الحرب الظالمة الشرسة التي شنتها فرنسا ضد الجزائر طيلة قرن واثنتين وثلاثين سنة كانت حربا صليبية باعتراف أكابر مجرمي فرنسا أنفسهم، وقد لخص الإمام الإبراهيمي ذلك بقوله: “إن احتلال فرنسا للجزائر كان حلقة من الصليبية الأولى.. (وهو) قرن من الصليبية نجم، لا جيش من الفرنسيين هجم” (الآثار 3/ 163– 164).
ولما أكرم الله عز وجل بنصره الشعب الجزائري بعد ما اشترى نفسه وماله لم يجد هذا الشعبُ المسلم من هو أحقُّ بالتهنئة بهذا النصر المبين غير أخير من حملته رحمٌ، وسعت به قدمٌ، وهو سيد المجاهدين محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فأنشد على لسان المرحوم عبد الرحمان عزيز أنشودة بسيطة المبنى، عميقة المعنى، وهي التي يقول مطلعها:
“أمُحمَّد” مبروك عليك الجزائر رجعت ليك..
إن اللغة العربية هي أبلغُ لسان، إذ تصوغ أكبر المعاني وأكثرها بأصغر المباني، ولذا كان هذا المطلع جوابا على كل الخرافات الفرنسية التي رددها أدباء فرنسا وكتابُها وسياسيوها، ورجالُ دينها ومؤرخوها من أن “الفادي” وهو عيسى، قد حلَّ في الجزائر محلّ “الهادي”، وهو محمد – عليهما الصلاة والسلام- ومن أن الإسلام قد “قُبِر”، وأن “الصليب حطَّم الهلال” كما قال الصليبي جورج بيدو، رئيس حكومة فرنسا ووزير خارجيتها في بداية الخمسينيات… تلك كانت أهداف فرنسا وأمانيّها “تجمهرت أو تدكْتَرت” كما يقول أحد أشرف من جاهد لتسفيه أحلام فرنسا، أعني الإمام الإبراهيمي.
لقد بدأت فرنسا تخطط لاحتلال الجزائر منذ سنة 1572، ومنذ ذلك التاريخ وحملاتها تترى على الجزائر، لموقعها ولثرواتها ولـ”كنز القصبة”، وأخرى تكرهها فرنسا وهي أن الجزائر كانت طيلة ثلاثة قرون “أرض الجهاد” ضد القراصنة الأوروبيين، وكانت شوكة في جنوبهم، وغُصّة في حلوقهم.. وقد كانوا مشاركين معها في غزوها للجزائر في سنة 1830، كما كانوا إلى جانبها – عبر الحلف الأطلسي – في حربها المجرمة 1954 – 1962.
لقد صمد الشعبُ الجزائري في وجه فرنسا طيلة قرن وثُلث قرنٍ بأهواله ومآسيه بسبب عِرقه الأصيل، ودينه المتين، وما اقتطعت فرنسا شبرا من أرضه إلا بثمن منه ومنها.. بل إن معجزة المعجزات هي نقل الجهاد إلى فرنسا نفسها..
إذا كانت فرنسا تمنُّ على الشعوب التي كانت تستعبدها بإعطائها الاستقلال؛ فإنها لا تستطيع زعمَ ذلك بالنسبة للشعبين الجبّارين الفيتنامي والجزائري، وإذا كان للشعب الفيتنامي مسانِدٌ قويٌّ وهو الصين المجاوِرة، والسوفيات المناصِرة، فإنّ جيران الشعب الجزائري أحوجُ وأفقر، ومسانديه أضعفُ ناصرا وأقلُّ أثرا.
على كلِّ جزائريّ أن يحمد الله على هذا النصر، وأن يترحّم على كلّ شهيد من 1830 إلى ضحايا الألغام والإشعاعات النووية، وأن ينام -عند نومِه- بإحدى مقلتيه فقط.