غبت عن قرّائي الكرام قريبا من شهر، وغبت عن الجزائر الحبيبة قريبا من نصف الشهر، وكان سبب هذا الغياب هو وجودي في البقاع المقدسة لأداء العمرة، التي تكرمت بها عليّ وعلى أم أولادي “وكالة دنية للسفر والسياحة” بمدينة البليدة، فلها مني الشكر الجميل، ومن الله – عز وجل- الأجر الجزيل.
بدأنا بزيارة المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام، وذلك يوم الأربعاء 19-12-2018ـ وقد نزلنا في فندق “دار الإيمان”، وهو فندق نظيف، وقريب من المسجد النبوي، ولا عيب فيه إلا ضيق الغرفة التي سكنتها مع ابنتيّ وأمهما، حيث كنا نتحرك فيها بصعوبة..
وفي يوم الخميس 20-12-2018 بدأت ألتقي ببعض الإخوة الأساتذة الجزائريين المقيمين في المدينة المنورة، خاصة الأخ العزيز بورحلة عبد العزيز، والأخ الفاضل بكلي يحيى، الذي دعاني – مع بعض الإخوة- للعشاء في بيته العامر.
رغم قيمة العشاء المادي ولذته، فقد كانت قيمة الغذاء العلمي في نفسي أكبر وأشهى، وما هذا الغذاء إلا ما أهداه إليّ، وهما كتاباه “العلماء الجزائريون المدرّسون في المسجد النبوي، من العصر المملوكي إلى يومنا هذا”، و”قصة المعلومات، أو ماذا يعني انتمائي للقرن الحادي والعشرين.”
والدكتور يحيى بكلي هو سليل أسرة علمية كريمة، ولد في غرداية، وتخرج في جامعة أبي القاسم سعد الله بمدينة الجزائر، وهو حاليا أستاذ في جامعة طيبة بالمدينة المنورة، وله نشاط علمي عالمي، حيث حاضر في ملتقيات عالمية في كل من دلهي الجديدة، وأوكسفورد، وبيكين، وبرلين، وتونس، والنرويج، وأنقرة، وإسطمبول، والرياض، وأبي ظبي، وباريس.
ترجم الدكتور يحيى في كتابه “العلماء الجزائريون المدرّسون في المسجد النبوي..” لأربعة وعشرين عالما ابتداء من الشيخ إبراهيم بن رجب بن حماد التلمساني (ت 755 هـ/ 1354 م) وانتهاء بالشيخ أبي بكر جابر الجزائري البسكري، الذي توفاه الله – عز وجل- في السنة الماضي. وقد بلغ عدد صفحات الكتاب أربعا وثمانين وثلاثمائة صفحة، يضاف إليها بعض الصور النادرة لبعض أولئك العلماء المجهولين في الجزائر خاصة كالشيوخ محمد بن سالم العقبي، وحميدة بن الطيب بن سيدي إبراهيم الغول، ونعمان بن دحمان، وعمار الأزعر القماري، وعبد القادر بن أحمد الجزائري، وأبي بكر جابر الجزائري، ومحمّد العربي التبّاني.
وقد بذل الدكتور يحيى وقتا طويلا لجمع مادة الكتاب “أكثر من أربع سنوات ونصف”، معترفا بأننا “نحن الجزائريين ضعفاء في كتابة السير، والتسويق لكتبنا وعلمائنا” [ص 26 ]
وقد ذكر المؤلف أن من أهداف تأليفه هذا الكتاب هو “إعادة بعث هذه الرموز في الأمة كخطوة أولى لبرمجة الأجيال على صناعة العلم والعلماء والفكر والمفكرين” (ص 24)، وذلك لما لاحظه من “أن الجزائر لم تنطلق بعد انطلاقة صحيحة لصناعة نهضة محترمة جديرة بتاريخها، ودولة قوية جديرة بشعبها”. (ص 24]
لقد تعلقت قلوب كثير من الجزائريين بمكة والمدينة لأنهما موطن الإسلام، وأحب البقاع إلى الله – عز وجل- وإلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فاستقر كثير منهم فيهما، وقضوا فيهما نحبهم، ولما حلّت كارثة الكوارث ومصيبة المصائب وداهية الدواهي بالجزائر والجزائريين باحتلال الفرنسيين لأرضهم، آثر بعض الجزائريين أن يتركوا الجزائر استنكافا منهم أن يخضعوا لفرنسا الصليبية، عدو الإسلام والمسلمين.
ولم يقتصر نشاط العلماء الجزائريين في المدينة المنورة على تدريس مختلف العلوم الإسلامية من تفسير وحديث وسيرة وعقيدة وفقه، بل إن منهم من تولى الإمامة في محراب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- والخطابة على منبره، والإفتاء للمسلمين في مختلف القضايا الدينية أو الدنيوية.
والجميل في عمل الدكتور يحيى هو اجتهاده الكبير في تذليل كل ترجمة بقائمة هامة من المراجع حتى يسهل على الباحثين مواصلة البحث فيما أثاره من أسئلة عن بعض أولئك العلماء.
ومما تساءل عنه المؤلف هو “ماهو سر إغفال الحفناوي- في كتاب تعريف الخلف برجال السلف- لترجمة محمد حمدان لونيسي؟” (ص 207) رغم أن الشيخ حمدان “كان ممن ساعده – الحفناوي- في إنجاز موسوعته” (ص28)، ولا سبب في رأيي لهذا التجاهل إلا “داء الوظيفة” كما يقول الكاتب المصري أحمد حسن الزيات، فالمعروف عن الحفناوي أنه كان موظفا عند الحكومة الفرنسية، وما كان له أن يثير عليه “شبهة” عند فرنسا بالكتابة عن “المغضوب عليهم” منها.. وليس الشيخ حمدان الونيسي هو الوحيد الذي تجاهله الحفناوي، بل تجاهل غيره كالشيخ محمد بن علي السنوسي، والأمير خالد، والإمام ابن باديس.
كما أشار الأخ يحيى في كتابه إلى ما اعتبره تناقضا في شخصية الشيخ عبد الله غانم الدراجي، الجامع بين مشيخة الطريقة ونصرة السنة في ذات الوقت (ص29).. وإن كنت لا أرى في ذلك تناقضا مادام الأمر منضبطا بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وفي تاريخ المسلمين كثير من الأعلام جمعوا بين الأمرين.
أكرر شكري للأخوين الكريمين عبد العزيز بورحلة ويحيى بكلّي وكل من رحبوا بي في مدينة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وأشهد أنهم كانوا سفراء حقيقيين للجزائر بأخلاقهم الحسنة، وعطائهم العلمي الطيب.. وأرجوهم أن يقتدوا بالإمامين عبد الحميد ابن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي اللذين اعتبرا أن المعركة الحقيقية هي في الجزائر، حيث رجعا لمواجهة المخطط الفرنسي الصليبي، وكذلك على هؤلاء الإخوة في المدينة المنورة وفي مكة المكرمة أن يتذكروا أن “المعركة” الحضارية الآن في الجزائر هي ضد من سماهم الأخ ناصر يوسف في كتابه المسمى “التجسيم الحضاري من منظور التنمية المركبة” بالمحكومين بـ”القابلية للإرث الاستعماري”، وإن سموه كذبا أو انخداعا “غنيمة.”