إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستهديه ونسترشده، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به عز وجل من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
ونشهد أن سيدنا ونبينا وقدوتنا محمدا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، أرسله ربه ضياء ونورا للناس أجمعين، وهدى ورحمة للعالمين، فأدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين.
ولم ينتقل إلى الرفيق الأعلى حتى ترك أمته على المحجة البيضاء ليلِها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
فصلواتُ الله وسلامُه وبركاتُه على هذا الرسول الكريم والنبي الرحيم وعلى آله وصحبه (الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
اللهم أحينا على سنته وأمِتْنا على ملته واحشرنا في زمرته مع الذين أنعمت عليهم (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا).
وأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله عز وجل، امتثالا لأمره سبحانه وتعالى في قوله الكريم: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).
أما بعد، فيا أيها الإخوة الأحبة الكرام..
مرت بنا هذه الأيام الذكرى السادسة والستون لما يسمى باليوم العالمي لحقوق الإنسان، وقد مرت هذه المناسبة في صمت مُطْبِق، أي دون أن تحظى بالاهتمام المطلوب، إذ لم تلق سوى إشارات عابرة في بعض وسائل الإعلام.
حتى الأمم المتحدة نفسُها لم تُعِرِ المناسبةَ أي اهتمام، والذي يبدو أن هذه المنظمة قد خَجِلت أن تحتفل بذكرى حقوق الإنسان لكثرة المآسي والمظالم التي لاقاها ويلاقيها الإنسان الضعيف المشرد في فلسطين والعراق وسوريا والصومال وعدد من الدول إفريقيا وآسيا وغيرها من البلدان في هذا العالم المعاصر.
وأي حقوق للإنسان هذه التي يمكن الحديث عنها، وقد تجاوز عدد الفقراء المعدَمين في العالم المليار من البشر يعانون الجوع ونقص التغذية وهم معرضون للموت بسبب ذلك، بل إنه في كل عام يضاف إلى مجموع الجائعين على هذا الكوكب الذي نعيش فيه أربعون مليون جائع جديد.
وما ذلك إلا بسبب الجشع والطمع والرغبة الجامحة في الاستئثار بالخيرات والتحكم في موارد الغذاء لدى من يتحكمون في الأسواق العالمية ويستولون على ثروات الشعوب، ويحرصون على السيطرة على مقاليد العالم.
أيها المؤمنون..
في العاشر من شهر ديسمبر من سنة 1948م، أصدرت هيئة الأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والحقيقة أن هذا الإعلان وُلِدَ ميتا، بل وُلِدَ سَقْطا مُشَوَّها، لأن الدول التي وقَّعت الإعلان كانت كلها في ذلك الحين دولا استعمارية استعبدت الإنسان وقهرت الشعوب ونهبت خيراتها وثرواتها، بل إن من مهازل التاريخ أنه في تلك السنة نفسها التي وقع فيها إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تم انتهاك أكبر حق إنساني في هذا العصر، ألا وهو حق الفلسطينيين في بلادهم وأرضهم، حيث قامت العصابات الصهيونية بطرد الشعب الفلسطيني من أرضه ووطنه لتؤسس دولة إسرائيل التي اعترفت بها مباشرة الدول التي وقعت على الإعلان.
وخلال الستة والستين سنة الماضية، والتي تلت صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، شهد سجل هذه الحقوق خروقات رهيبة وتجاوزات مهولة، ارتكبها موقعو الإعلان أنفسهم، أي الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ومعظم هذه الخروقات وقعت في المنطقة العربية والإسلامية دون غيرها، وكأن الإنسان المسلم والعربي غير معني بحقوق الإنسان التي تضمنها الإعلان، وإنما هي خاصة بالإنسان الغربي أو الموالي للغرب في عقيدته وفكره وسلوكه.
ولعله من نافلة القول وتكرار الحديث؛ التذكيرُ بما ارتكبته فرنسا من مجازر بشعة في الجزائر خاصة وأقطار المغرب العربي وإفريقيا عامة، وما فعلته بريطانيا في البلاد التي كانت تحتلها، وما فعله الصهاينة في فلسطين ولبنان، وما فعله الصرب في البوسنة والهرسك، وما فعله الروس في الشيشان وقبل ذلك في جمهورية الاتحاد السوفياتي سابقا، وما فعله الأمريكيون في حق الشعب العراقي وغيره من الشعوب الإسلامية، وما فعله البوذيون المتطرفون في بورما والصليبيون المتعصبون إفريقيا الوسطى من مجازر تصفية وإبادة بحق المسلمين فيهما.
قال تعالى: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ).
مجازر رهيبة وجرائم فاجعة ذهب ويذهب ضحيتَها ملايين المسلمين، دون جريرة ارتكبوها ولا ذنب اقترفوه، فعن أي حقوق إنسان يتحدث هؤلاء الغربيون؟
(يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ).
والغريب أنه ما يزال كثيرون من المسلمين المغفلين المفتونين بالغرب ودعاويه الكاذبة يصدقون أن الغربيين يؤمنون بحقوق الإنسان ويعترفون بها للآخرين، وكأن هؤلاء المغفلين لا يعيشون في هذا العالم ولا يشاهدون ما يحصل فيه.
والأغرب من ذلك أن يصدقوا التهم التي تُكال للمسلمين وتصفهم بأنهم أعداء حقوق الإنسان، وتصف دينهم الحنيف بمعاداة حقوق الإنسان. مع أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي قدس حقوق الإنسان وجعل الإيمان بها وعدم انتهاكها جزءا لا يتجزأ من العقيدة، ومع أن المسلمين هم وحدهم الذين أثبت التاريخ أنهم احترموا حقوق الناس في البلاد التي فتحوها وحكموها، واحترموا حقوق غير المسلمين الذين يعيشون داخل المجتمع الإسلامي، وهو ما شهد به الأعداء قبل الأصدقاء.
أيها المؤمنون..
اعلموا أن الحضارة الغربية المسيطرة على العالم في العصر الحديث، حين رفعت شعار حقوق الإنسان وأصدرت دولها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لم تكن تعني بالإنسان سوى الإنسان المنتمي إلى هذه الحضارة، أما غيره من أجناس بني الإنسان فليسوا معنيين بهذه الحقوق.
ولذلك تجد هذه الدول الغربية تُعنى بحقوق الإنسان في بلدانها، بحيث تحفظ للإنسان الغربي كرامته وتحرص على أن توفر له كل ما يحتاج إليه لتحقيق عيش كريم وحياة مرفهة، لكنها إذا تعاملت مع غيرها من البلدان التي لا تنتمي إلى عالم الغرب، وخاصة البلدان العربية والإسلامية، تجد الإنسان آخر ما يمكن أن تفكر فيه أو في حقوقه أو كرامته.
قال عز وجل: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ).
والدليل على أن هذه الحضارة لا تؤمن بغير الإنسان الغربي؛ حرصُها المستمر على امتصاص طاقات وخبرات الشعوب الأخرى، المادية منها والبشرية على سواء.
والسياسة الغربية تجاه العالم الإسلامي معروفة ومكشوفة وليست مما يَخفى أو يُخفى، فالطاقات الهائلة التي تزخر بها مناطق المسلمين كلها موجهة لخدمة الغرب وما بقي منها تحت الأرض مرشح هو الآخر لأن تصب في مخازن الدول الغربية، وأموال المسلمين التي يحصلون عليها في مقابل ذلك تبقى كلها في البنوك الغربية ليتم الاستيلاء عليها وقت الحاجة، وفي كل الحالات لا يستطيع المسلمون استعمال هذه الأموال إلا فيما يرضاه الغرب ويقبل به.
وكذلك الحال بالنسبة للطاقات البشرية، فعلماء المسلمين ومهندسوهم وخبراؤهم لا يمكنهم أن يجدوا ملاذا لتحقيق ذواتهم وتوظيف طاقاتهم الإبداعية إلا في الغرب أين يجدون أنفسهم يقدمون خبرات علمية وتقنية تتحول في النهاية لتضر بالبلدان التي ينتمون إليها والشعوب التي ينحدرون منها.
ومعروفة سياسة الكيل بمكيالين التي ينتهجها الغرب مع المسلمين، حيث إذا تعرض آلاف المسلمين للإبادة والتشريد وتعرضت بلادهم للاحتلال اعتُبر ذلك أمرا عاديا ولا يثير أي مشكلة، ولا يحظى بأي تنديد من قبل أي منظمة دولية أو دولة غربية، بل إن هؤلاء المسلمين المظلومين إذا قاوموا ما يتعرضون له من ظلم وتعسف اعتُبروا ظالمين ومجرمين، وتحركت الترسانة الإعلامية الغربية لتشوه صورتهم وتظهرهم في مظهر القتلة المتوحشين.
بعكس ما لو تعرض غربي واحد لأدنى أذى، إذ تتحرك الدنيا كلها حينئذ لتندد بانتهاك حقوق الإنسان، بل ربما تحركت جيوش بأسرها لنجدته ودفع الأذى عنه.
هذا هو الغرب وهذه هي حقيقته التي غفلنا أو تغافلنا عنها، وهذا هو موقفه الثابت والمستمر منا ومن كل ما يمت بصلة إلى ديننا وحضارتنا وتاريخنا، عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم وادعوه يستجب لكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك يا إلهنا لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، محمد أشرف الخلق وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداهم وسلك سبيلهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المؤمنون الكرام..
على خلاف الفكر الغربي وفلسفته في شأن الإنسان وحقوقه، قرر دينُنا الإسلامي العظيمُ أن الإنسانَ – أي إنسان – مخلوقٌ مكرَّمٌ من قبل ربه وخالقه عز وجل، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).
ونظر الإسلام إلى الإنسان على أساس أنه إنسان، في أي أرض كان، ومن أي لون كان، وبأي لسان كان منه البيان، لأن الله تعالى هو خالق الجميع، قال سبحانه: (وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ).
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
ثم إن الناس في نظر الإسلام سواسية من حيث الكرامة الإنسانية، حتى اختلاف الدين لا يؤثر في القيمة الإنسانية العامة، قال عليه الصلاة والسلام في خطبة حجة الوداع: “كُلُّكُمْ لآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ”.
وعنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: “أَلَيْسَتْ نَفْسًا”.
والإنسان في نظر الإسلام مخلوق حر ولا يجوز أن يكون عبدا لغير ربه عز وجل، قال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ).
وقال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
“متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”.
لقد ضمن الإسلام للإنسان حق الحياة، فقال تعالى:(مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
وقال سبحانه:)وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
وضمن له حرية العقيدة بقوله عز وجل:(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).
وبقوله سبحانه: )إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا).
وقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).
وألزم المسلمين باحترام عقائد غيرهم وعدم التعرض لها بالذم، فقال تعالى:(وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ).
واعتبر دينُنا الحنيف أن الناس جميعاً متساوون في الحقوق الإنسانية، وأن الأفضلية فيما بين المسلمين أنفسهم إنما تعتمد على التقوى لا على معيار آخر، لقوله سبحانه وتعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ).
وقوله عز وجل:(وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا).
ولقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى).
ولقد قدس الإسلام الحنيف حرمة الإنسان، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: “كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ”.
وهذا ليس فيما بين المسلم والمسلم فقط، وإنما حتى بين المسلم وغيره، إذ لا يجوز لمسلم أن يعتدي على غير مسلم أو يهضم حقه وإن كان عدوا، لقوله تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
كما قدس دينُنا الإسلامي العظيم حرية الكلمة وشجع على قول الحق والصدق لقوله سبحانه وتعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلاْمْرِ).
وفي آية أخرى (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ).
ولقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: “إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”، وقال الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه: “أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيتُ الله فلا طاعة لي عليكم”..
أيها المسلمون..
لقد جاء الإسلام الحنيف ليحافظ على حقوق الإنسان كلها، المادية والمعنوية، الدينية والدنيوية، العقلية والجسدية، واعتبر هذه الحقوق من الضروريات التي جاءت الشريعة للمحافظة عليها، وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الإسلام يرتفع بهذه الحقوق من مجرد حقوق ويرتقي بها ليجعلها واجبات ينبغي المحافظة عليها وحمايتها بكل وسيلة.
فالتعلم مثلا، هو حق أساسي من حقوق الإنسان، ولكنه في الإسلام واجب أكيد، لقوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا).
ولقوله عليه الصلاة والسلام: “طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِم”.
وإذا كان تملك المال حقا في كل ملة، فإن المحافظة عليه واجب، لقوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ”.
وإذا كان نقد المخطئ أو المنحرف حقا للإنسان في الغرب، فهو في الإسلام واجب اجتماعي منوط بكل مسلم، يدخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تُودع منها).
ويدخل في باب النصيحة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر الدين كله، قال عليه الصلاة والسلام: “الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ”، قال الصحابة رضوان الله عليهم: لِمَنْ يَارَسُولَ اللهِ؟
قَالَ:
“للهِ، ولكتابه، ولِرَسُوْلِهِ، وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِيْنَ، وَعَامَّتِهِمْ”.
إن هذه التعاليم الإسلامية في باب حقوق الإنسان لم تكن مجرد حبر على ورق، كما كان الحال بالنسبة لمواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإنما وجدت طريقها إلى التطبيق خلال قرون عديدة، وكان المسلمون ينفذونها باعتبارها دينا يجب الالتزام به، تماما كالالتزام بأركان الإسلام من صلاة وزكاة وصيام وحج.
فلنعتز ـ أيها المؤمنون- بديننا ولنحرص على الالتزام بأحكامه وتعاليمه، ففيها وحدها الضمان لحصول كل إنسان على حقوقه، وعدم اعتدائه على حقوق غيره: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه..
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان.
اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه وليك، ويذل فيه عدوك.
اللهم وفق قادة المسلمين إلى اتباع كتابك وسنة نبيك، اللهم اهدهم إلى الخير وإلى صراطك المستقيم.
اللهم بصرهم بالحق وأعنهم على العمل به يا رب العالمين.
اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا..
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا..
اللهم اجعل يومنا خيرا من أمسنا، واجعل غدنا خيرا من يومنا، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وصل الله وسلم وبارك على عبدك ونبيك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
آمين، آمين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).