين، ومن أعدائهم الفرنسيين.. الذين يرون ما لا يرى الذين لهم أعينٌ لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم قلوب لا يفقهون بها.. و”إنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”.
وكان رد فعل الفرنسيين هو محاكمة الإمام الإبراهيمي، وتغريمه، وإغلاق مدرسة دار الحديث إلى حين… ثم أغلقت في سنة 1956 وحُوِّلت إلى مركز عسكري..
الإمام الإبراهيمي كان “شمسا”، أحرقت الضالين والظالمين، وأشرقت على تلمسان وما حولها فـ”أحيتها” وعلى الجزائر فأنارتها… ومن كان في هذا الكلام يمتري فليرجع إلى تقارير السلطات الفرنسية، وإلى عرائض أذنابها، الذين ورَّثوا لأبنائهم “عداوة” جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأعضائها، وقديما قيل: “والجاهلون لأهل العلم أعداء”، وكذلك “الخائنون” لدينهم ووطنهم.
ورحم الله الشاعر غير الهائم، محمد العيد آل خليفة الذي سجَّل هذا الحدث العظيم في قصيد بديع جاء فيه:
“تلمسان” احتفت بالعلم جارا وما كالعلم للبلدان جار
لقد بعث “البشير” لها بشيرا بمجد كالركاز بها يثار
وفي “دار الحديث” له صوان بديع الصنع ومصقول منار
به عرض “البشير” فنون علم وآداب ليجلوها “الصِّغار” (*)
لقد استنّ الحسن الثاني بـ”سُنة” الإمام الإبراهيمي، فأسس في المغرب “دار الحديث الحسنية” التي أوحى إليه بها الأستاذ عبد الوهاب بن منصور الذي كان تلميذا للإبراهيمي ثم معلما في دار الحديث وفي أيام الثورة لجأ إلى المغرب وعُيِّن مؤرخا رسميا للمملكة المغربية وقيِّما على ضريح الملك محمد الخامس، وقد صارت “دار الحديث الحسنية” الآن مفخرة من مفاخر المغرب الأقصى، أما “دار الحديث الإبراهيمي” بتلمسان فقد ورثها “خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات”، فأضاعوها، وأيَّ جوهرة أضاعوا، فهي الآن “تئنُّ” من جهل الجاهلين، وحقد الحاقدين، ولولا بقية صالحة قبضت من أثر الإبراهيمي تبقي على حشاشتها، لكانت “دار الحديث” اليوم طللا باليا يلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد.