قضى الله ـ عز وجل ـ أن تكون العلاقة بين المؤمنين علاقة أخوّة، فقال: “إنما المؤمنون إخوة”؛ وأن تكون أمتهم أمة واحدة، “وأن هذه أمتكم أمة واحدة”، رغم انتشارهم على هذه الرقعة الجغرافية الواسعة، المعروفة باسم “العالم الإسلامي”.
من دلائل هذه الأخوة وعلامات هذه الوحدة أن تجد هنا أو هناك أسرا أو عروشا أو قبائل تحمل اسما واحدا رغم تباعدها عن بعضها آلاف الأميال، ومهما أنسى لا أنسى ما قرأته في إحدى اللافتات الكبيرة في “أبو ظبي” ـ ديسمبر 1976 ـ وهو: “قبائل الرڤيبات تهنئ الشيخ زايد”، وفور قراءتها ورد على ذهني اسم قبائل الرڤيبات في الصحراء الغربية..
فهذه في مغرب الشمس، وتلك في مشرقها.. ويمكن أن ندخل في الألقاب تحت ما سمّاه أحد قدماء الكتاب “المتفق وضعا المختلف صقعا”، وهو اسم كتاب، ويعني بذلك تلك الأسماء المتفقة في وضعها، ولكنها مختلفة في صقعها، فمدينة المنصورة ـ مثلا ـ توجد في تلمسان، وتوجد في ولاية برج بوعريريج، وتوجد في مصر، وقد توجد مدن أو بلدات تحمل الاسم نفسه في أصقاع أخرى، وكذلك مدينة طرابلس الموجودة في ليبيا وفي لبنان، ومدينة “صيدا” الموجودة في جنوب لبنان، وقرية “صيدا” الموجود في بلدية بني ياجيس، دائرة جيملة، ولاية جيجل.. وهي قريبة من مسقط رأسي..
وما أذكره أن أحد الإخوة الكويتيين كان مهتما بالقبائل العربية، وقد لاحظ أن بعضها لم يعد له ذكر في الجزيرة العربية، فظن أنها انتقلت إلى العراق أو الأردن أو الشام أو مصر.. ولكن لم يجد لها ـ بعد البحث ـ أثرا.. وكانت مفاجأته ـ عند تعيينه للعمل في السفارة الكويتية في الجزائر في أوائل التسعينيات ـ أنه وجد تلك الأسماء أو بعضها في الجزائر.. وقد بدأ ينشر مقالات عن ذلك في جريدة “السلام” التي كانت تصدر في الجزائر أيّامئذ، وكان يرأسها الأخ محمّد عباس…
هذه المقدمة الطويلة نسبيا سببها ما فزت به من تحفة أدبية في معرض الكتاب في هذه السنة، وهو ديوان الشاعر الجزائري “المجهول” مبارك بن محمد جلواح، الذي سماه “دخان اليأس”.
كنت قد نشرت مقالا عن هذا الشاعر في الجريدة الشروق في 13 ـ 9 ـ 2012، لأنني قرأت في أحد أعداد مجلة “العربي” الكويتية مقالا لكاتب سعودي يحمل اللقب نفسه، وتساءل إن كانت هناك قرابة بين الأسرتين..؟
لقد زار هذا الكاتب ـ الشاعر محمد الجلواح الجزائر، وأجرى اتصالات مكّنته من لقاء أفراد من أسرة مبارك جلواح، ومنهم ابنته الوحيدة، والتقى المهتمين بالشاعر مثل الدكتور عبد الله الركيبي الذي نشر كتابا عن جلواح، والدكتور رابح دوب الذي كان جلواح موضوع رسالته للماجستير، وقد أحسن الأستاذ محمد الجلواح إذ نشر فصولا مختارة من هذه الدراسة، فكانت نعم المعين على فهم نفسية مبارك جلواح، والظروف التي أحاطت به وبوطنه، والحوادث التي عاشها، سواء كانت خاصة أم عامة…
وهنا أشير ـ مرة أخرى ـ إلى أنني لا أميل إلى ما مال إليه من رجّح انتحار مبارك جلواح، رغم ما يشيع في شعره من ذكره الانتحار.. وأرجح ـ حدسا ـ فكرة الاغتيال من بعض العناصر اليهودية، لما أشيع عن جلواح من “العمل” مع النازيين عند احتلالهم جزءا من فرنسا، ومنه باريس، وتعاطفه معهم، ومَن من الجزائريين الخُلّص لم يتعاطف مع الألمان، الذين فرّ الفرنسيون أمامهم دون مقاومة.. كما لا أستبعد تورط بعض “الجزائريين” المشرفين على مسجد باريس لعداوتهم لحركة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كان جلواح عضوا فيها، داعيا إلى مبادئها، عاملا في صفوفها، ويكفيه أن يكون من المشرفين على “نوادي التهذيب”.. وقد تبدي لنا الأيام ما كنا جاهلين…
لقد ظهر عمل الأستاذ محمد الجلواح في ترتيب قصائد الديوان ترتيبا ألفبائيا، وبذل جهدا طيبا في شرح كلماته ومفرداته، وإن كانت بعض الأسماء تحتاج إلى شرح مثل “فتى ندرومة” (65) و”ليث ندرومة” (ص 109) اللذين أرجح أنه يقصد بهما القائد الكبير، مؤسّس الدولة الموحدية وموحّد أقطارها عبد المؤمن بن علي، ومدينة البليدة التي سها الشارح وظنها شرق الجزائر (ص 157)، والحال أنها تقع جنوب غرب مدينة الجزائر…
لقد سعدت بلقاء الأستاذ محمد الجلواح، وتكرم فأهداني نسخة من الديوان، حلاّها بكلمة تدل على نبله وفضله، ومن هذا النبل والفضل سعيه لربط الاتصال مع من تساءل إن كانوا من ذوي قرباه رغم بعد الشقة.. وليبشر الأخ محمد أننا جميعا ـ كما أسلفت ـ يؤاخي بيننا الإيمان، ويجمعنا الإسلام.. كما تفضل فأهداني الجزء الثاني من كتاب له يحمل عنوان “فضاءات”، وهو عبارة عن مقالات نشرها هنا وهناك، ومن ضمنها مقال عنوانه: “جلواح الجزائري” (235 ـ 241)، وهو المقال المنشور في العدد 583 من مجلة “العربي”، وعزّز إهداءه بثالث الذي هو أحد دواوينه الشعرية يحمل عنوان “نزف”، وفيها قصيدة جميلة عنوانها “تحيا الجزائر”، منها:
هرعت لـ (لمليون) ينزف عشقا وخلودا، وصرخة في الضمائر
لبلاد تموج في مقل العرب مثالا، مضى مثالا وسائر
يا جبال (الأوراس) جئتك مشتاقا وفي خاطري وجيب المسافر
كدت أن أمتطي إليك بساطا نسجته الرياح، فلكا، وثائر
آه، ما أطول السويعات جوّا وهي تنحو إليك.. فوق المعابر
فاسمعي قلبي الشغوف كطفل يتهجّى حروفه، ويثابر
وبنبضي عزفت لحنا مذابا كرضاب الحبيب: (تحيا الجزائر)
فشكرا للأخ الأستاذ محمد الجلواح من إخوانه (الجلواحيين) في الجزائر، لأن المعنى اللغوي لـ “جلواح” ـ كما ذكره اعتمادا على الفيروز آبادي في قاموسه المحيط ـ هو “الأرض الواسعة”، وما أوسع الجزائر لولا أن ضيقها علينا السفهاء، الذين “كبروا في العمر، وصغوا في العقل”.