لقد اختار الله الأمة المحمدية لحمل الرسالة الخاتمة وهداية البشرية وصدارة الأمم ، وحمل مشعل الانبعاث والشهود الحضاري ، وذلك عقب السقوط المذهل لبني إسرائيل الذين اصطفاهم الله على العالمين مصداقا لقوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ).
وقوله تعالى على لسان سيدنا موسى عليه السلام : (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ).
فلما تخلى بنو إسرائيل عن الدور الريادي الذي كلفوا به ونكصوا على أعقابهم وأمعنوا في إيذاء الأنبياء والرسل تكذيبا وقتلا واستمرءوا حياة الذل والعبودية استبدلهم الله تعالى بالفرع الإسماعيلي من ذرية إبراهيم عليه السلام ، لاستكمال رسالة الإنسانية في الأرض وفق منهج رباني سماوي ـ تعمر فيه الأرض ، وينمّى فيها الخير وتسود فيها القيم الأخلاقية كقيمة العدل والرحمة والمساواة بين بني البشر ويسود السلم ، وتنتهي الحروب الظالمة الجائرة التي تهلك الحرث والنسل ، ويقمع الفساد ويعلو كعب الصلاح ويعم التعاون على الخير وينتشر بين أبناء البشر .
وسنة الله ماضية أنه كلما ابتعد المستعمل عن كل هذه القيم وانحرف عن هذه الرسالية إلا جعله الله مستبدلا.
وحينما تقرأ كتاب الله تعالى تجد قوله تعالى بينا واضحا في ثنائية الاستعمال والاستبدال حيث يقول الحق تبارك وتعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ، إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ).
فالحق تبارك وتعالى يدعو عباده للنفير والاستنفار العام من أجل التمكين لدين الله تعالى وتبليغ دينه بكل الوسائل المباحة والمتاحة ولكل عصر وسائله المختلفة عن العصر الآخر.
فإذا خلدت إلى الراحة وآثرت الحياة الدنيا على الآخرة والراحة والدعة على النصب والتعب في سبيل الله استحقت أن تستبدل بغيرها من الأمم.
وبل ويؤكد الحق تبارك وتعالى على قضية مهمة ألا وهي قضية الإنفاق وبذل كل ما يجب أن يبذل من مال و جهد وعلم وفكر في سبيل الارتقاء بالأمة إلى مصاف الريادة والصادرة حيث قال تعالى : ( هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ).
فالأمة مدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله ، وحتى لا يتوهم متوهم أن الإنفاق مقتصر على المال فحسب جاءت الآية الكريمة قاطعة ذاك التوهم بقوله تعالى :
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) .والخير اسم جامع لكل شيء حسن نافع .
أنواع الاستبدال:
وبإمعان النظر في كتاب الله تعالى وتاريخ الأمم والشعوب والسنن الكونية والتاريخية نجد أن الاستبدال نوعان:
النوع الأول: الاستبدال بالأحسن وهو الاستبدال على سبيل الحقيقة ، وهذا ما صرحت به مواضع في القرآن الكريم وقد سبقت الإشارة إليها كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه)ُ.
وكقوله تعالى : (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) أي لا يكونوا أمثالكم في البخل والتولي والانحراف عن جادة الصواب.
النوع الثاني: الاستبدال بالغير مطلقا ولو كان المستبدل به كافرا وهو استبدال على سبيل المجاز ، وذلك بسقوط الراية ، وتفرق الشمل ، والسقوط في منحدر الفاقة والفقر والعوز وغلبة الأمم والشعوب وأفول شمس الحضارة والتمكين.
وهذا ما حدث لبني إسرائيل حينما داهمهم بختنصر وقد أخبرنا القرآن الكريم عن ذلك بقوله : (وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًافَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا)
وهكذا استبدل الله بني إسرائيل مع أنهم في الظاهر حملة رسالة سماوية وكتاب مقدس التوراة ، ولكن ونتيجة فسادهم وبعدهم عن الله تعالى سلط عليهم بختنصر وهو كافر.
وهذا في تاريخنا الإسلامي كثير فالدولة العباسية في أواخر أيامها بلغ فيها الفساد مبلغا عظيما حتى تسول الناس على أبواب المساجد وفي الطرقات وخزائن الخليفة ملئ بالمجوهرات والمقتنيات النفيسة فسلط الله على الأمة التتار جنكيز خان وابنه هولاكو فجاسوا خلال الديار وأهلكوا الحرث والنسل ، وكذا المسلمون في الأندلس لما أغرقوا في الملذات والشهوات وتركوا الجهاد سلط الله عليهم الفرنجة وكانت الكارثة وسقطت الأندلس بيد فرناندو وزوجته الحاقدين .
ولو يممنا وجوهنا شطر القارة الإفريقية قليلا ، وقلبنا صفحات التاريخ لوجدنا أن المسلمين حينما حملوا المصحف بتعاليمه السمحة وأخلاقه السامية بيد والتجارة بيد أخرى استطاعوا أن يدلفوا إلا أدغال الصحاري والبراري الإفريقية شرقا وغربا حتى وصولا إلى سفالة بالموزمبيق وشلالات ستانلي وبحيرة فكتوريا ، قبل أن تسمى بهذه التسميات، ونشروا الإسلام هناك.
ولكن لما ركنوا إلى الراحة والدعة وتنافس بعض ضعاف النفوس على تجارة الرقيق والعاج والتوابل،وسقطوا في شراك الشركات الأوروبية ، ولم يكن لهم من هم سوى التجارة وجمع المال، وتركوا دعوة الله ظهريا استبدلهم الله بالنصارى فانتشرت المسيحية بين السكان الأفارقة ، ولو بذل المسلمون جزء يسيرا مما يملكون من وقت وجهد ومال لعمّ الإسلام القارة السمراء ولانطلق الآذان من أعالي جبال كليمنجارو عند قبائل الماساي، والانتيمور، والبورنا وغيرها من القبائل الوثنية في القارة منذ زمن بعيد.
والسؤال المطروح هل نحن الآن مستعملون أم مستبدلون ؟ إذا نظرنا إلى الأمة من خلال المكانة التي تحتلها بين الأمم ، من خلال الفرص ، والإخفاقات.
أما الاخفاقات :
ـ الإمكانات المتواضعة مقارنة بغيرها من الأمم الأخرى
ـ مكانتها المتأخرة في المعادلة الأممية في صنع القرار
ـ خيانة بعض الأنظمة لشعوبهم وتآمرهم مع الأعداء على أبناء جلدتهم، وتمكين الأخر من مقدرات شعوبهم نظير بقائهم على عروشهم .
ـ فشل ثورات الربيع العربي ونجاح الثورات المضادة وعودة الدولة العميقة التي يرى كثير من الناس أنها صنيعة الاستعمار
ـ غياب فرص الإصلاح الشامل وانتشار الفساد المالي والإداري والسياسي
ـ الانقسام والتشرذم وانهيار دول، وتبعية دول أخرى لقوى استعمارية . كالحال في سورية واليمن والعراق .
ـ الظلم والاستبداد وتغييب وتهميش الكفاءات وتولية المناصب أصحاب الولاءات
ـ تبوء قطاع واسع من الأمة وخاصة الدول العربية مراتب متأخرة في مؤشرات التنمية البشرية في شتى مناحي الحياة ، وغيرها من الإخفاقات
وأما الفرص فهي:
ـ الأمة الإسلامية ليست محصورة في العرب فقط بل هي أمة لها مخزون بشري ضخم من عرب وعجم يمتد من طنجة إلى جاكرتا تعداده يزيد عن خمس سكان المعمورة ،
ـ قابليتها للتعايش مع غيرها من الشعوب والأمم في إطار فكرة تحالف الحضارات ،
ـ تربعها على مخزون كبير من المقدرات والإمكانات المادية والبشرية ، فهي أمة تطل على العديد من البحار والمحيطات ، وتملك مخزونا كبيرا من المعادن والمحروقات ، بل لقد ساعدتها جغرافيتها على تنوع مناخاتها وتضاريسها تملك الجبال والسهول والصحاري والبراري.
ـ تملكها لكفاءات وأدمغة علمية عملاقة ، وصل تأثيرهم إلى العمق الصيني والروسي والأمريكي
تساهم هذه الكفاءات اليوم وبشكل مباشر في نهضة الأمم الأخرى في جميع مجالات الحياة .
ـ الوجود الإسلامي في الغرب الذي بات تأثيره واضحا بينا من خلال تأسيسهم لجمعيات ومراكز إسلامية وجامعات ومعاهد وبنوك إسلامية وحتى وصولهم إلى قبة البرلمانات والوزارات ، وما كن ذلك ليكون قبل قرنين من الزمن ، حيث لا يسمح التعصب الكنسي بوجود مسلم هناك .
ـ صحوة ضمير الأمة الجمعي ورغبة الكثير من أبنائها في استئناف الحياة في ظل الشريعة الإسلامية .
ـ التعاطف والتفاعل مع قضايا الأمة العادلة كقضية فلسطين ، وقضايا المسلمين في إفريقيا وبقية القليات المسلمة تفاعلا إيجابيا من خلال تأسيس الجمعيات والمنظمات العاملة في الحقل الإغاثي لحماية هؤلاء المسلمين من الغول التنصيري المتصهين.
ومن خلال هذه المعطيات يمكن أن نقول أن الأمة ليست بالبعيدة عن الاستعمال إذا تحققت ببعض المواصفات و حققت بعض الشروط ، يمكن إجمالها في قوله تعالى : { وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ }.
يضاف إليها أن يحسن المسلمون قراءة المتغيرات الإقليمية والدولية ، ومن ثم التعامل مع هذه المتغيرات تعاملا أمثل وحسن قراءة فكر السنن والتداول الحضاري ،واستغلال الفرص التي من خلالها يُعَرِفُون بدينهم الحق ويزيلون الصور النمطية العالقة في أذهان المخالفين لنا ، وعدم إهدار للإمكانات ، ونرفع أكف الضراعة قائلين اللهم استعملنا ولا تستبدلنا.
إذ أنه ورد في الحديث {إذا أراد الله بعبْدٍ خيرًا استعمله}.