الناس أقسام..
منهم من يعيش لنفسه فحسب، وآخر لأسرته فقط، وثالث لمنطقته لا يتعداها، ورابع لجماعته لا يتجاوزها..
هذه الدوائرُ التي يجول فيها غالبُ القوم ويصولون.
بيد أن هناك رجالا دائرةُ اهتماماتهم أوسع من هذه الدوائر..
نعم .. تتخطى همومُهم إلى عموم الأمة، وعامة البشرية، وسطح البسيطة..
من هؤلاء الفحولِ سيدي الشيخُ محمد الغزالي رحمة الله تعالى عليه ..
الكلام على هذا العَلَمِ الشَامخ لا يُطيقُهُ مقالٌ ولا تَسَعَهُ أَسطرٌ.. لقد كتب عنه الكبارُ، والكثيرُون، بارك الله فيهم وفي جهودهم.. لكن ما زالت زوايا عن حياته لم تُذكر، وخَبَايَا لم تُنْشَر..
وإنما أتناول في هذا المقال علاقة الشيخ بالجزائر..
أما الشيخ فقد تعرَّف على الجزائر أولا بمخالطة بعض رجالاتها الكبار.. وعلى رأسهم نابغة الجزائر العلامة الشيخ محمد البشير طالب الإبراهيمي رحمه الله تعالى.. انظر إلى كلماته وهو يعبِّر عن إعجابه بتلك الشخصية النادرة عقب إنصاته لمحاضرة له:..
“..كان لكلماته دَوِيٌّ بعيدُ المدَى، وكان تمكنه من الأدب العربي بارزًا في أسلوب الأداء وطريقة الإلقاء، والحق أن الرجل رُزِق بيانًا ساحرًا، وتأنقًا في العبارة، يُذَكِّرُنا بأدباء العربية في أزهى عصورها .
لكن هذا ليس ما ربطنا به أو شدَّنا إليه ـ على قيمته المعنوية ـ، إنما جذبنا الرجلُ بإيمانِهِ العميقِ، وحُزنِهِ الظاهرِ على حاضر المسلمين، وغيظه المتفجر ضد الاستعمار، ورغبته الشديدة في إيقاظ المسلمين ليحموا أوطانهم ويستنقذوا أمجادهم، وخُيّل لي أنه يحمل في فؤاده آلام الجزائريين كلهم وهم يكافحون الاستعمار الفرنسي، ويقدمون المغارم سيلًا لا ينقطع حتى يُحرروا أرضَهم من الغاصبين الطغاة، وكان في خِطاباتِهِ يَزْأَرُ كأنه أسدٌ جريحٌ، فكان ينتزع الوَجَل من أفئدة الهيابين، ويُهيّج في نفوسهم الحمية لله ورسوله، فعرفت قيمة الأثر الذي يقول: “إن مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدم الشهداء”.
إن الخطيب أو الكاتب يوم يستمد توجيهاته من قلبه ويصبها في نفوس تلامذته إنما يُكوّنُ فيالق من أولي الفداء، ويصنع قذائف حية من رجال ينسفون الباطل نسفًا، وذلك ما أحسسناه ونحن نستمع إلى الشيخ البشير الإبراهيمي في القاهرة، فعرفنا لماذا ضاق به الفرنسيون وطاردوه، ومن ثَمَّ قررنا الالتفاف به والاستمداد منه.
ومن الخطإ تصوُّرُ أن الشيخ الكبير كان خطيبًا ثائرًا وحسب.. لقد كان فقيهًا ذكي الفكرة بعيد النظرة..
.. كان لقاؤنا بالشيخ البشير الإبراهيمي مصدر متعة أدبية وعلمية تجعل أدباء القاهرة وعلماءها يهرعون إليه ويتزاحمون عليه، ولكن الرجل كان يشرد بين الحين والحين، فنحس أنه معنا وليس معنا، كان جسمه معنا وقلبه معلقًا بالجزائر يتحسس أبناءها، ويتتبع العراك الدائر بين الإسلام والصليبية في هذه القطعة الغالية من دار الإسلام، وكنت أشعر بأنه يكتب إلى رجاله أو المسؤولين عن الكفاح الجزائري يشير عليهم بالرأي… وأستطيع الجزم بأنه ما ضعف يومًا ولا استكان ولا يئس من روح الله، ولا شك في أن الله ناصر جنده، ومعز المجاهدين المسلمين.
وهناك أمر لا يعرفه الكثيرون، لقد حاول أن يَسُدَّ الفَجوةَ بين جماعة الإخوان ورجال الثورة المصرية، فإن الفريقين يُقَدِّرُونَهُ ويُصْغُونَ إلى نُصْحِهِ، ولكن الشرَّ كان قد تَفَاقَمَ بين الفريقين وعَزَّ على العلاج، فتوقف محزونًا.
وظل الشيخ البشير، ومعه بعض الجزائريين يرتبون الأمور بين القاهرة الموالية للمجاهدين، وبين أرض المعركة التي احتدم فيها القتال وتضاعف الشهداء، ولا أنسى من بين أصحاب الشيخ الأخ الفضيل الورتلاني الذي زاملني في الدراسة وأنا في تخصص الدعوة والإرشاد قبل مجيء الإبراهيمي ببضع سنين، وكان الشيخ الفضيل عملاقًا في مبناه ومعناه ورجلًا له وزنه، وكان يتبع الشيخ البشير على أنه تلميذ وَفِيٌّ له، ويتعاونان على نصرة القضية الجزائرية بكل ما لديهما من طاقة …
قال لي الشيخ البشير: إنكم بُلِيتُمُ بالاستعمارِ مثلَ ما بُلينا، وشَعَرْتُم بضَرَاوَتِهِ مثلَ ما شعرنا، لكنكم لا تعرفون أن ما أصابنا نوعٌ شاذٌّ من الاستعمار، يُشبه السرطان من بين أنواع العلل المهلكة، إنه كان يريد محوَ شخصيتِنَا وعقيدتِنَا ولغتِنَا وتاريخِنَا وحاضرِنَا ومستقبلِنَا، ومن المستحيل الإبقاءُ عليه أو البقاءُ معه.
إن معنى ذلك الموت الخَسيس، وأَوْلَى بنا أن نموتَ جميعًا في ميادين الكفاحِ والتضحيةِ من أن نموتَ على هذا النحو الذي يراد لنا …
والجزائريُّ إذا غضب تحوَّلَ إلى شخصِ آخر، وقد كنتُ أَلْمَحُ تغيرًا عُضويًا في وجهِهِ بل في كِيانِه كله عندما يتحدث عن ضرورة الجهاد إلى آخر رمق وعن ضرورة بقاء الجزائر مسلمةً تتكلم بلغة الوحي وتحل العربية محل الفرنسية..” اهـ كلام الشيخ الغزالي .
ولقد نقلتُ هذا النص على طوله..لأهميته وبلاغته ..
هكذا تعرف الشيخ على الجزائر وبعض قادتها وأبنائها..
أما الجزائر ورجالها فقد عرفوا الشيخ أول ما عرفوه من خلاله كتبه الذائعة، لما لها من حساسية موضوعات، وحسن عرض، وسلاسة أسلوب، وصراحة صارخة في تشخيص الداء وجرأة في بيان الدواء ..
ثم وطئت قدماه ثرى هذه الأرض الطيبة أول ما وطئتها من بوابة ملتقى الفكر الإسلامي، الذي كانت تُقيمه وزارة الشؤون الدينية في صائفة كل سنة، ملتقى على مستوى رَاقٍّ عالميٍّ، حول موضوعات مهمة، يُدعى لها أعلامٌ كِبَار، كانت الانطلاقة في 1968.. وبدأتْ مشاركات الشيخ محمد الغزالي عام 1980، وكانت له فيه صولات وجولات، سواء من منصة المحاضرات، أو منبر التعقيبات..
كما تعرفنا عليه بواسطة التلفاز من خلال حصة مميَّزةٍ.. أَذكر وقتَ الصِّبَى تلك الحصة الرائعة في شهر رمضان قبل أذان الإفطار، تبدأ بقرَاءة خاشعة مَهيبة لآيات قرآنية سَرْدًا بدون ترتيل من المقرئ الشيخ محمد الطُّوخِي، رحمه الله تعالى، ثم يتناول تلك الآيات أحدُ علماء الأزهر الشريف بالتفسير، ثم تُختم الحصةُ بإعادة تلاوة تلك الآيات نفسها لكن تجويدا.. على لسان كبار قرَّاء مصر، كالشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والشيخ البهتيمي، والشيخ الحصري، والشيخ المنشاوي، وغيرهم.
كانت من أنجح الحصص، وتركت أثرا طيبا في النفوس.. ومن خلالها أَطَلَّ علينا الشيخُ الغزاليُّ في بعضها، وكان حينها في كهولته .. ولا أذكر الآن عنوان الحصة..
وكانت جريدة النصر تَنشر للشيخ في عمودٍ من أعمدتها فقرات، هي عبارة عن سؤال وجوابه ..كُنْتُ أَقُصُّ تلك العاوميد في قُصاصات أحتفظُ بها، إلى أن عَلِمْتُ أنهم ينشرون كتابا للشيخ مطبوعا، عنوانه “مئة سؤال عن الإسلام”..
وفي الإذاعة المسموعة يُذِيعون أحيانا للشيخ محاضرات.. أذكر في صبيحة يومٍ وأنا أُتابع المذياع إذ بهم يَبُثُّون له محاضرةً، ألقاها في المركز الثقافي بقسنطينة، وكان الموضوع عن قضية تحديدِ النَّسْلِ.. وعَلِقَ بذِهني هذه العبارات من كلامه رحمة الله عليه.. لي من الأولاد 7، خمسةُ بناتٍ، وولدَين، واحتسبتُ عند الله اثنين منهم، انتقلوا على رحمة ربهم وهم صغار، فرزقتُ في الحقيقة 9 من الأولاد ..ثم استشهد بقول الشعر:
لَعَمْرُكَ ما ضاقتْ بلادٌ بأهلها .. ولكن أخلاق الرجال تضيق..
ولا أنسى تلك المناظرة التاريخية حول الإسلام والعلمانية التي شارك فيها في مواجهة للدكتور فؤاد زكريا، رئيس قسم الفسلفة.. وكنَّا نتناقلها عبر شريط الفيديو.. بكل اهتمام وحماس..
أما أوسع نافذة أطلَّ بها الشيخُ على الجزائريين فهي درس الاثنين من خلال الإذاعة والتلفزيون الجزائري.. دقائق معدودة، في موضوع معين، بأسلوب متميز .. مَلَكَ به الشيخ قلوب الملايين، وجذب عقول الملايين ..
ولدرسِ الاثنين وأجوائه في بلادنا عَوْدٌ بمقالٍ مستقلٍ إن شاء الله تعالى..
أما آثار الشيخ الراسخة في هاته البلاد فكانت في رحاب جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، بمدينة قسنطينة، التي أَمَّهَا مئاتُ الطلاب، من كل أطراف الجزائر المترامية ..وما زالوا يؤمونها..
ولالتحاقِهِ بجامعة الأمير عبد القادر قصةٌ أُبَيِّنُ حَيثياتها في مقالةٍ قادمة بإذن الله تعالى ..