اسمه ونسبه وأسرته:
هو أبو عبد الله، محمد بن محمود بن محمد بن حسين بن محمد بن عيسى الأزميتلي (أو الأزميرلي) الجزائري، الحَنَفي، الأَثَري، الشهير بابن العُنّابي[1].
وُلد سنة 1189 -كما ذكر عن نفسه- في الجزائر.
ونشأ في أسرة عريقة في العلم والوجاهة؛ فأبوه محمود من علماء الحنفية وأحد أعيان البلد (ت1236)، وكان جدّه محمد قاضيَ الحنفية بالجزائر (ت1203)، وأبوه حسين كان مفتي الحنفية بها، ولقبه شيخ الإسلام، وله تفسير (ت1150)، وأخوه لأمّه الشيخ مصطفى العنّابي كان من فقهاء الحنفية كذلك، وله مؤلفات (ت1131).
يرجع أصل الأسرة إلى نواحي تركيا، التي نزحت لعُنّابة، ثم استوطن بعض أجداد المترجم مدينة الجزائر.
شيوخه:
لعل شيخه الأكبر هو والده، فقد قرأ عليه من القرآن، وتلقى عنه الفقه الحنفي، ومختلِفَ العلوم المتداولة، وقد تلقى عنه أيضاً صحيحَ البخاري قراءة وسماعاً لجميعه، وأجازه.
وقد أدرك المترجم جدّه محمداً، وسمع عليه قطعة من صحيح البخاري، وحصل على إجازته.
ومن أكبر شيوخه مفتي المالكية علي بن عبد القادر بن الأمين، فمما قرأ عليه: بعض صحيح البخاري، وجملة من صحيح مسلم، وتلقى عنه بعض المسلسلات، وأجازه.
وأخذ عن الشيخ حمودة بن محمد المُقَايسي الجزائري، وروى عنه الحديث المسلسل بالأولية.
وأخذ بالجزائر عن الشيخ محمد جكيكن (بمعنى الصغير).
وذكر عبد الحميد بك في تاريخه (173) أن محمد صالح البخاري الرضوي لما اجتاز الإسكندرية أجاز المترجم.
مسيرة حياته وأعماله:
وُلّي المترجم القضاء سنة 1208 وهو دون العشرين، ولم تمضِ سنتان حتى عَزَل نفسه، وذلك أنَّ والي الجزائر الداي حسن باشا كان ألزمه بأمر مخالف للشرع، وهذا يدل على ورع المترجم وقوته في الحق.
ثم عاد للقضاء بعد عدة أشهر، واستمر إلى سنة 1213، وفيها توفي مفتي الجزائر، فتولى مكانه، وذلك إلى سنة 1236، مع وجود تقطع يسير، ووظائف أخرى: كالسفارة للمغرب ونقابة الأشراف.
وفي سنة 1236 حج المترجم مع والده برفقة محمد أفندي -أخي الداي حسين باشا والي الجزائر- وفي طريق العودة استقر المترجم في الإسكندرية[2]، ثم توجّه للقاهرة، وبقي يدرّس ويفيد في الأزهر نحو تسع سنوات، وأخذ عنه عدد من العلماء، منهم العلامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، والشيخ إبراهيم السقا.
وفي أواخر سنة 1244 أرسل له حسين باشا والي الجزائر سفينة خاصة يطلبه للمجيء، فذهب إليه، وفي طريقه مرَّ بتونس، وأخذ عنه بعض علمائها، ووصل إلى الجزائر أوائل سنة 1245، وفيها قدّمه الوالي، وقلّده الإفتاء من جديد.
مرحلة الجهاد:
كانت المرحلة التي عاش فيها المترجَم مرحلةَ ضعفٍ وانحطاط في البلدان الإسلامية في مختلف المناحي، وكانت الجيوش الصليبية في أوربا تتربص للانقضاض، وباتت نياتهم واستعداداتهم جلية.
وكان المترجم ممن تنبه لهذه الأخطار المحدقة بالأمة، فكان من أوائل المنادين لتقوية الجيش المسلم، وإعداده، وتنظيمه، وتحديثه، وإصلاحه، وألّف في ذلك كتابه المشهور: ((السعي المحمود في نظام الجنود))[3] ، وكان ذلك في مصر سنة 1242.
وبُعيد رجوعه إلى الجزائر غزا الفرنسيون البلاد، فقام حسين باشا بتولية المترجم رئاسة العسكر في الوقت الذي كان فيه ضعيفاً، فقاتل المستعمرَ، ولكن انتصر الأعداء الأقوياء في النهاية، وكان أمر الله قدرا مقدوراً.
أقام المترجم في منزله مُظهراً المسالمة، مع تعدد إنكاره على الحاكم الفرنسي الجنرال كلوزيل، ولكنه كان يتواصل مع العربان خفية ويحرّضهم على الجهاد وطرد المستعمر، فلما بلغ المحتل ذلك هاجم الجنود منزله، ولما استشعر هو الهجوم رمى بالمكاتبات والأوراق في بيت الخلاء، ففتشوا المنزل ولم يحصلوا على شيء، فكفّوا عنه، ولكن كانوا متربّصين به، ويصرّحون بخطره عليهم وتأثيره في البلاد وتحريضه للأهالي، وقاموا باستدراجه في الكلام –بإرسال من يتجسس عليه- حول مقدرته على تسلُّم زمام الحكم وتنظيم جيش كبير يبلغ ثلاثين ألفاً، فسُجن، وحصلت منهم الإهانة له ولأسرته، وأمر الجنرال الفرنسي كلوزيل بنفيه فوراً، ولم يُمهله وقتاً كافياً لترتيب أموره، فاضطر المترجم للرحيل والعودة إلى الإسكندرية.
العودة إلى مصر والاستقرار فيها:
لما عاد المترجم إلى الإسكندرية كان مفتيها الشيخ خليل السعران قد توفي، فقام محمد علي باشا بتعيين المترجم مفتياً للحنفية فيها، وهناك أخذ العلماء عنه من أهل الإسكندرية ومن خارجها، مثل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ الذي زاره سنة 1247، وكذا محمد القاوقجي.
بقي المترجم في الإفتاء حتى سنة 1266 حين عزله عباس باشا بسعي بعض مشايخ السوء، ولذلك قصة، خلاصتُها أن المشكلات كثرت من أرباب الدعاوى بسبب المفتين -على اختلاف المذاهب- وارتشائهم، فتضايق محمد علي باشا أواخر أيامه وأمر المترجم أن يؤلف كتاباً يجمع فيه ما رجح من أقوال الأئمة الأربعة ويُعتمد في القضاء، فألّف كتابه: ((صيانة الرياسة في القضاء والسياسة)).
فلما ولي عباس باشا سنة 1265 سعى بعض المشايخ من أصحاب المصالح الشخصية في إبطال هذا الكتاب، وما زالوا يكيدون له عند الوالي ويتّهمونه زوراً بالعظائم[4] حتى نقم عليه وعزله سنة 1266، وولّى مكانه تلميذه الشيخ محمد البنّا، فأقام المترجم معتزلاً في بيته، حتى وافاه الأجل.
وفاته:
توفي رحمه الله تعالى في ربيع الآخِر سنة 1267، عن ثمان وسبعين سنة، وأرَّخ وفاته الشاعر محمد عاقل بقوله: ((اليوم رمس مفتي الإسكندرية)).
وذُكر أن أسرة المترجم ما تزال حتى اليوم بالإسكندرية، وتُعرف بأسرة المفتي الجزائرلي.
مؤلفاته وآثاره:
ذُكر أن له تآليف كثيرة، ومنها:
1- السعي المحمود في نظام الجنود، وهو أجلّ مؤلفاته وأشهرها[5].
2- صيانة الرياسة ببيان القضاء والسياسة.
3- شرح ((الدر المختار)) (في الفقه الحنفي)، وصل إلى ثلثيه، وقرَّظه عالم تونس محمد بيرم الرابع.
4- العقد الفريد في التجويد.
5- التوفيق والتسديد في شرح الفريد في التجويد.
6- إمعان البيان في بيان أخذ الأجرة على القرآن.
7- شرح التوحيد للبركوي، لم يتمّه.
8- خاتمة في التوحيد.
9- المقتطف من الحديث، اقتطفه من صحيح ابن حبان.
10- المنتقى من الصِّحاح، في الحديث.
11- المنتخب من فوائد المنتقي لزوائد البيهقي للبوصيري، أفادني أحد الفضلاء أنه بخط المترجَم في دار الكتب المصرية.
12- التحقيقات الإعجازية بشرح نظم العلاقات المَجازية، في البلاغة والأدب.
13- رسائل ثماني عشرة في وقف العقار.
14- رسالة في أداء زكاة الفطر.
15- رسالة خاصة بالمرأة.
وله أيضاً فتاوى كثيرة منثورة، وإجازات متعددة[6]، ومراسلات مع العلماء والساسة، وله أيضاً تقاريظ وتعاليق على بعض الكتب.
عنايته بالحديث:
كان المترجم معتنياً بالحديث[7] -موازنة بأهل عصره- محباً له، وكان يُقرئه، ولا سيما صحيح الإمام البخاري، فيظهر أنه أقرأه مراراً، ومما أقرأه أيضا أطراف الكتب الستة، وهذا قد يكون موجوداً عند غيره من معاصريه، ولكن نجده أيضاً أقرأ تلميذه الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في كتاب الأحكام الكبرى لعبد الحق الإشبيلي، وانتخب كتاباً من أحاديث صحيح ابن حبان، وآخر من زوائد سنن البيهقي، وهي كتب متخصّصة قلّ من اعتنى بها في وقته، وله كتاب آخر انتقى فيه من الصحاح، وهذه جهود نادرة في وقت كان فيه علم الحديث غريباً، ثم إن كتابه نظام الجنود جلُّه استدلال بالحديث، ويأتي قريباً نصٌّ منه يدلُّ على اعتماده الدليل الصريح، وقد وصفه الشيخان عبد الرحمن بن حسن وإبراهيم السقّا بأنه أثري، وهذا يسوقنا للإشارة إلى عقيدة المترجم.
عقيدته:
كان رحمه الله أثرياً سلفياً، وحسبُه تزكية إمام عصره العلامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ إذ يقول: ((لقيتُ بمصر مفتي الجزائر محمد بن محمود الجزائري الحنفي الأثري، فوجدتُه حسن العقيدة، طويل الباع في العلوم الشرعية)).
ووردت عنه بعض النصوص والنقول تؤكد اتباعه لمنهج السَّلف، أذكرها فيما يأتي:
موقفه في توحيد العبادة:
يظهر أن المترجم مر بأطوار في هذه المسألة، فلعله كان مثل أكثر أهل عصره نشأ في جو يتساهل ويجوّز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والصالحين، فنجد له نصّ تملكٍ بخطّه: ((تملَّكه الفقير إليه سبحانه محمد بن محمود بن محمد بن حسين الجزائري الشهير بابن العنابي أصلح الله حاله، وأفاض عليه برَّه ونواله، بالنبي وآله، سنة 1228))، وهذا التاريخ لما كان في الجزائر.
ولكن لما استقر في مصر يبدو أن اطلاعه وتحريره المسائل وثقافته قد ازدادت، فنجد هذا الموقف قد تغيَّر[8]، فذكر العلامة عبد الرحمن بن حسن -كما تقدم- أنه لما لقيه بعد سنوات في مصر وجده حسن العقيدة، ووصفه بالأثري، ولقاؤه له بين سنتي 1237 و1241.
ثم قال ابنُه العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ -ولقاؤه بالمترجم كان سنة 1247- في مصباح الظلام (ص287): ((وأما ما ورد في السنن من السؤال بحق السائلين وبحق ممشى الذاهب إلى المسجد ونحو ذلك: فالله سبحانه وتعالى جعل على نفسه حقاً تفضُّلاً منه وإحساناً إلى عباده، فهو توسلٌ إليه بوعده وإحسانه وما جعله لعباده المؤمنين على نفسه؛ فليس من هذا الباب -أعني باب مسألة الله بخلقه-، وقد منعه فقهاء الحنفية، كما حدثني به محمد بن محمود الجزائري الحنفي رحمه الله بداره بالإسكندرية، وذكر أنهم قالوا: لا حق لمخلوق على الخالق)).
وقال عبد الحميد بك في تاريخه (ص190): ((وكان قبل وفاته بمدة يشرح متن البركوي في التوحيد، ووقف قلمه على قول صاحب المتن في حق الصحابة: (نحبّهم ونرتجي شفاعتهم). و[قال] في شرحه: أي لنا في الآخرة)).
ومن الظاهر أن هذا من أواخر مؤلّفاته، فهو يؤكِّد أنه رأيه الأخير.
موقفه بشأن ((الصِّفات)):
ساق أبو القاسم سعد الله في كتابه رائد التجديد (ص30) قسماً من فتوى للمترجم سنة 1226 في مسألة الرؤية، أبان فيها عن اتّباع المترجم لمسلك أهل السنة وأدلتهم، فمما قال فيها: ((ونحن لا نقول به [يعني رأي المعتزلة في نفي الرؤية] لضيق مجاله، فنُسَلِّمُه لأربابه، سالكين مسلك الجمهور من أهل السنّة، لوضوح أدلتهم)).
وفي هذا النص إشارة بأن المرجع هو الدليل.
موقفه من بعض الزنادقة مدَّعي التصوف:
وهناك نص يُلمس منه حزمه وقوة موقفه إزاء بعض الدجاجلة المتستِّرين بالتصوف، فقال ضمن فتوى عن حجاب المرأة: ((..وأما مؤاخاة المرأة في الله بهذا الغرض المحرَّم فإنها من كبائر المعاصي، فإن اعتقدها مع ذلك قُربةً -كما يقع من كثير من الدراويش المتقشفة- فإنه يصير بذلك كافراً مرتدًّا؛ لاستحلاله الحرام القطعي، فإن حرمة النظر إلى موضع الزينة من الأجنبية من الأمور القطعية الثابتة بقوله تعالى: {وَلا يُبْدِيْنَ زِيْنَتَهُنَّ} الآية، وعلى ذلك إجماع الأمة، وهو من ضروريات الدين، ومن استحلَّ الحرام القطعي الذي يعلمه كلُّ أحد من أهل الإسلام فإنه يصير كافراً.
فإن غلبَ فاعلَ ذلك الجهلُ والغباوة فإنه يُزجر عنه وتُكشف شبهته، فإن انتهى فذاك المراد، وإن أبى إلا تمادياً على ضلاله وغيّه فيجبُ على أمراء الإسلام قتلُه وإراحة المسلمين من شره، لظهور زندقته، والزنديق إذا أُخذ قبل التوبة قُتل ولا تُقبل له توبة.
ورفعُ[9] فساد هؤلاء الزنادقة -الذين أدخلوا على الإسلام وأهله أعظمَ الفساد- من أعظم ما يُتقرب به إلى الله تعالى، فهو من أعظم الجهاد، ولا تغتر بما يُظهرونه من الإصلاح والنُّسك؛ فإنه من مكر الزندقة وخداعها، أخزاهم الله، وأبعدهم، وسلّط عليهم من ملوك الإسلام الذابّين عن حمى شريعة سيد المرسلين من يشتّت شملهم ويحسم مادة فتنتهم وشرّهم))[10].
وهذا الكلام القوي يقوله في وقت ساد فيه التصوفُ الغالي من الزنادقة والدجالين، وعظمت بأصحابه البليّة، ولم تقتصر صولتهم على العامة والرَّعاع، بل شاع عدم الإنكار على شطحاتهم ومخالفاتهم الصريحة حتى من كثير من المنتسبين للعلم، وكانوا أداة نخر في المجتمعات الإسلامية، وساعدوا في سقوط بلدان المسلمين تحت وطأة الاستعمار مساعدة مباشرة وغير مباشرة، ولا يحتمل المقام التفصيل[11].
موقفه من الدعوة السلفية الإصلاحية في نجد:
سجّل لنا العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ نصًّا في غاية الأهمية في كتابه مصباح الظلام، فذكر (ص92) -ضمن دفاعه عن الإمام المجدِّد محمد بن عبد الوهاب- أن أهل العلم والفضل في عصره شهدوا له أنه أظهر توحيد الله، وجدد دينه، ودعا إليه، ثم نقل ذلك عن المؤرخ ابن غنام في تاريخه، ثم قال (ص93): ((وكذلك أهل مصر والشام والعراق والحرمين تواتر عن فضلائهم وأذكيائهم مدحه والثناء عليه، والشهادة له أنه جدد هذا الدين، كما قال شيخُنا محمد بن محمود الجزائري رحمه الله تعالى)).
وصِلَةُ المترجَم بالعلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف يظهر منها الموافقة والتقدير، كما دلت النصوص التي وصلت إلينا.
موقفه من الاجتهاد والتقليد:
إن المترجَم عالمٌ في المذهب الحنفي، وقد ألّف فيه، وكان مفتياً أكثر عمره، ولكن يظهر من النقول القليلة التي وصلت إلينا عنه أنه لم يكن متعصباً للمذهب ولا جامداً على نصوصه، فاستدلاله بالحديث والأثر كثير، ولا سيما في كتابه نظام الجنود، وهو ينص على عبارات تفيد الترجيح عنده، وهو يناقش الأقوال الفقهية، بل إنه نص في فتاواه أن التزام مذهب معين ليس لازماً ولا واجباً، وهو يقول: ((إن الواجب على العاميّ تقليدُ عالمٍ لا بعينه، كما يُفيده قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، فمتى فعل ذلك فقد أتى بواجبٍ عليه، فصار خارجاً من العهدة)).
وقد مرَّ بنا أنه ألَّف كتاباً في الراجح من المذاهب المتبوعة[12]، وقد اعتُمد على هذا الكتاب في القضاء مدة، وقد وقف ضده الجامدون أصحاب المصالح الشخصية.
محنته من قِبَل مشايخ السوء:
كثيراً ما يتعرض المُصلح للابتلاءات والمكايد، ولا سيما إن عظمت رتبته في العلم، وكانت له مكانة ورياسة، وكان قويًّا في مواقفه وإنكاره على المتسترين بالدين لأمورهم ومنافعهم الخاصة، وقد اجتمعت لِمُصْلِحنا المترجَم الأمورُ الثلاثة.
ولهذا لا يُستغرب إذا عُلم أن بعض مشايخ عصره آذوه وكادوا له حتى آخر عمره، واتهموه بما يُتّهمُ به أمثالُه المصلحونَ الداعون للسنّة، فقالوا: إنه خارجي زنديق! يسعى لضعف الديانة المحمدية ودُروسها! ولم يكتفوا بالقول، بل سعوا ضدّه عند الحاكم إلى أن عزله! ذكر ذلك عبد الحميد بك في تاريخه (ص190)، وقال: ((وقصدُهم في ذلك ارتزاقهم من الفتاوى على الاختلاف في المذاهب وأقوالها)).
وقد ذَكَر أيضاً أن من أسباب ترك المترجم للجزائر تخوفه من وشايةِ مبغضيه واختلاقِهم رسائلَ على لسانه ضد الفرنسيين؛ فقد كان هو منشغلاً بالتحريض على جهاد المحتلّ الصليبيّ، وهؤلاء يستغلون تسلُّط العدو ويضعون أيديهم في يده لتحقيق مصالحهم الدنيوية وتثبيت أركانهم والتخلُّص من المكدِّر عليهم صفوهم، حتى لو كان أحد رؤوس الأمة والمخاطرين بحياتهم لأجل نصرتها، وما أكثر ما يُعاد التاريخ!
وقال المؤرخ أبو القاسم سعد الله عن المترجم إنه كان ضحية فكره ومساعيه من أجل تحرير قومه من الخرافات والأوهام والتخلف، وهو أيضاً ضحية الاحتلال الفرنسي لبلاده.
من ثناء العلماء عليه:
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: ((لقيت بمصر مفتي الجزائر محمد بن محمود الجزائري الحنفي الأثري، فوجدته حسن العقيدة، طويل الباع في العلوم الشرعية)). (إجازته لابن جلعود، انظر عقد الدرر لابن عيسى 68، وعلماء نجد للبسام 1/189).
وجاء النص عنه أطول في إجازته لعبد العزيز بن مرشد، وفيها: ((وجدته حسن العقيدة، لين العريكة، متواضعاً، طويل الباع في العلوم الشرعية)). (نشر الإجازة الأخ البحاثة راشد بن عساكر في جريدة الرياض عدد الجمعة 6/ذي القعدة/1428)
وقال عبد الحميد بك في تاريخه (190): ((وكان رحمه الله تعالى إماماً فاضلاً، عارفاً بالعبادات والأحكام في المذاهب الأربعة على اختلافها، واختلاف أقوالها، والراجح منها، والضعيف فيها، وعالماً في باقي المنقول والمعقول، والسياسات العمومية والخصوصية الخارجية والداخلية، وله إنشاءات وشعر)).
ووصفه تلميذه إبراهيم السقا أوائل بلوغ المقصود: بـ((كشاف الحقائق، ومنبع الرقائق والدقائق، شيخنا المحفوف باللطف الخفي، محمد بن محمود بن محمد الجزائري الأثري)).
وقال محمد بيرم الرابع: ((إلى حضرة وحيد زمانه، العالم الكبير، والرئيس النحرير، والمقدّم في الفتيا الحنفية بالمشرق بلا نكير، شيخ الإسلام أبي عبد الله سيدي محمد بن محمود العنابي، المفتي الآن بثغر الإسكندرية)).
وقال أيضاً في أبيات يمدح بها شيخه المترجَم:
هُمامٌ له حول السِّماكَين منزل إمامٌ بتحقيق العلوم خبيرُ به كُسِيَ الإسلامُ حُلَّةَ مَجْدِهِ وأضحى له فخرٌ به وسرورُ إذا حَوَّم الظمآنُ حولَ عُلومه يُصادفُه ماءٌ هناك نَميرُ ولو قيل: مَنْ حازَ العُلوم بأَسْرِها؟ إليه جميعُ العالمين تُشيرُ |
وقال أيضاً في تقريظه لشرح شيخه المترجَم على ((الدر المختار)): ((العَلَم النحرير، رضيع لبان العلم والتحرير، مجمع بَحري المعقول والمنقول، كشاف مخدَّرات الفروع والأصول.. العَلَم الأوحد، والطود المُفْرَد)).
ولمصطفى بيرم التونسي أبيات في الثناء العالي على المترجم.
وقال عنه محمد المرسي: ((شيخنا وأستاذنا العالم الرباني)).
وقال إبراهيم بن صالح بن عيسى في عقد الدرر (99): ((الشيخ العالم العلامة مفتي الجزائر)).
وقال عبد الستار الدهلوي في فيض الملك الوهاب المتعالي (3/1811): ((العالم الفاضل، صاحب التآليف النافعة))، ووصفه في موضع آخر (1/131): بالعلّامة.
ذكر بعض الآخذين عنه:
روى عنه عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، وابنه عبد اللطيف، ومحمد بن خليل القاوقجي، ومحمد بيرم الرابع، وإبراهيم السقا، وأحمد بن حسن الرشيدي، وأحمد بن يوسف بن يوسف القنياتي، ومحمد بن محمد مطر العفيفي الشافعي، وعبد الرحمن بن عثمان الدمياطي الغمراوي، وإبراهيم بن حسن الأسعردي، ومحمد بن علي الطحاوي، وعبد القادر الرافعي الطرابلسي، وممن أخذ عنه: أحمد التميمي الخليلي مفتي القاهرة المحروسة، ومحمد البنا مفتي الإسكندرية، وعلي البقلي، وخليل الرشيدي، ومحمد الكتبي، ومحمد الملّاح الإسكندري.
والمترجم ممن أجاز أهل عصره، كما نص في إجازته لمحمد بيرم الرابع.
مصادر هذه الترجمة:
اعتمدت اعتمادًا أساسيًّا على كتابين: كتاب تاريخ عبد الحميد بك، وفيه أهم وأوسع تراجمه الأصلية.
وكتاب: رائد التجديد الإسلامي محمد بن العنابي، تأليف الدكتور أبو القاسم سعد الله، الطبعة الثانية[13]، فغالب ما لم أجعل له إحالة خاصة في الترجمة يكون مقتبساً منه.
ومن المصادر لترجمته: إجازاته المختلفة، التي حقَّقتُ خمساً منها.
والرؤية الفكرية في الحاكم والرعية لدى ابن المقفع وابن العنابي والكواكبي، إعداد: الدكتور عمر بن قينة، طبع دار أسامة، عمّان، الأردن، وكلامه عنه من صفحة (45 إلى 64).
وهدية العارفين (2/378).
والأعلام (7/89).
ومعجم المؤلفين (3/706).
وفيض الملك الوهاب المتعالي (3/1811).
ورأيت في بعض المصادر الإحالة على كتابَي: شخصيات جزائرية، وأعلام الجزائر، ولم يتيسر لي الاطلاع عليهما وقت كتابة هذه السطور.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ضبطه الزركلي في الأعلام (7/89 ط.دار العلم للملايين) بفتح العين، وهكذا ضبطه غير واحد ضبط قلم، ولكن المترجم ضبطها بقلمه بالضم في إحدى إجازاته، ومدينة عُنّابة سمّيت على شجر العُنّاب، وهو بالضم.
[2] يذكر عبد الحميد بك في تاريخه (ص188) أنه حصل في طريق العودة مشاحنة بين والد المترجم وبين محمد أفندي، فتفارقا، ووصل المترجم مع والده للإسكندرية.
ولكن الذي نصَّ عليه المترجم في بعض إجازاته أن أباه توفي في طريق العودة من الحج في بحر السويس سنة 1236، ومن ثم فلم يصل والد المترجم للإسكندرية، فلعل إقحامه في القصة غلط من عبد الحميد بك، وعلى هذا فالمشاحنة والمفارقة تكون بين المترجَم (الابن) ومحمد أفندي.
[3] وهذا الكتاب القيم هو دعوة تجديد وإصلاح في النظم العسكرية والسياسية على هدي الإسلام، وتضمن كتابه -سوى الفصول العسكرية والتنظيمية- فصولا مثل: رحمة الضعفاء وإقامة العدل وردّ المظالم، وإظهار شعائر الدين، واجتماع الكلمة والاتفاق، وجواز تعلُّم العلوم الآلية من الكفرة دون التأثر بهم في الدين والفكر، وتحدث فيه عن أسباب النصر والقوة، وعن أسباب سقوط الدول، التي منها الركون للملذات والشهوات.
ويظهر من مقدمته ومضامينه النَّفَس الإسلامي العزيز، والاستعلاء الإيماني على الكفرة، والدعوة إلى الجهاد في سبيل الله وفي ضوء شريعته.
ولهذا كان ينبغي أن يعدّ المترجم رائد دعوة التجديد الإسلامي في مجاله ومصره، ولكن -نظراً لتسلُّط الأعداء وأتباعهم وتأثيرهم في وقته وبعده- نُسب التجديد لمن تأخر عنه، ممن شابت دعوتهم التأثيرات الغربية على حساب النهج الإسلامي؛ فكانت دعواتهم في الحقيقة تحرّراً من الدين، لا تجديداً فيه.
[4] هذا مع إطباق المنصفين على وصفه بالفضل، وقال معاصره حمدان بن خوجه: ((كان المفتي سيدي محمد العنابي رجلاً نزيهاً فاضلاً))، وأما أعداؤه فوصفهم من أرّخ لهم بالارتشاء والارتزاق والتلاعب، فتأمل!
[5] للكتاب عدة نسخ مخطوطة في تركيا ومصر وتونس (انظر: رائد التجديد ص57-58).
وطُبع الكتاب بتحقيق الدكتور محمد بن عبد الكريم -جزاه الله خيراً- في المؤسسة الوطنية للكتاب بالجزائر سنة 1983م، على نسخة مكتبة السليمانية، قسم: حسين باشا بالرقم 42 (وظنَّها المحقّق بخط المؤلف، وهي تخالف خطه في الواقع)، ونسخة سوهاج، بخطّ محمد المرسي.
[6] حققتُ خمساً منها، وهي معدة للطبع.
[7] قال الزركلي في الأعلام (7/89): عالم بالحديث.
[8] يُؤخذ في عين الاعتبار أن المترجم حج سنة 1236، ثم حج من القاهرة ثلاث مرات أخرى، وكانت مكة المكرمة قبل سنوات من دخوله تحت حكم أهل نجد، وقد انتشرت دعوتهم الإصلاحية السَّلَفية فيها، مع ما نقله المترجم عن فضلاء أهل الحرمين وغيرهم مدحهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب وشهادتهم له بتجديد الدين.
[9] ولعلها: ((دفع)).
[10] رائد التجديد (121-122).
[11] انظر للاستزادة الكتاب القيم: ((الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة)) لعلي بن بخيت الزهراني (1/540-546).
[12] ذكر أبو القاسم سعد الله أنه حصَّل قطعة صغيرة من الكتاب، وأرجّح أنها مسودة أولى، أو أنها المقدمة فقط.
[13] وهذا الكتاب تعب فيه مؤلفه تعبًا ملحوظًا، والتقط شوارد الفوائد من غير المظانّ، جزاه الله خيرا.