الرئيسية / مقالات و دراسات / مقالات جزائرية / التخليد الحقيقي لذكرى شهدائنا الأبرار – الدكتور محمد بوركاب

التخليد الحقيقي لذكرى شهدائنا الأبرار – الدكتور محمد بوركاب

Print Friendly, PDF & Email
لا يختلف اثنان على أنّ استرجاع بعض جماجم شهدائنا الأبرار إنجازٌ كبير، وتطهيرٌ لأرواحهم المقدسة من رِجس المستدمر الفرنسي الغاشم، وتخليدٌ لذكراهم في نفوس أبنائنا وشبابنا والأجيال القادمة.
غير أنّ التخليد الححقيقي الصادق الذي ينتظره منّا اولئك الأبطال الأطهار يتحقق بخمسة أمور، وهي:
الأول الدعاء لهم و شكرهم على تضحياتهم وأفضالهم العظيمة التي تطوق أعناقنا إلى يوم الدين: لقول النبيّ صلى الله علينا (لم يَشكُر اللهَ مِن لم يشكر النّاسَ) وقوله (مَن أَسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تَقدروا فادعوا له حتّى تروا أنكم كافأتموه).
وبالشكر تدوم النعم وتزداد، لقوله تعالى: 《 لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيْدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِيْ لَشَدِيْدٌ 》 [ابراهيم: 7].
فالواجب علينا: الإكثار من الدعاء لهم وإبراز مكانتهم وأفضالهم علينا وغرسها في نفوس أبنائنا وشبابنا والأجيال القادمة عبر وسائل الإعلام ومناهج التعليم لتكون ذِكراهم حاضرة بيننا على مدار السنة لا مقصورةً على المناسبات، وعندها يتبين أصدقاء الجزائر من أعدائها.
الثاني المحافظة على الأمانة التي استأمننا عليها الشهداء ولأجلها ضَحَّوا بدمائهم الزكية:
والدين أمانة والوطن أمانة والسيادة أمانة، وقد نفى رسول الله -ﷺ- الإيمانَ عن الذي يضيع الأمانة، لما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه عن أنس -رضي الله عنه- أنّه قال: ” ما خطبنا رسول الله -ﷺ- إلا قال: « لا إيمان لمن لا أمانةَ له، ولا دِين لمن لا عهدَ له ».
▪︎أما الدين: فهو الإسلام، واللغة التي يُفهم بها هي لغة القرآن، و هي القاسم المشترك بين جميع أبناء الجزائر على اختلاف ألسنتهم ولهجاتهم لأنهم مسلمون.
فمن استخف بمبادئ الإسلام ولغة القرآن -قولا أو عملا- فقد خان الشهداء وخان الوطن وخان الأمة.
▪︎وأما الوطن: فهو الجزائر كلها من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، كلٌ لا يتجزء، فمن فرّط في شبر منها أو دعا إلى انفصال جزء منها، فقد خان الله ورسوله -ﷺ- وخان الشهداء، لأنّه سبحانه بعد أن ذكّر المؤمنين بنعمة الوطن الجديد في المدينة المنورة قَصْدَ المحافظة عليه حَذّرهم من الخيانة، فقال: 《يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ》 [الأنفال:٢٧].
وأما السيادة الوطنية: فتعني بالدرجة الأولى: الاستقلالية في اتخاذ القرارات، ورفض كل تدخل أجنبي في أمورها الداخلية وسياستها الخارجية.
وتعنى أيضا: مخاطبة المواطنين ورؤساء الدول ومَنْ دونهم في المسؤولية مِن وزراء وسفراء ودبلوماسيين، باللغة الوطنية لغةِ الشهداء، لا بلغة المستعمر.
وقد كان سيد الخلق -ﷺ- يراسل الملوك باللغة العربية يدعوهم إلى الإسلام، ” فخرج ستة نفر في يوم واحد، وذلك في المحرم سنة سبع وكان كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم ” [انظر: طبقات ابن سعيد ١٩٨/١].
فالمراسلة، كانت بالعربية، وحامل كل رسالة متقن للغة مَنْ أُرسِل إليهم، حتى إذا أخطأ مترجمهم أو أساء فهما صَوَّبه، أو طلب منه مزيد بيان أوضحه وفصله.
وفي ذلك خير دليل على أن الحديث بلغة الوطن في مثل تلك المواطن هو جزء من السيادة.
فكيف يَحْمِل بعد ذلك مسؤول رفيع المستوى رسالةَ رئيسنا إلى روسيا ويخاطبهم بالفرنسية لغة المستعمر ؟
ولو تحدث بالروسية لكانت المصيبة أهون.
أليس ذلك استخفافا بشهدائنا الأبرار وبهذا الشعب الذي لا يزال يعاني من ظلم فرنسا ؟
والغريب في الأمر أن جميع مسؤولي دول العالم يتكلمون بلغتهم إلا بعض مسؤولي بلدنا!
وعندما انتقد بعض أهل العلم -جزاهم الله خيرا- هذه الأخطاء الجسيمة انتفض مَنْ أشربت قلوبهم بحب فرنسا 《كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفَرَةٌ ¤ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ》[المدثر:٥٠-٥١] فَرُّوا من كلمة الحقِّ فِرار الحُمُر الوحشية من الأسد.
فالجزائر بحاجة إلى أسود في القوة والشجاعة أمثال العربي بن مهيدي وعميروش ومصطفى بن بولعيد وغيرهم، لَينفُوا عنها ما بقي من الخبث.
الثالث الثبات على القيم والمبادئ التي اتفق عليها الجزائريون في بيان أول نوفمبر واستشهد لأجلها ملايين الشهداء:
فهي مسلمات لا تقبل النقاش، وكل مَن حاول إثارتها من جديد فهو ساع في إثارة الفتنة وتمزيق الوحدة،《والفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ》 كما قال الحق سبحانه.
الرابع تطهير الجزائر من بعض الوجوه التي أُشربت قلوبها بحب فرنسا:
كما أُشربت قلوب بني إسرائيل بحبّ العجل الذي عبدوه من دون الله، لأن الإستعمار -كما قال الإمام الإبراهيمي- كالشيطان الذي قال فيه نبينا -ﷺ-: ” إنّ الشيطان قد يَئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما دون ذلك ” فهو قد خرج من أرضكم ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه.
ففرنسا يئست من البقاء في الجزائر، ولكنها رضيت بأن خلّفت مَنْ يرعى مصالحها في بلاد الشهداء.
فالواجب إبعاد هؤلاء المفسدين العملاء وعرضُهم على العدالة.
الخامس تكاتف الجهود من أجل المحافظة على ما حققه شهداؤنا الأبرار من مكاسب عظيمة مع تنميتها والزيادة عليها:
فهذا الوطن أمانة في أعناقنا جميعا وهو مليئ بالخيرات والثروات، والواجب علينا حسن استثمارها، وصونها من كل مَن يريد تبديدها والمتاجرة بها.
قال تعالى: 《وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ》[التوبة:١٠٥].
هذا ما يريده منا شهداؤنا الأبرار، الجديّة في العمل ونبذ الخمول والكسل.
وأما جماجمهم الطاهرة، فستظل شاهدة على جرائم فرنسا الوحشية، وعلى كل مَنْ ضيع الأمانة.
فاللهم اجعلها شاهدة لنا ولا تجعلها شاهدة علينا، واجزهم عنّا خير الجزاء ، وأَعلِ من مقامهم، واجعل ابناءنا وشبابنا خير خلف لخير سلف يا أرحم الراحمين.

عن عمار رقبة الشرفي

- مجاز في القراءات العشر المتواترة من طريق الشاطبية والدرة. - مجاز في الكتب التسعة بالسند المتصل وبعدد من كتب الحديث الشريف. - شهادة تخرّج في العلوم الشّرعية والعربية من معهد بدرالدّين الحسني بدمشق. - شهادة الدّورة التّأهيليّة للدّعاة. - إجازة تخرج (ليسانس) من معهد الدّعوة الجامعي (فرع دمشق) في الدراسات الإسلاميّة والعربيّة. - ديبلوم ماجيستير في الفقه المقارن (تحقيق جزء من كتاب عيون الأدلّة - للقاضي أبي الحسن علي بن أحمد المالكي البغدادي المعروف بابن القصار (ت :398هـ - 1008م- قسم المعاملات. - مؤسس ومدير معهد اقرأ للقرآن وعلومه، باب الزوار- الجزائر العاصمة http://iqraadz.com/ - المؤسس والمشرف العام على موقع المكتبة الجزائرية الشّاملة http://www.shamela-dz.net/

شاهد أيضاً

الشيخ العثماني في ذمة الله تعالى – الأستاذ محمد الهادي الحسني

“كل شيء هالك إلا وجهه”، “ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام”، ذلك قضاء من له …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *