من تتبع حياة الإمام وجدها كلَّها مواقف،لأنَّه «رجل » ومن شأن الرجل وطبعه أن يكون مواقف،ولأنَّه «ثورة»،ومن شأن الثورة وطبعها أن تكون هزَّا،ورجَّات،من هنا فإنَّ ما سنعرفه منها قليل من كثير جدا.
في أوائل سنة 1940 بينما كانت رحى الحرب تدور في النرويج،وفرنسا تكاد تندحر فيها،التقى معه في مكتبه بدار التربية والتعليم جماعة من بينهم الشهيد أحمد بوشمال، والشيخ عبد الحفيظ الجنات،فقال الإمام في معرض الحديث عن الحرب الدائرة:
« والله لو كنت متيقنا أنَّه يوجد عشرة من عقلاء الأمَّة يوافقونني على إعلان الثورة على فرنسا لفعلت»
وموقفه البطولي أثناء حوادث أوت 1934 بقسنطينة التي وقعت بين المسلمين واليهود،وقُتل مـن اليهود اثنان وعشرون ومن المسلمين اثنان، شائع ذائع، فقد ظل يجوب الشوارع بنفسه إلى منتصف الليل قصد التهدئة، والدعوة إلى السلام، دون خوف من اليهود، وصدورهم تغلي كالمراجل، ثمَّ كان ضمن الوفد الذي قابل الوالي العام في دار العمالة، وكان أشجع المدافعين عن موقف المسلمين شفويا ثمَّ كتابة.
قبيل الحرب العالمية دُعي من قبل حاكم مدينة قسنطينة فقال له:
إنَّ العالم كما ترى مقبل على الحرب فكيف ترى مصيرها ومصير الجزائر في المعركة؟
فأجابه الشيخ:
« إنَّ الجزائر ثلاث طبقات:
طبقة الأكثرية وقد قتلتم إحساسها بالحياة فلا تفرق بين فرنسا وابن باديس.
وطبقة الأقلية الواعية وقد ملأتم أفواهها بعظم الوظائف تلوكه بين أشداقها، وهي تحسبه غذاء.
وطبقة المعوزين يعيشون للمستقبل ولا خطر منهم على دولتكم اليوم»
– وحدثني أحد تلامذته قائلا:
في درس ما جلس أحد الطلبة في الصف الأول أمام الشيخ وقد لبس برنوسا من نوع «الملف» فتأمله جيدا ثمَّ قال-والابتسامة تعلو محياه-:
أنا والله أفضل أن ألبس البرنوس الذي تحيكه أمي، وليس الذي تنسجه ضرتها، ويعني الإمام –طبعا-تقديم البضاعة الوطنية على الأجنبية.
-وحدثني المرحوم الحاج شريفي عمرو-صاحب المكتبة الجزائرية بشارع باب عزون سابقا-وكان ممن عاشروا الإمام بقسنطينة وعرفوا عنه الكثير وقال ما مؤداه :
خرج الشيخ من مقصورته بجامع سيدي قموش بقسنطينة ذات يوم فطلب من السيد زواوي ميلود-وهو من تجار بني عباس، وممن لهم اتصال وثيق بالشيخ-أن يبحث عمن يشتري له نصف لتر من اللبن وأعطاه آنية، فرآها فرصة لإكرام الشيخ، فذهب بنفسه إلى شواء، واشترى لهÂÂ صحنا من اللحم الطري، فعاد على الشيخ وهو يهتز فرحا، ولمَّا قدَّمه إليه استشاط غضبا، فرفض أن يتناوله، وقال له-في لهجة شديدة حازمة-:
«ألا تعلم أنَّني ابن مصطفى ابن باديس وأنَّ أنواعا مختلفة من الطعام تُعد كل يوم في بيته لو أردت التمتع بالطعام، ولكن ضميري لا يسمح لي بذلك وطلبتي يسيغون الخبز بالزيت وقد يأكله بعضهم بالماء.»
– حدثني المرحوم الشيخ عيسى قدور-وهو من طلبة الشيخ الذين لازموه، وأخذوا عنه وتأثروا به-بما مؤداه وملخصه؛
«جاء إلى الشيخ سنة 1933 أخوان شقيقان من جبل الوحش للدراسة دون علم من والدهما الذي كان من الطرقيين المحاربين للشيخ، لاعتقادهم أنَّه عدو للدين- لأنَّه يحارب البـدع والخرافات التي يعتقدون أنها الإسلام، ولمَّا علم الوالد بأمر ولـديه اسودت الـدنيا في وجهه، وكتب إليهما رسالة تلتهب حنقا وغضبا، يُعْلِمُهما أنَّهما عاقَّان له ومحرومان من إرثه وأنَّه بريء منهما إلى يوم الدين إلاَّ إذا تابا وعادا إلى البيت.»
كانت الرسالة بمثابة صاعقة ارتجَّ لها الطالبان، ولمَّا كانا يعرفان مكانة الشيخ عيسى عند شيخه ابن باديس أسرعا إليه وبثاه حزنهما، فما كان منه إلاَّ أن أطلع شيخه على الرسالة فتأثر بالغ التأثر وقد حزَّ في نفسه أن يُحرم الولدان من نور العلم نتيجة الجهل، وقال له أرجئ الأمر إلى يوم الراحة.
وفي يوم الراحة «الخميس» ذهب الإمام بالولدين رفقة الشيخ عيسى إلى دارهما، فما إن رأى والدهما الإمام حتى اندهش وتأثر وأسرع إليه خطاه وهو يقول:
من أنا حتى يأتيني الشيخ باديس، وأخذ يقبل رأسه في تأثر وانفعال، ثمَّ ترجى الشيخ في عبارات مؤثرة أن يدخل الدار ويتناول الغداء على مائدته فقبل الشيخ ذلك ولكن على شرط أن يرضى على ولديه ويسامحهما.
فقال الرجل:
قد عفوت عنهما، وإنَّهما منذ الآن ولداك ولن يتخلفا عنك، ثمَّ مد يديه إلى السبحة في عنقه فقطعها وهو يقول: لعن الله هذه السبحة التي كانت تدخلني النار.
فقال له الشيخ: إنَّ السبحة لا تضر ولا تنفع، ولم أقل يوما لِمَ تسبحون بالسبحة، وإنَّما أقول اتقوا الجهل فإنَّه أضرب الإنسان من الطاعون.
وبعد تناول الطعام تبرع الرجل للطلبة بعشرة الاف فرنك، وتعهد بهذا المبلغ، وبثلاثين قنطارا من القمح كل عام، وعاد الشيخ الإمام بالولدين ليواصلا دراستهما في هذه «المدرسة» نتيجة هذا السلوك المثالي، والموقف الإنساني، والدرس البليغ.
لا يصح غير الصحيح، ولا يبقى إلاَّ الصالح:
كان الإمام عبد الحميد ابن باديس يواجه طوال حياته أعداء لا يفتؤون -جهد الطاقة- يحاولون تحطيمـه، أو تعطيله على القل، والحيلولة بينه وبين مقاصده.
فهناك الاستعمار الفرنسي بكل قواه، وبكل دسائسه ومكائده.
وهناك العمداء، والخبثاء الذين يسيرون في الطريق الذي خطه المستعمر لا يلتفتون وراءهم.
وهناكالطرقيونالذين يرون الإسلام سَمْتا وسُبحة وجمودا على الوضع المفروض.
ولكن كل هؤلاء كانوا غثاءً جرفها السيل، وباطلا دمغهم الحق، ووهما فضحه الوعي، ذهب كل ذلك وأصبح الآن في خبر كان، فأين الاستعمار الفرنسي؟
وأين الذين ناصروه، وأين الذين يهزؤون من ابن باديس ويسخرون من دعوته الإصلاحية والتحريرية؟
ذهبوا جميعا وبقي الإمام ابن باديس حيا خالدا في القلوب، وفي الجزائر الحرَّة، وفي كل مجال جاهد فيه؛ في القرآن الذي يتلى، وفي العربية التي تدرس، وفي المعالم التاريخية التي تنصب، وفي المراكز الثقافية التي تشيد، وفي المؤسسات الوطنية التي تبنى وفي كل موقف بطولي شهم يوقف في سبيل هذه الأمَّة.
وإذا كان جل أبناء هذا الوطن لم يدركوا الإمام ولم يعرفوه مشاهدةً، وإنَّما عرفوه من خلال أعمـاله ومواقفه، فعليهم أن يمتنوا صلتهم به بواسطة آثاره الفكرية القلمية التي تصور حياته وجهاده أبلغ تصوير وأجلاه.
وإذا كان الإمام قد غيبه التراب عن الأعين شان كل من يفد إلى الآخرة من هذه الأرض، فإنَّ صورته ستظل على آثاره، وعلى ما ينشر من الكتب والصحف والمجلات.
تلك الصورة التي كتب تحتها يوما هذه الأبيات؛
سينحلُّ جثماني إلى التُّرب أصله***وتلتحق الورقا بعالمها الأسما
وذي صورتي تـبقى دليلا عليهما***وإن شئت فهم الكنه فاستنطق الرسما
وعن صدق إحساس تأمل فإنَّ في***ملامح وجه المرء ما يكسب العِلما
سامح أخاك إن ظفرت بنقصه***وسل رحمةً تُرحم ولا تكتسب إثما
فمن استنطق الرسم بعمق النظر اجتلى من ملامحه ومن العينين بالخصوص ارتياح الإمام نفسيا إلى مستقبل الجزائر الباسم الذي لم يأل جهدا في العمل من أجله طوال حياته.
رحم الله الإمام وحفظ وطنه وأمَّته من كل شر وسدد خطى ابنائه على الطريق القويم، إنَّه سميع كريم.