أن يأخذ العلمَ لاحقٌ عن سابق ، ويُسنِد الرواية خلفٌ عن سلف ، فتلك مِنّة مَنَها الله على هذه الأمة ، ومِيزة تفرّدت بها علوم الدين في حضارة الإسلام .
وإذا كان علم الإسناد سلاحا رفعه العلماء العدول في وجه الوضاعين و الكذبة و المدلسين ، فإنه اليوم يشهد فوضى عارمة أضرّت بميدان الإفتاء و التدريس…وأصبح من شاء يقول ما شاء بدعوى أن له ” إجازة علمية ” عن هذا الشيخ أو ذاك ، لينال شرف السند العالي في القراءات أو الفقه أو الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وتعجب عندما تقرأ أن أحدهم يعطي ـ هذه الأيام ـ إجازات علمية ( أون لاين –( On Line ,وكل من يفتح برنامج ( Zoom ) يشاهد الشيخ جالسا في غرفته ، ووراءه مكتبة عامرة ، ويلبس لباس المشايخ الكبار …وبعد قراءة الصفحة الأولى من كتابه أو مصنفه ، يوزع الشيخ الإجازات كيفما اتفق …!!، ومن خانه ضعف الشبكة فليس له الحظ فيها…!!.
وقد كتب العالم الجزائري المحقق فضيلة الدكتور عبد العزيز دخان في منشور سابق عن هذا الموضوع ، نقلا عن العلماء الأثبات أن كثيرا من مساوئ هذه الإجازات هو الحرص عليها دون النظر في عدالة رواتها وضبطهم وصدقهم ، حتى كثُر الوضاعون و الضعفاء و المجاهيل ” !!.
وفي أيام الجامعة أخبرني أحدهم أنه زار في الفندق مع زميله أحد العلماء الذين قدموا زائرين إلى الجامعة ، وفي جلسة شاي راقية ، قُرئ عليه صفحات قليلة من كتابه ..فأعطاهما إجازة مكتوبة قبل أن ينصرفا ..!!
وقد شاهدت أحد المشايخ في إحدى البلاد العربية ، وقد جهّز نموذجا لإجازة مكتوبة بخط جميل ، ومختومة بختم فاخر …ثم يكتب اسم ” الطالب المُجاز” وسط متنها ، بعد ديباجة فاتنة في أولها ، ودُعاء ضَارعٍ في آخرها …ويقدمها عند كل طلب.. !!!.
لماذا لا يوجد هذا النوع من الإجازات في ميدان الطب و الهندسة و الطبيعة و الرياضة ؟ ونجدها تزحَم ميدان علوم الشرع فحسب ..؟!! مما أفرز لنا نابتة من الطلبة الأحداث اللاهثين وراء جمع الإجازات ، ليوهموا عوام الناس أن لهم قَدَم صدقٍ في الإفتاء والتدريس و التوجيه ..!!
إن هذه الفوضى في إعطاء الإجازات العلمية ينبغي أن يحسمها أولو النظر الفاقهون ، وأهل الاختصاص العالمون ..فيضعون لها القوانين الحاكمة ، والأنظمة المنضبطة ، وتشرف عليها جهات معتمدة لها مصداقية في التخصص ، وسمعة عاطرة بين الناس ، كالجامعات المرموقة ، والمعاهد المتخصصة ، و المؤسسات الشرعية ، وأفراد من العلماء و المشايخ يكونون أمناء يحفظون آثار الرُسل ، ويجمعون الخلق عليها ….حماية للدين وصونا لعلومه من العبث والابتذال ….عملا بالأثر الوارد :
” إن هذا العلم دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم ” .