ليس المقصود بصرف الزكاة لهذه الجهات إعطاؤها المال لتقوم بتوزيعه على مصارفه المعروفة، بل المقصود أن تكون هذه الجهات هي المستفيدة من أحد سهام الزكاة، لتستعمله في الدعوة والتعليم، والمقصود بالدعوة والتعليم:
التعريف بالإسلام وعقائده وحقائقه ومقاصده ونُظُمه وأحكامه، وتنشئة الناشئة على ذلك حفظا وفهما وعلما وعملا، قُبالة ما يُبذل من جهود في محاربته وتشويهه، أو في عزله وإقصائه عن شؤون الحياة، أو في اجتــزائه وحصره في دوائر ضيقة، فتحتاج الجمعيات المضطلعة بهذا الدور إلى مقرات، ومدارس، وتجهيزات، وقنوات فضائية، وجرائد، ومجلات، وتحتاج لتفريغ معلِّمين ودعاة وموظَّفين تأجُرهم على ذلك، وإلى مصاريف تصرفها إلى الطلبة خاصة النجباء الذين يُرجى نفعهم إذا فُرّغوا للعلم، والذين إذا انشغلوا بالكسب وتحصيل المعايش ضاعت نجابتهم ومواهبهم، كما تحتاج لتنظيم مؤتمرات، وعقد ندوات، وإرسال بعثات، وكلّ ذلك قوامه المال الذي تعدم هذه الجمعيات موردًا له إلا فتاتا من الدولة، ونفقات المحسنين المتقطِّعة، والتي لا تفي بهذه الاحتياجات، فهل يجوز صرف الزكاة لها لتؤدي مهمتها المذكورة على وجهها؟ هذا ما نجيب عليه فيما يأتي:
لقد حدّد الله عز وجل في كتابه من تُصرف لهم الزكاة، ولم يكِل ذلك لاجتهاد المجتهدين، وتقدير المتصدّقين، لئلا تنهدم أحقية من يستحق الزكاة بمن لا يستحقها، فقال عزوجل:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(التوبة: 60)، غير أنّ مصرفا من هذه المصارف وهو مصرف: (في سبيل الله) اختلف العلماء في معناه؟ هل المقصود به: الجهاد القتالي (الغزو)؟
أم هو أعمّ من ذلك؟
فاتفقوا أنّ الجهاد القتالي ممّا يشمله هذا المصرف، واختلفوا هل يعمّ غير ذلك على أقوال، وهي:
الأول: أنه مقصور على الغزو، وهو قول أبي يوسف من الحنفية، والشافعية، ورواية عند الحنابلة.
الثاني: أنه الغزو، والحج والعمرة، أي: يجوز أن يُصرف لمريد الحج والعمرة من الزكاة، وهو قول محمد بن الحسن من الحنفية، والمذهب عند الحنابلة.
الثالث: أنه يشمل جميع وجوه الخير، وقد عزاه القفال إلى بعض الفقهاء ولم يسمهم، نقل ذلك عنه الرازي في التفسير، واختاره الكاساني في البدائع، وقيده بالحاجة، وقال به كثير من المتأخرين.
الرابع: أن المراد به المصالح العامة، وهو اختيار بعض المعاصرين كالشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار، والشيخ محمود شلتوت في كتابه الإسلام عقيدة وشريعة.
الخامس: أن المراد به الجهاد بمعناه العام: جهاد اليد والمال واللسان، ولا ينحصر ذلك في القتال، فيدخل فيه الدعوة، وإعداد الدعاة، ودعمهم، ومساعدتهم على أداء مهمتهم.
وهذا القول هو الذي نميل إليه ونختاره، وذلك أنّ “سبيل الله” استعملها الشارع في “الجهاد” خصوصا، ويضعف أن يُراد به وجوه الخير مطلقا، أو المصالح العامة؛ لأنّ ذلك لا ينحصر، بينما إرادة الحصر؛ حصر مصارف الزكاة في أصناف معينة ظاهرةٌ من سياق الآية، ومن قوله تعالى في مطلعها (إنما)، وأيضا لو كان المعنى هو وجوه الخير، أو المصالح العامة؛ لما كان لتخصيص المصارف الأخرى بالذِّكر فائدة؛ لأنها من “سبيل الله” بمفهوم الخير العام، وبذلك لا تتميز مصارف الزكاة عن مصارف مطلق الصدقة، بينما التمييز بينهما ظاهرٌ من سياق الحصر المذكور.
غير أنّ “الجهاد” لا ينحصر في القتال، بل هو كلّ جهد يُبذل قبالة جُهد معاد للإسلام، متشوِّف لإبعاده أو إقصائه أو استئصاله، وكما يكون ذلك بالقتال؛ يكون بأعمالٍ كثيرة من النضال والمقاومة الفكرية، والعلمية، والإعلامية، والدعوية، ولهذا قال الله تعالى مخاطبا نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالجهاد: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً}(الفرقان: 52)، أي: بالقرآن، وسُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أي الجهاد أفضل؟ فقال: كلمة حقّ عند سلطان جائر).
وبهذا القول أخذ المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي برئاسة الشيخ ابن باز -رحمه الله- في القرار الرابع من العدد الثالث، السنة (14)، وجاء فيه: (فإن المجلس يقرّر بالأكثرية المطلقة دخول الدعوة إلى الله تعالى، وما يعين عليها، وما يدعم أعمالها في معنى “وفي سبيل الله”، وفي الآية الكريمة)، وبه أخذت الندوة الأولى لقضايا الزكاة المعاصرة، حيث جاء في فتاويها وتوصياتها: (إنّ مصرف “في سبيل الله” يُراد به الجهاد بمعناه الواسع الذي قرّره الفقهاء بما مفاده: حفظ الدّين، وإعلاء كلمة الله، ويشمل مع القتال: الدعوة إلى الإسلام، والعمل على تحكيم شريعته، ودفع الشبهات التي يثيرها خصومه عليه، وصدّ التيارات المعادية له، وبهذا لا يقتصر الجهاد على النشاط العسكري وحده).
وبهذا أيضا أفتى عديد من كبار علماء المسلمين، كالشيخ يوسف القرضاوي في كتابه فقه الزكاة، والشيخ محمد الحسن ولد الددو الذي جاء في فتواه: (الذي أرجّحه عموم هذا المصرف لكلّ ما يدخل في إعلاء كلمة الله، ونصرة دينه …)
وإذا أُعطي من هذا السهم مالٌ لمؤسسة علمية أو دعوية؛ فإن للقائمين عليها صرفه في مشاريع المؤسسة وبرامجها، ولهم أن يبنوا به المساجد الدعوية والمدارس، وأن يستثمروه، ويدفعوا منه رواتب الموظفين، وتذاكر المسافرين في الدعوة والتعليم، ولو كانوا أغنياء، وأن يبنوا منه الأوقاف).
هذا، ويشترط أن تكون هذه الجمعيات موثوقة مأمونة مُزكّاة من قِبل علماء البلد وأهله، غير متهمة بصرف المال في غير ما أنفق لأجله مما ذكرناه.
وأما صرف الزكاة لطلاب العلم الشرعي؛ فهو محل اتفاق بين الفقهاء، كما جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: (اتفق الفقهاء على جواز إعطاء الزكاة لطالب العلم، وقد صرّح بذلك الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وهو ما يفهم من مذهب المالكية، إذ أنهم يجوِّزون إعطاء الزكاة للصحيح القادر على الكسب …
وخصّ الفقهاء جواز إعطاء الزكاة لطالب العلم الشرعي فقط).
وهذا إذا كان متفرِّغا للطلب، يُرجى منه التحصيل والنفع.