من مميزات الدين الإسلامي الحنيف ومزاياه التي لا يعدّها العادّون ولا يحصيها المحصون أنه لا يمنع أتباعه من الانفتاح على تجارب غيرهم من الأمم والشعوب الأخرى، ولا يحول بينهم وبين الاستفادة من حِكَمها التي لا تناقض أمرا من أمور العقيدة الإسلامية، ولا تهدم حكما من أحكام الشريعة الإسلامية، ولا تنتهك خلقا من الأخلاق الإسلامية.
إن الحكمة هي من عند الله – عز وجل – فهو الحكيم المطلق، وهو يؤتي – فضلا منه ومنّة – هذه الحكمة من عباده طائعهم وعاصيهم، وقد سمع أحد الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – قول أحد الشعراء الجاهليين:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
فقال ذلك الصحابي ما معناه إن هذا الشاعر خلط قولا صادقا وآخر خاطئا، فأما قوله الصادق فهو “كل شيء ما خلا الله باطل’، وأما قوله الخاطئ فهو “وكل نعيم لا محالة زائل’، إذ أن نعيم الجنة دائم لا يزول…
لقد نبهنا سيدنا وإمامنا محمد – صلى الله عليه وسلم – إلى أهمية الاستفادة من الحكمة من غير اعتبار لمصدارها، فقال عليه الصلاة والسلام: الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحقّ بها.. أو كما قال عليه الصلاة والسلام..
وقد جاء في صحيح البخاري أنه – صلى الله عليه وسلم – دعا لابن عباس – رضي اله عنهما – بقوله “اللهم علمه الحكمة’.
ومن الحكم البالغة التي أوردها الأستاذ مالك ابن نبي – عن المؤرخ وِلْ ديورنت – أن حوارا جرى بين الفيلسوف الصيني كونفوشيوس – (551 – 479ق.م) – وبين أحد تلاميذه الذي سأله عن أوجب ما يجب على أية سلطة أن تضمنه .. ليستقر أمرها وترسخ أركانها، ويمتد كيانها، فقال الحكيم الصيني لتلميذه عليها أن تؤمّن أمورا ثلاثة هي:
*) ضمان لقمة العيش لكل إنسان.
*) توفير الضروري من التجهيزات العسكرية.
*) توفير القدر الكافي من ثقة الناس بحكامهم..
ارتأى التلميذ أن يستزيد من حكمة أستاذه فسأله: وإذا كان محتّما علينا أن نستغني عن أحد هذه الأمور الثلاثة، فعن أيها نستغني؟
قال الحكيم لتلميذه: نستغني عن التجهيزات العسكرية..
فسأل التلميذ أستاذه الحكيم مرة أخرى: وإن كان مفروضا علينا أن نستغني عن أحد الأمرين الباقيين، فعن أيهما يكون الاستغناء؟
فأجاب الحكيم تلميذه: نستغني عن القوت، لأن الموت هو مصير الناس أجمعين، ولكنهم إن فقدوا الثقة في حكامهم لم يبق أي أساس للدولة (1).
وقد أورد الأستاذ ابن نبي قصة من تراثنا الإسلامي دليلا على صحة الحكمة الكونفوشيوسية “الجاهلية’، حيث خطب الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في المؤمنين طالبا منهم السمع والطاعة، فرد عليه أحد الحاضرين بأن لا سمع ولا طاعة حتى يخبرهم عن سبب طول ردائه عن أرديتهم.. فأمر عمر بن الخطاب ابنه عبد الله أن يوضح الأمر للسائل وللحاضرين، فقال عبد الله بأنه منح قطعته من القماش إلى أبيه لطول إقامته، عند ذلك قال الرجل: الآن، قل نسمع ونُطع..
لو انتقلنا من عهد كونفوشيوس الحكيم، وعهد الفاروق العملاق إلى عهدنا وألقينا نظرة على أوضاعنا في الجزائر، وهي أوضاع لا أسوأ منها، حتى إن أعداءنا لم يعودوا يشتمون بنا، بل صاروا يشفقون علينا، لعرفنا سبب هذا التدهور والانحطاط الذي تردّينا إليه.. ذلك أنني أكاد أجزم؛ بل وأقسم، أنه لا ثقة لجزائري في مسئوليه من أدناهم إلى أعلاهم..
وقد استغربت قول أحد الوزراء إن الشعب الجزائري لا يثق في أي مسؤول ما عدا بوتفليقة، فعلمت أن هذا “الوزير’ مصاب بما سماه أحد الكتاب ’ داء الوظيفة’، وهو داء مركب من ثلاثة ميكروبات تفقد من أصابته الرجولة والمروءة، وهذه الميكروبات الثلاثة هي “الذل، والجبن، والمَلَق’
إن فقداننا الثقة في مسؤلينا سببه انحطاط أخلاق أكثرهم من استبداد، ورشوة، وغش، وتزوير، وسرقة، وجهوية، واحتكار، وكذب… وقد تجسد فقدان الثقة هذا في إعراض الناس عن الانتخابات، وحتى النسبة القليلة التي تذهب للتصويت تزور إرادتها، حتى لو بعث الله ـ عز وجل ـ أشهر مزور في التاريخ للانتخابات، وهو الحاكم الفرنسي العام في الجزائر أدمون نيجلان، لأصيب بسكتة قلبية لما يمارسه بعض مسئولينا من تزوير، فاق تزويره أضعافا مضاعفة.
ومن مظاهر عدم الثقة في كثير من مسئولينا كذبهم عند تصريحهم بما يملكون حسب القانون الذي سنوه، فقد ضحك الناس حتى آذانهم – كما يقول الإخوة التونسيون ـ عندما قرأوا أن أحد رؤساء حكوماتنا صرح أنه لا يملك ـ وهو الذي قضى في أسمى المناصب أكثر من عشريتين ـ إلا سيارة (404) “مطبطبة’، حتى اقترح أحد الكتاب الظرفاء أن نجمع له “الزكاة’…
لقد ذكرني هذا “الماركة’ وأمثاله ببيت من الشعر لشاعر جزائري هو:
أيها الضاحكون والشعب باك*** من صروف به تُشيب الجنينا
وكيف يثق الناس في دولة تهدي حصانين أصيلين ثمنهما مئات الملايين لرئيس بيننا وبينه جبال من جثث الشهداء وأودية من دمائهم في مقابل كتيب ـ ضحك به علينا ـ لا يتجاوز ثمنه بضعة أوروات… في الوقت الذي يموت فيه بعض أطفالنا في المدارس من شدة الجوع أو من شدة البرد..؟
إن الكارثة الكبرى هي أن فقدان الثقة هذا لم يبق في حدود العلاقة بيننا وبين مسئولينا، بل تمكنوا بسياسيتهم أن يزرعوا فقدان الثقة في هذا بين فئات الشعب… فلم يعد أحد يثق في غيره… وفي هذا يقول الكاتب أحمد أمين: “لعل أسوأ ما تُمنى به أمة أن يفقد أفرادها الثقة بعضهم ببعض، فقدان الثقة يجعل الأمة فردا، والثقة تجعل الفرد أمة (3)’.
إن من نتائج عدم الثقة هو أننا نرفض أن نتعامل بالفواتير والصكوك، وكم من تاجر ترصده المجرمون وسلبوه ما معه من الملايين، ومنهم من دفع حياته وهو يدافع عن كد يمينه وعرق جبينه.
الهوامش:
1) مالك ابن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي. دار الفكر ط1. ص 132
2) محمد الهادي السنوسي: شعراء الجزائر …ط. دار بهاء… قسنطينة. ج 1. ص 286
3) أحمد أمين: فيض الخاطر. موفم للنشر. الجزائر. ج 1. ص 457.