بعد أن صليَّنا الفجرَ في الحرم المكيِّ، بدأ الناسُ يتجمعون على غير عادتِهم تُجاه باب الكعبة المشرَّفة، حتى اكتظَّ المكانُ بهم، وتوقَّف الطَّوافُ.
وبعد قليل ستُفتح الكعبةُ وتُغسل، ثم رأيتُ السُّلَّم الخشبي- وهو على شكل المنبر- يتحرَّك ببطءٍ حتى التصق بجدارِ الكعبة، وتقدَّم كبيرُ سَدنة الكعبةِ عبدالقادر شيبة وبيده مِفتاحُ الكعبة الذي ورِثه عن أسلافه، ولهذا المِفتاح قصةٌ ذكرها أصحابُ السِّير، فعن عثمان بن طلحة قال:
“كنا نفتح الكعبةَ في الجاهلية يوم الاثنين والخميس، فأقبل رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- يومًا يريد أن يدخلَ الكعبةَ مع الناس، فأغلظتُ له، ونِلت منه، فحَلُم عليَّ، ثم قال:
((يا عثمانُ، لعلك سترى هذا المفتاح يومًا بيدي، أضعُه حيث شئتُ))، فقلت:
لقد هلكت قريشٌ يومئذ وذلَّتْ، فقال: ((بل عَمَرَتْ وعَزَّتْ يومئذ))، ودخل الكعبةَ، فوقعت كلمتُه مني موقعًا ظننتُ يومئذ أن الأمرَ سيصير إلى ما قال، فلما كان يومُ الفتح قال:
((يا عثمان، ائتني بالمفتاح)) فأتيتُه به، فأخَذه مني، وكان العباسُ يرغب في أخْذ المفتاح؛ ليجمعَ بين السِّقاية وسَدانة الكعبةِ، فينالَ شرفَ فتحِ الكعبة، فنزل قوله- تعالى- من سورة النساء: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58].
وسورة النساء مدنيةٌ إلا هذه الآيةَ، نزلت في جوف الكعبة، فدفع النبيُّ- صلى الله عليه وسلم -المفتاحَ إلى عثمان بن طلحة، وقال:
((خذوها خالدةً تالدة إلى يوم القيامة، لا ينزعُها منكم إلا ظالمٌ، يا عثمانُ، إنَّ الله استأمنكم على بيته، فكُلُوا مما يصل إليكم من هذا البيتِ بالمعروف))، قال:
فلما ولَّيتُ، ناداني، فرجعتُ إليه، فقال: ((ألم يكنِ الذي قلتُ لك؟))، قال:
فذكرتُ قولَه لي بمكة قبل الهجرة: ((لعلك سترى هذا المِفتاح بيدي أضعُه حيث شئتُ))، فقلتُ: بلى، أشهد أنك رسولُ الله”.
فلا أحدَ يستطيع أخْذَ المفتاح منهم مهما كانت سلطتُه، وإلا كان ظالمًا بنص حديث النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وبشَّرهم -صلى الله عليه وسلم- ببقاء عقِبِهم إلى يوم القيامة، وهذه معجزة.
جموع الناس تنتظرُ فتح باب أعظمِ بيت في الكون، شاهرين هواتفَهم لتوثيق هذا الحدث الذي يتكرَّر مرتين في السنة، في غرَّة محرم وشعبان، وعم السكونُ أرجاء الحرم، وما إن فُتِح باب الكعبة، حتى كبَّر الناس تكبيرةً واحدة، ارتجَّ لها الحرم، وتدافع الناسُ؛ ليقتربوا أكثرَ من الكعبة، لعلهم يدخلون بأبصارهم داخل الكعبة.
لكنَّ الطوق الأمني المشدَّدَ يحول دون اقترابهم، في تلك اللحظات المباركة كنتُ على موعدٍ مع أعظم حدث في حياتي، فقد أكرمني الله -تعالى- بدعوة مباركة لدخول الكعبة المشرَّفة، توجهتُ نحو بيت الله الحرام، وبعد تقبيل الحجر الأسود رقِيتُ الدرجَ الخشبي المؤدِّي إلى الكعبة وأطرافي ترتعش، ونبَضاتُ قلبي تتسارع، حتى خشيتُ ألا أصل إلى آخر الدَّرَج، إلا أني تماسكتُ، فما أن ولجتُ الكعبةَ حتى غشِيتني سكينةٌ لم أشعر بها في حياتي، وغمرني جلالُ وجمال المكان وكأني انتقلتُ خارج الدنيا، فتحوَّلت عيناي إلى نبعٍ يفيض بالدموع.
المكان يفوح بأفخرِ أنواع الطيب من المسك والعُود والعنبر، الذي يُستخدم لتعطير وتنظيف الكعبة، ويستمرُّ عبَقُه طوال العام، تقدَّمت فاستقبلتُ الجدار الذي يقابل البابَ وصلَّيتُ في المكان الذي صلى فيه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وعليه بلاطةٌ رخامية بلون غامقٍ، تحدِّدُ موضع سجود الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبعد الصلاة جُلْتُ بنظري في أرجاء الكعبة، وأنا أتساءل:
هل يُعقَلُ أني في جوف الكعبة المشرَّفة؟
في بيت الله الحرام؟
في البيتِ العتيقِ؟
في جوف أول وأعظم بيتٍ وُضِعَ للناس؟
في وسَطِ بيت الله الذي بَنَتْهُ الملائكة؟
ورفع قواعدَه إبراهيمُ وإسماعيل -عليهما السلام؟
ثم رفعتُ بصري إلى سقف الكعبة المشرَّفة المغطَّى بقِماش من حريرٍ أخضرَ، وأقول في نفسي:
نحن الآن تحت البيت المعمورِ الذي أقسم اللهُ به:
﴿ وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ﴾ [الطور: 1- 4].
وقال عنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ((مسجد في السماء بحيال الكعبةِ، لو خرَّ، لخر عليها، يصلِّي فيه كل يوم سبعون ألفَ مَلَكٍ، إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم)).
أرضيةُ الكعبة مزيَّنة بالرُّخام الملوَّن، وكذلك النصف السفلي من جدرانها حتى ارتفاع أربعة أمتار، كما توجد على جدرانها بلاطات من الرخام توثِّقُ لمن قام بتوسعة الحرم المكي الشريف، وما تبقَّى من الجدران والسقف، فهو مغطًّى بستائرَ جميلةٍ من الحرير الأخضر, ومكتوب عليها: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، .
وقوله –تعالى-: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِع َلِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [آلعمران: 96].
وقوله –تعالى-: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: 144].
ومكتوب: يا حنَّانُ، يا منَّان، يا ذا الجلال والإكرام، وفي الوسط ثلاثةُ أعمدة خشبية تَدعَمُ السقفَ، فيها حُليٌّ من الذهب، وكانت الكعبة في السابق مثبتةً بستة أعمدة، وبين الأعمدة قناديلُ مصنوعةٌ من النحاس والفضة، والزجاج المنقوش بآيات قرآنية، والكعبة لا إنارةَ فيها، وإنما تضاء بكشَّاف موصولٍ بالسُّلَّم الخشبيُّ، وبه مكيِّفُ هواء؛ لترطيب جوف الكعبة المشرَّفة، وعلى يمين الداخل للكعبة بابٌ صغير مصنوع من الذهبِ، خلفه دَرَجٌ يؤدِّي إلى السطح.
مكثتُ داخل الكعبة قرابة الساعة، مرَّت كأنها دقيقة، وكلما هممتُ بالخروج تراجعت وجلستُ في موضع آخر، وتمنيَّت أن تُقبض رُوحي في تلك اللحظات الطاهرة، ولَمَّا خرجت من الكعبة المشرَّفة، اختلطت عليَّ مشاعرُ السعادة والحزن، واستقبلني الناسُ يسألونني عن الكعبة وما فيها، والعَبرة تخنقني، بالكاد أقول لهم: أسألُ اللهَ أن يدخلنا الفردوسَ الأعلى، وأحدِّث نفسي: هذه حال مَن دخل الكعبة في الدنيا، فكيف بمن فُتحت له أبواب الفردوس الأعلى وأكرمه الله بالنَّظر إلى وجهه الكريم؟
نسأل الله أن نكون جميعًا منهم آمين.
دخول الكعبة أُمنيَّةُ كلِّ مسلم ومسلمة، يكتبها الله لمن شاء، فإن تعذَّر ذلك، فالصلاةُ في الحِجْرِ تعدِلُ الصلاةَ في جوف الكعبة؛ لأنه من الكعبة؛ كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها – حين قالت:
“كنت أحبُّ أن أدخل البيتَ، فأصلي فيه، فأخذ رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- بيدي، فأدخلني في الحِجْرِ، فقال:
((صلِّي في الحِجْرِ إذا أردتِ دخول البيتِ، فإنما هو قطعةٌ من البيت؛ فإن قومَك اقتصروا حين بنَوا الكعبةَ، فأخرجوه من البيت)).
اللهم زِد الكعبةَ تشريفًا وتعظيمًا، وتكريمًا ومَهابة، وزِدْ مِن شرفِها وكرمِها مَنْ حجَّها واعتمرها تشريفًا وتعظيمًا، وتكريمًا وبِرًّا.