من عادتي إقامة مجلس لفتاوى الصيام عقب صلاة العصر بالمسجد الذي أخطب فيه، فتطرقت لمسألة زكاة الفطر وإخراجها والاختلاف الحاصل فيها..
و مما قلته: المسألة خلافية بين من يرى إخراجها قوتاً، أو إخراج قيمتها نقداً، وعرضت ما أعرف في حدود ما تعلمته من شيوخي…
مختاراً إخراج قيمتها نقداً لاعتبارات ذكرتها مسترشداً بطائفة ممن قال بذلك من المتقدمين والمعاصرين وتعليلهم لهذا الاختيار..
فانبرى أحد ممن غرني سمته وطول مكثه في المسجد متخطياً الرقاب، ومراوغاً الأجسام شاهراً يده ولسانه… يا شيخ، ياشيخ…
فقلت: تفضل..
قال: ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجها نقداً [ولم تكن النقود موجودة]، وهذا غير صحيح…
فاستحييت ألا يسعه حلمي وأعدت عليه ما كنت قلته..
وتوجهت للحضور قائلاً: يقول الأخ الفاضل بأني قلت كذا وكذا، وهذا الأمر لم أقله، وصدق فيه، فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر نقداً وإنما أخرجها من قوت أهل البلد..
وقد أخذ بهذا جمهرة من الصحابة والتابعين والفقهاء كالمالكية والشافعية والحنابلة عليهم رحمة الله تعالى..
وأخذ بجواز إخراج قيمتها نقداً جمهرة أخرى من الصحابة رضي الله عنهم كعمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عبّاس، ومعاذ بن جبل..
وجمهرة من التابعين ومن بعدهم عليهم رحمة الله تعالى كالثوري وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وأبو حنيفة والبخاري، وأبو إسحاق السبيعي الذي قال: أدركتهم ـ يعني الصحابة ـ وهم يعطون في صدقة رمضان الدّراهم بقيمة الطّعام. (مصنف ابن أبي شيبة: 3/174، وعمدة القارئ: 9/8).
وهو قول أشهب وبن القاسم واختيار اللخمي من المالكية..
وقد اختاره ابن تيمية من الحنابلة..
وبهذا أخذت العديد من المجامع الفقهية والهيئات الرسمية كدار الإفتاء المصرية، و المجلس العلمي المغربي، و المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، و المجلس الإسلامي السوري، و لجنة الفتوى بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف الجزائرية، ولجنة الفتوى باتحاد علماء إفريقيا، و الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين وغير هذه الهيئات..
وقال بهذا أيضاً العديد من العلماء والفقهاء المعاصرين كأحمد الزرقا، وأحمد بن محمد بن الصِّدِّيق الغُمَاري على تفريق بين الحاضر والباد، والقرضاوي، وبن بيه و القرداغي، وغيرهم…
معيداً له أسباب اختارهم وتبين مقصدهم، مع ذكر تخريجهم للمسألة وتعليلهم لذلك، مسقطاً قولهم على حي مسجدنا مما يبين مصلحة الفقير في هذا الاختيار… مستشهداً بحالات رمي فيها القوت ولم ينتفع به، أو كيف أنه بيع بأبخس ثمن…
يضاف لذلك عدم الاتفاق على قوت معلوم..
مع التذكير “المستمر” بأن المسألة خلافية وفيها واسع النظر…
فانتفض صاحبي وقال: أنا أقول لك قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم]، وأنت تقول لي قال العلماء..
حينها صمت لبرهة وسألته: هلا عرفتنا بنفسك؟
فقال: تقصد اسمي!
قلت: لا، عرفنا بك، أعالم ؟ أم فقيه، أم دكتور ؟ أم ماذا؟
فقال: [ وأهل المسجد يعرفونه] لا، بل أنا عامل في سكة الحديد [مع تقديري للأفاضل في هذه المهنة النبيلة]، و[ وعلمت فيما بعد أن مستواه التعليمي ابتدائي ولا يُعرف له شرف طلب، وأن له سابقة في هذا الفعل مع كل إمام جديد..].
فقلت له: ما دمت لست عالماً فمثلي ومثلك لا ينبغي لهم الخوض فيما يخوض فيه العلماء، ومرحباً بك متعلماً، وباب مقصورتي مفتوح في كل الأوقات لتعليمك..
وأبشرك أننا شنشرع بحول الله وقوته في إقراء الحديث النبوي الشريف من خلال موطأ الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى في هذا المسجد فمرحباً بك متعلماً.. [عقد المجلس وغاب عنه].
وأتمنى منك في المرة القادمة التي تأتي لتسأل فيها أن تسأل قبل الدرس لئلا تشوش على إخوانك..
وانفض المجلس… وبعدها بيوم تطوع أبناء ” الحلال” لزيارة مقصورتي لإعلان إنكارهم على الأخ وتأييدي تجاهه.. وأنا أعلم أنهم من قبيل” من نم لك نم عليك”، ولئلا أعطي للحادثة أكثر من حجمها.
فقلت لهم: الأخ الفاضل سأل فأجبته.. وأثنيت عليه خيراً
والتقيت به بعد يومين فأقبلت عليه مسلماً… فمن الله علي بهدنة منه لسنة كاملة إلى رمضان القادم…
في رمضان القادم دخل إلى المقصورة وتكلم بأدب ثم قال ياشيخ: عندي اقتراح..
قلت له تفضل:
قال: ما رأيك أن نقتسم نشاط المسجد!
ولكم واسع النظر في تتمة القصة..
هكذا ينبغي أن يكون عليه أئمتنا الكرام ولنا في القرآن العظيم والسنة الشريفة العملية مواقف حكيمة في كيفية الرد المناسب للشخص المناسب في الوقت المناسب وبهذا نكون قدانتصرنا حين تصبرنا واتقينا .
هكذا هم العلماء الصادقين لا يتكلمون إلا خيرا ويسعون الى نشر العلم الصالح.