الرئيسية / خطب جزائرية / كَانَ خُلُقُهُ القُرْآنُ – الأستاذ الدكتور مسعود فلوسي

كَانَ خُلُقُهُ القُرْآنُ – الأستاذ الدكتور مسعود فلوسي

Print Friendly, PDF & Email

الحمد لله الذي ((الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ))، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه، ونتوب إليه ونستغفره، ونستهديه ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

ونشهد أن سيدَنا وحبيبَنا وقدوتَنا محمدا عبدُ الله ورسولُه، أول الداعين، وإمامُ المتقين، وسيدُ العابدين، والهادي إلى الصراط المستقيم، أرسله ربُّه بالهدى ودين الحق بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، ففتح بدعوته آذانا صُما وأعيُنا عُميا وقلوبا غُلفا، وأخرج به ((النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ))، فصلواتُ الله وسلامُه وبركاتُه عليه وعلى آله وصحبه ((الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)).

اللهم أحينا على سنته وأمِتْنا على ملته واحشرنا في زمرته مع الذين أنعمت عليهم ((مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا)).

وأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)).

أما بعد، فيا أيها الإخوة الأحبة الكرام..

جدير بنا، ونحن نعيش في ظلال ذكرى مولد خير الكائنات محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات ووافر البركات؛ أن ندرس سيرة هذا النبي الكريم والرسول الرحيم ونتخذها مثلا نحتذيه في حياتنا، امتثالا لما أمرنا به ربنا عز وجل في قوله سبحانه وتعالى: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)).

ولعل أجدر الجوانب وأحقها بالتمثل والاقتداء من حياة هذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام؛ ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من أخلاق عالية وشمائل رفيعة وخصال فذة..

لقد خاطب الله عز وجل عبده الكريم محمدا بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، فقال عز من قائل كريم: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)).

وقال عليه الصلاة والسلام يحدث بنعمة ربه عليه: (أدبني ربي فأحسن تأديبي).

وسأل سَعْدٌ بْنُ هِشَامِ بْنُ عَامِرٍ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها فقال: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قَالَت:ْ أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قال: بَلَى.

قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ.

نعم، فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، قرآنا حيا يمشي بين الناس، فما من خير أو بر أو فضل جاء الحث عليه في القرآن، إلا والنبي صلى الله عليه وسلم قد تخلق به وظهر به واصطبغت نفسه بحقيقته، وما من شر أو مرذول من السلوك والعمل حذر القرآن منه ونهى عنه، إلا أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه وكان أبعد ما يكون عن اقترافه أو القرب منه.

كان عليه الصلاة والسلام أصدق الناس في قوله ومعاملته، فلم يعرف الكذب في حياته جادا ولا مازحا، بل حرم الكذب وذم أهله، وقال عليه الصلاة والسلام يحث على التزام الصدق والبعد عن الكذب: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا).

وكان عليه الصلاة والسلام أصبر الناس، فلا يُعلم أحد مر به من المصائب والمصاعب والمشاق والأزمات كما مر به عليه الصلاة والسلام، وهو صابر محتسب، فقد صبر على اليتم والفقر والعوز والجوع والحاجة والتعب والحسد والشماتة، وصبر على الطرد من الوطن والإخراج من الدار والإبعاد عن الأهل، وصبر على تكالب الأعداء وتحزب الخصوم واجتماع المحاربين وجهْل الأعراب ومكر اليهود وعُتُوِّ النصارى وخبث المنافقين.

وصبر عن الدنيا التي تبرجت له ودعته إلى الإقبال عليها بزينتها وزخرفها وذهبها وفضتها، فلم يتعلق منها بشيء، ممتثلا في ذلك كله أمر ربه الكريم في قوله: ((وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)).

وكان عليه الصلاة والسلام أحلم الناس وأوسعهم صدرا، فقد كان يكظم غيظه ويعفو ويصفح ويغفر لمن أخطأ في حقه، ويتنازل عن حقوقه الخاصة ما لم تكن حقوقا لله، ألم يعف عمن ظلموه وطردوه من مسقط رأسه وآذاوه وسبوه وشتموه، وقال لهم يوم الفتح: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).

وقد واجهه الأعراب بالجفاء وسوء الأدب فحلم وصفح، ممتثلا أمر ربه عز وجل: ((فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ))، فكان لا يكافئ على السيئة بالسيئة، بل يعفو ويصفح. وكان يبلغه الكلام السيئ فيه، فلا يبحث عمن قاله ولا يعاتبه ولا يعاقبه، وورد عنه أنه قال لأصحابه: (لا يُبَلِّغْني أَحَدٌ منكم ما قيل فِيَّ، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر).

وكان عليه الصلاة والسلام يدعو للجود والسخاء ويذم البخل والإمساك، فيقول: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ)، ويقول: (كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ قَالَ يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ).

وقد ضرب صلى الله عليه وسلم المثل بنفسه في ذلك، فكان أكرم الناس وأجود الناس، فهو أكرمُ من خَلَقَ اللهُ، وأجودُ البرية نفسا ويدا، فكأن كفه غمامة بالخير، ويده غيثا بالجود، بل لقد كان أسرع بالخير من الريح المرسلة.

كان عليه الصلاة والسلام يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، حتى إن سائلا طلب منه ثوبه الذي يلبسه فخلعه وأعطاه إياه، وكان لا يرد طالب حاجة، قد وسع الناسَ بِرُّه، طعامُه مبذول وكفُّه مدرار، وصدرُه واسع، وخلقه سهل، ووجهه بسام، ينفق مع الحاجة ويعطي مع الفقر، يجمع الغنائم ثم يوزعها في ساعة ولا يأخذ منها شيئا، يصل القريبَ بما يملك، ويواسي المحتاجَ بما عنده، ويقدم الغريب على نفسه، فكان عليه الصلاة والسلام آية باهرة في الجود والكرم وسخاء النفس، وذلك ما شهدت له به زوجته الأولى أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها حين قالت: (إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتًقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).

وكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا، ولم يكن زهده عليه الصلاة والسلام زهد عاجز لم يمكنه جهده من الحصول على ما يحب، وإنما كان زهدَ من علمَ فناء الدنيا وسرعة زوالها وقلة زادها وقِصَر عُمُرها، وبقاء الآخرة وما أعده الله لأوليائه فيها من نعيم مقيم وأجر عظيم وخلود دائم، وقد رفض صلى الله عليه وسلم الأخذ من الدنيا إلا بقدر ما يسد الرمق ويقيم الأوْد، بالرغم من أن الدنيا عرضت عليه وتزينت له وأقبلت إليه، لقد آثر الزهد والكفاف، فربما بات جائعا ويمر الشهر لا تُوقَد في بيته نار، ويستمر الأيام جائعا لا يجد حتى رديئ التمر يسد به جوعه، وما شبع من خبز الشعير ثلاث ليال متواليات، وكان ينام على الحصير حتى أثر في جنبه، وربط الحجر على بطنه من الجوع، روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ، فَأَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ جَعَلْتُ أَمْسَحُ جَنْبَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَا آذَنْتَنَا حَتَّى نَبْسُطَ لَكَ عَلَى الْحَصِيرِ شَيْئًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا وَالدُّنْيَا، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ ظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا).

وكان صلى الله عليه وسلم على درجة عالية من التواضع، فكان تواضعه تواضع من عرف ربه واستحيا منه وعظمه وقدره حق قدره، وعرف حقارة الجاه والمال والمنصب والدرهم والدينار والذهب والفضة، فسافرت روحه إلى الله وهاجرت نفسه إلى الدار الآخرة، فما عاد يعجبه شيء مما يعجب أهل الدنيا، وصار عبدا لربه بحق، يتواضع للمؤمنين، يقف مع العجوز، ويزور المريض، ويعطف على المسكين، ويصل البائس، ويواسي المستضعفين، ويداعب الأطفال، ويمازح الأهل، ويواكل الناس، ويجلس على التراب، وينام على الثرى، ويفترش الرمل، ويتوسد الحصير، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد). وكان صلى الله عليه وسلم يدعو غيرَه إلى التواضع ويحثه عليه، ويقول: (مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ)..

وكان صلى الله عليه وسلم يكره المدح، وينهى عن إطرائه، ويقول: (لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)، وكان ينهى أن يُقام لأجله، ويجلس حيثما انتهى به المجلس، ويختلط بالناس كأنه أحدهم، ويجيب دعوة من يدعوه ويقول: (لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ)، وكان يحب المساكين، وقد دعا ربَّه أن يحشره في زمرتهم، فقال: (اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

وقد عُرِفَ عليه الصلاة والسلام بالرحمة والشفقة، فكان رحيما بالقريب والبعيد، عزيزٌ عليه أن يُدخل على الناس مشقة، فكان يخفف إذا صلى بالناس مراعاة لأحوالهم، قال عليه الصلاة والسلام: (إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ).

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سراج الهدى وخاتم النبيين، وعلى آله المطهرين وأصحابه الغر الميامين، ومن استن بسنتهم واتبع منهجهم القويم إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا أحباب رسول الله، صلوا على حبيبكم وسلموا تسليما..

إن ما عرضناه من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس سوى جزء يسير من جوانب العظمة في شخصيته عليه الصلاة والسلام، وهذه الخصال التي ذكرناها إنما تتعلق بشخصيته في نفسه وفي علاقته بالناس.

لكن هناك جانبا آخر من جوانب عظمته وعلو همته وشموخ نفسه؛ إنه جانب علاقته بالله عز وجل، فنحن نقف في هذا المجال على فن في العبادة والذكر والدعاء لم يعرف تاريخ الإنسانية له مثيلا عبر مساره الممتد الطويل.

لقد كان عليه الصلاة والسلام كثير المراقبة لربه عز وجل، واسع الخشية منه، عظيم العبادة له، فكان صلى الله عليه وسلم إذا حضرت الصلاة خرج إليها لا يشغله عن طاعة ربه شيء، وإذا خلا إلى نفسه انقطع إلى عبادة ربه تعالى والضراعة إليه، وكان يجتهد في الليل متهجدا راكعا ساجدا حتى تتورم قدماه الشريفتان، وتفيض عيناه بالدمع من خشية الله حتى يُسمَع لصدره أزيزٌ كأزيز القِدْرِ من البكاء، فتقول له زوجته أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها: أتفعل ذلك يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيجيبها: (أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا). وكان صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقول أهله (لَا يُفْطِرُ) لكثرة صيامه.

وكان عليه صلوات الله وسلامه وبركاته أكثرَ الناس ذكرا لربه عز وجل، حياتُه كلها ذكر لمولاه سبحانه، فدعوته ذكر، وخُطَبُه ذكر، ومواعِظُه ذكر، وجهاده ذكر، وفتواه وقضاؤه بين الناس ذكر، وسفره وإقامته ذكر، ولياليه وأيامه كلها ذكر، بل أنفاسه كلها ذكر لمولاه عز وجل.

وكان صلى الله عليه وسلم يحث الناس على ذكر الله عز وجل، فيقول: (سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ)، قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ)، ويقول: (مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)، وجاءه رجل فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، فقَالَ صلى الله عليه وسلم: (لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ).

وكان عليه الصلاة والسلام يتفنن في الدعاء ويسأل ربه عز وجل متأدبا متضرعا خاشعا متوسلا بصيغ وأساليب كثيرة لا تُحصى، فكان يكثر من الدعاء ويُلِحُّ فيه، يناشد ربه الرحمة والعفو، ويطلب بره وكرمه، مع تمام الذل والخوف والحب وحسن الظن وتمام الرجاء، يتحين لذلك الأوقات الشريفة والأمكنة المطهرة، وكان يختار من الدعاء أجمعه وأكمله وأتمه، من ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن قَتَادَة أنه سأل أَنَسًا رضي الله عنه: أَيُّ دَعْوَةٍ كَانَ يَدْعُو بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ؟ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دَعْوَةٍ يَدْعُو بِهَا يَقُولُ: (اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

تلكم أيها الإخوة نماذج يسيرة من أخلاق حبيبنا المصطفى عليه الصلاة والسلام، نلمح منها حقيقة شخصيته التي جمعت الكمال الإنساني من أطرافه.

وذلكم -أيها الإخوة- هو محمد بن عبد الله، الذي قال الله عز وجل لنا في شأنه: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)).

فلنجعل من سيرته وشمائله عليه الصلاة والسلام نبراسا نستضيئ به ونورا نهتدي به ونموذجا مثاليا تطبيقيا نقتدي به ونقتفي أثره.. ولنعلم أنه لا حياة لنا إلا باقتفاء سنة هذا النبي الكريم والرسول العظيم، فلم يرتض لنا ربنا قدوة سواه، ولم يقبل منا منهجا في الحياة نسير عليه سوى ما جاءنا به، فإنْ نحن اتبعناه وعملنا بسنته كانت لنا العزة والكرامة والمكانة السامية في الدنيا، وحظينا بالنعيم المقيم في الآخرة.

أما إن أعرضنا وصددنا واتبعنا سبل الغواية والضلال، فلن نجني إلا مزيدا من الذل والمهانة وقلة الكرامة وانعدام الحرمة وذهاب المهابة. قال تعالى: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)).

وقال سبحانه: ((وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)).

اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة..

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

اللهم إنا نسألك حبك، وحب نبيك، وحب من يحبك ويحب نبيك..

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

اللهم وفقنا إلى العودة إلى تحكيم كتابك واتباع سنة نبيك.

اللهم اهدنا إلى ما تحبه وترضاه من القول والعمل..

اللهم إنا نسألك من كل خير سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ونعوذ بك من كل شر استعاذك منه عبدك ونبيك محمد عليه الصلاة والسلام، وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بك يا رب العالمين.

اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا.

اللهم ارحم أمة عبد ونبيك وحبيبك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اهد أمة عبد ونبيك وحبيبك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم وفق أمة عبدك ونبيك وحبيبك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

وصَلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك سيدنا محمد، عدد ما أحاط به علمك وخط به قلمك وأحصاه كتابك، وارض اللهم عن ساداتنا أصحاب رسول الله أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

آمين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

((وَأَقِمْ الصَّلَاةَ)).

عن عمار رقبة الشرفي

- مجاز في القراءات العشر المتواترة من طريق الشاطبية والدرة. - مجاز في الكتب التسعة بالسند المتصل وبعدد من كتب الحديث الشريف. - شهادة تخرّج في العلوم الشّرعية والعربية من معهد بدرالدّين الحسني بدمشق. - شهادة الدّورة التّأهيليّة للدّعاة. - إجازة تخرج (ليسانس) من معهد الدّعوة الجامعي (فرع دمشق) في الدراسات الإسلاميّة والعربيّة. - ديبلوم ماجيستير في الفقه المقارن (تحقيق جزء من كتاب عيون الأدلّة - للقاضي أبي الحسن علي بن أحمد المالكي البغدادي المعروف بابن القصار (ت :398هـ - 1008م- قسم المعاملات. - مؤسس ومدير معهد اقرأ للقرآن وعلومه، باب الزوار- الجزائر العاصمة http://iqraadz.com/ - المؤسس والمشرف العام على موقع المكتبة الجزائرية الشّاملة http://www.shamela-dz.net/

شاهد أيضاً

نعمة الله على عباده بإنزال الغيث من السماء- الأستاذ الدكتور مسعود فلوسي

الحمد لله، ثم الحمد لله، الحمد لله الممتن على عباده بنعمه، القائل في محكم كتابه: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *