الرئيسية / مقالات و دراسات / مقالات جزائرية / استقبال شهر رمضان – الأستاذ الدكتور مسعود فلوسي

استقبال شهر رمضان – الأستاذ الدكتور مسعود فلوسي

Print Friendly, PDF & Email

نستقبل هذه الأيام ضيفا كريما وزائرا عزيزا، لطالما اشتاقت النفوس إلى ملاقاته وتطلعت الأرواح إلى معانقته؛ إنه شهر رمضان المبارك.

لقد اختار الله عز وجل هذا الشهر واصطفاه من بين الشهور، وميزه بأن بدأ فيه تنزيلَ كتابه الخالد وكلامه المبين على رسوله الكريم محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ثم ميزه ثانيا بأن ذكر اسمه صريحا في هذا الكتاب، وميزه ثالثا بأن كتب فيه على عباده المؤمنين عبادة الصيام، وهذه مزايا وخصائص لم يحظ بها شهر آخر من شهور العام، وهي المجموعة في قول الله تعالى: ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)).

إن هذا الشهر العظيم الفضيل المبارك، بما اصطفاه الله به من مزايا واختصه من خصائص، له علينا حق..

وحقه علينا؛ أن نفرح بقدومه ونستبشر بعودته، ونستعد لاستقباله استعدادا خاصا يليق بمكانته وخصائصه..

إن الاستعداد المطلوب من المؤمن الصادق لاستقبال شهر رمضان، هو الذي من شأنه أن يسمو بروحه إلى الأعلى ولا ينزل بها إلى الأسفل، الاستعداد الذي يرفعه إلى مقام الملائكة ويعلو به فوق عالم الشهوات والملذات الفانية، الاستعداد الذي يعوضه عن اللذات المادية التافهة بلذات روحية ملائكية علوية باقية خالدة.

إنه الاستعداد بتجديد الإيمان وتوثيق الصلة بالله عز وجل، والإيمان دائما يحتاج إلى تجديد في نفس المؤمن حتى يظل تأثيره قائما في حياته وظاهرا في سلوكه ومعاملاته.. روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: (أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ).

ولا شك أننا جميعا، نحن المؤمنين، بحاجة إلى أن نرفع مستوياتنا الإيمانية، فليس فينا من يمكنه أن يدعي أن إيمانه في مستوى عال يؤهله لأن يستقبل شهر رمضان الاستقبال الذي يليق به والذي هو في مستوى عظمة هذا الشهر ومكانته عند الله عز وجل.

ولذلك فليس أمامنا إلا أن نتواصى جميعا بتجديد الإيمان والرفع من درجاته في نفوسنا حتى نتأهل للاستعداد الأمثل لاستقبال شهر رمضان، ونترقى إلى درجة تمكننا من تلقي فيوضاته والنهل من أنواره وبركاته.

ولعل سائلا يسأل فيقول: وكيف لي أن أجدد إيماني، وما السبيل إلى أن أرفع مستواه في قلبي؟

والجواب؛ أن تجديد الإيمان يكون أولا بأن نتذكر الهدف الذي خلقنا الله عز وجل وأوجدنا على ظهر الأرض من أجل تحقيقه، وهيأ لنا من النعم والأسباب والخيرات والبركات ما يعيننا عليه، هذا الهدف الذي كثيرا ما نغفل عنه وننساه، بل ربما أغلقنا أبصارنا وبصائرنا حتى لا تراه أو سددنا آذاننا حتى لا تسمع من يذكرنا به، هذا الهدف الذي نص الله عز وجل عليه في كتابه الكريم، إذ قال سبحانه وقوله الحق المبين: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)).

كثيرون منا ينساقون وراء مطالب الدنيا إلى درجة يغفلون فيها تماما عن حقيقة وجودهم في هذه الحياة وعن المصير الذي ينتظرهم في الآخرة.

والحقيقة أن مغريات الحياة الدنيا لا تنتهي، ولو حاول الإنسان طول حياته أن يجمعها أو يحصلها لم يمكنه ذلك أبدا ولهلك قبل أن يصل إليها.

وقد وصف الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم هذه الدنيا الفانية، فقال عز من قائل: ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)).

ولذلك فمن الواجب على المؤمن أن يأخذ من الدنيا ما هو بحاجة إليه من طرق الحلال وأبواب الخير، أما أثقالها ومغرياتها وكمالياتها التي لا تنتهي فهذه عليه أن يتخفف منها ما استطاع إلى ذلك سبيلا حتى يدخر من وقته وجهده ما يمكنه من التقرب إلى ربه عز وجل بالطاعة والعبادة، ممتثلا أمر الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)).

وأمْرَ رسوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ)، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: “إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ”.

فأول ما يستقبل به المؤمنُ شهرَ رمضان إذن، هو تذكر حقيقة الحياة وهدف الوجود..

أما ثاني ما ينبغي أن يستقبل به المؤمن الصادق شهرَ رمضان الكريم؛ فهو التوبة النصوح التي أمر الله عز وجل بها عباده المؤمنين في قوله سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).. والتوبةُ النصوحُ؛ أن يترك الإنسانُ ما هو فيه من ذنوب ومعاص، وما يخوض فيه من لغو ولهو، وما يحرص عليه من متع وشهوات، ويندم على ما بدر منه من أخطاء وسيئات، ويعزم على عدم العودة إليها ما دام حيا..

كما أن من التوبة النصوح؛ الندم على التقصير في طاعة الله عز وجل وعبادته وحفظ حقوقه، والشعور بالإثم بسبب ذلك، والعزم على القيام بحقوقه سبحانه وتعالى والتفاني في ذلك في مقبلات الأيام..

هذه التوبة النصوح هي المدخل الكريم إلى استقبال شهر رمضان العظيم، إذ هي وحدها سبيل الفلاح والنجاح، كما قال تعالى: ((وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)).

ومما ينبغي أن يستقبل به المؤمن شهر رمضان الكريم أيضا؛ العزمُ على اغتنام لحظاتِه وأوقاتِه بالتقرب إلى الله عز وجل وكثرة التوجه إليه سبحانه وتعالى بالعبادة والطاعة، من قراءة للقرآن وذكر لله عز وجل وحرص على صلاة التراويح ومطالعة لكتب العلم وبذل ما أمكن من الصدقات، وأن يحاول قدر استطاعته أن يتقن هذه الطاعات والعبادات.

ذلك أن رمضان فرصة لتعويد النفس على أنواع القربات والطاعات ليواظب عليها المؤمن في بقية شهور العام، فلا ينتهي رمضان إلا وقد أخذ حظه منه وتزود بزاد من الأعمال الصالحة التي تربت عليها نفسه وتدربت عليها جوارحه.

شهر رمضان فرصة عظيمة يجدر بالمؤمن أن يستغلها في التقرب من ربه عز وجل وتحقيق مرضاته ونوال مغفرته، وإضاعة هذه الفرصة معناه حرمان النفس من تصحيح العلاقة بالله عز وجل وتمتينها وتوثيقها، وهو ما يعني الانغماس في الشهوات وطاعة النفس الأمارة بالسوء والانسياق مع وساوس الشيطان وإملاءاته.

إن المقصد الأساس من تشريع الصيام هو تحقيق التقوى، كما قال سبحانه وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)).

والتقوى هي الحرص على مرضاة الله عز وجل ومغفرته ورحمته، وسبيل ذلك الامتثال لأوامره والبعد عن مناهيه، ولا يتحقق ذلك إلا بمجاهدة النفس وحملها وتعويدها على فعل الطاعات واجتناب المنكرات.

وشهر رمضان بما يهيئه من أجواء روحية عالية وما يبثه في النفس من سكينة وطمأنينة، من شأنه أن يكون بمثابة محطة للتزود برصيد من التقوى يعين الإنسان على الثبات على الطاعة والبعد عن المعصية خلال شهور العام الباقية حتى يعود شهر رمضان من جديد في السنة الموالية.

عن عمار رقبة الشرفي

- مجاز في القراءات العشر المتواترة من طريق الشاطبية والدرة. - مجاز في الكتب التسعة بالسند المتصل وبعدد من كتب الحديث الشريف. - شهادة تخرّج في العلوم الشّرعية والعربية من معهد بدرالدّين الحسني بدمشق. - شهادة الدّورة التّأهيليّة للدّعاة. - إجازة تخرج (ليسانس) من معهد الدّعوة الجامعي (فرع دمشق) في الدراسات الإسلاميّة والعربيّة. - ديبلوم ماجيستير في الفقه المقارن (تحقيق جزء من كتاب عيون الأدلّة - للقاضي أبي الحسن علي بن أحمد المالكي البغدادي المعروف بابن القصار (ت :398هـ - 1008م- قسم المعاملات. - مؤسس ومدير معهد اقرأ للقرآن وعلومه، باب الزوار- الجزائر العاصمة http://iqraadz.com/ - المؤسس والمشرف العام على موقع المكتبة الجزائرية الشّاملة http://www.shamela-dz.net/

شاهد أيضاً

الشيخ العثماني في ذمة الله تعالى – الأستاذ محمد الهادي الحسني

“كل شيء هالك إلا وجهه”، “ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام”، ذلك قضاء من له …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *