إن الحديث عن الشيخ الغزالي حديث تأنس إليه النفس ويشرق به القلب ، ويصفو به الفؤاد ، لأنه حديث عن ورثة الأنبياء وعن همزة الوصل بين الأرض و السماء .. وما كان ينبغي لمثلي أن يتحدث عن العظماء ، وعن الرجال الأكابر ..ولكنها لعمري خفقة قلب ملتاع ، وفؤاد محب للعلماء مُجلِّ لقدرهم ، متصاغر أمامهم متطامن بين يديهم.
وكيف لا ؟
و الشيخ الغزالي هو عنوان الجامعة الإسلامية ، ورمزها الخفاق الذي لاح في أفقها ، فهرع طلبة من خيرة شباب الجزائر إلى هذه الجامعة يوم أن فتحت أبوابها كما يهرع الظامئ العطشان إلى حوض الماء العذب يروي ظمأه ، ويفثأ غُلّته .
لقد كان قدوم الشيخ الجليل إلى هذا البلد الطيب الذي نضب معين العلم فيه ، وجفت ينابيعه ، فاتحة خير على هذا الشعب الذي ما فتئ يضج بالضراعة ، ويئن من الألم ، وهو يدفع عن نفسه ضربات الاستعمار الصليبي العتيق ، وهجوم السيل الأحمر الجارف ، قصد سلخه من ذاتيته ، واستئصاله من قراره المكين ، ووضع الأغلال في يديه كي يساق إلى حتفه كما تساق المطية الذلول .
انطلق الشيخ الجليل في هذا البلد يذود عن حياض الإسلام بكل ما أوتي من قوة الشيخوخة المباركة التي تُلحُّ عليها الأسقام من كل جهة ، وراح يسعى لتجفيف المستنقعات الفكرية الحمئة التي خلفها الغزو الاستعماري أيام كان جاثما على صدر هذا البلد ، يحصي عليه الأنفاس ويتربص به الدوائر.
و الشيخ يعلم أن هذه البقعة من العالم العربي والإسلامي مستهدفة قبل غيرها ، وذلك لما تعُج به من طاقات جبارة ، ومعادن نفيسة صلبة ، ولكنها لم تجد من يرعاها ويحركها ويصنعها على عينه فينفي عنها الدخل ، وينفخ فيها من روحه ، فإذا هي شهاب راصدة تلمع في إيهاب الليل ، وتسطع في سدفة الظلام الحالك .
انبرى الشيخ الجليل لهذه المهمة العظيمة ـ و العظائم كفؤها العظماء ـ معتمدا على ربه ، واثقا في نصره ، بعُدّة العالم العارف بما عنده وما عند غيره ، حتى ينساق بين الجماهير الذاهلة الغافلة ، يستنهض عواطفها الراكدة ، ومشاعرها المحنطة ، فتصحو بعد نوم ، وتحضُر بعد طول غياب !.
فتحرك بين الجامعات و المعاهد و المساجد و المراكز ، و حاضر في الملتقيات التي طالما شرُفت منابرها بصعوده عليها ، وكأني بها تقول :
قد زهى المنبر عجبا
أترى ضمّ خطيبا
إذ ترقاكم خطيباً
أم تُرى ضُمِّخ طيباً
إن الشيخ الجليل يعلم أن توصيل كلمة الله للناس سُنة في إبلاغ رسالاته ، “وما على الرسول إلا البلاغ المبين ” ، لذلك لم نجد الشيخ يوما ما يئس من دعوته أو كلّ من جهاده ، ولكنه يمضي دائما في بناء صرح المجد لأمته ، بعاطفة وقودها الإيمان الحار، واليقين الراسخ ، حتى يستوي البناء قائما شامخا عليه من روحه مُنشئه طابع وبرهان .
ما أمتع الأيام التي كنا نسعد فيها بمحاضرات الشيخ الجليل في مدرجات الجامعة .. يبدأ بمحاضرة يوم السبت في علوم القرآن ( من محاور القرآن الخمسة ونظراته الثاقبة فيها ، إلى المكي و المدني وردوده الداحضة لشبهات المغرضين ، إلى الناسخ و المنسوخ ورأيه الثابت فيه ، مرددا قوله:” أدلتي راسخة كالجبال….” .
إلى غيرها من مواضيع علوم القرآن التي يعتبر الشيخ فيها مرجعا وحجة. وقاعة الدرس تغصُّ بالطلبة و الطالبات فلا ترى أعينهم إلا مشدودة إلى الشيخ كما يَشدُّ السراج المنير عيون الحائر في ظلام المحيط ..منهم من يحمل مسجلته يسجل فيها المحاضرة حتى يعاود الانتهال من النبع الفياض ، ومنهم من يلتقط كلمات الشيخ يحفظها في دفتره كما تحفظ الدرر النفيسة، فتكون محاضرة السبت زاد نتبلّغ به عناء أيام الدراسة حتى يوم الأربعاء ، فيلقي الشيخ درس التفسير الموضوعي الذي يعتبر الشيخ فيه مدرسة بل رائدا ، ينتقل بين موضوعات القرآن الكريم ( من المال في القرآن ، إلى المرأة في القرآن ..إلى غيرها من الموضوعات، مستشهدا في كل موضع بحشد من الآيات كأنه معها على ميعاد ، فيكون درس الأربعاء بحقٍ ( مغتسل بارد وشراب) ..
ولا أذكر يوماً أني حضرت محاضرة أخرى في حين يُلقي الشيخ درسه في مدرج الجامعة ، لأنني كنت أخشى أن يأتي اليوم الذي أقول فيه ..” إن التي ضيعتها كانت معي ..” . وقد أتى هذا اليوم .
فها هو العام الدراسي تمر أيامه ولكنها أشبه بأيام السنة الجدبة التي حرمت نعمة الماء ، وسُلبت بركة السماء ، أو ليس العلماء العاملون كالغيث أينما وقع نفع ؟ !
ومما غاضني أن نُحرم من الاتصال بالشيخ ، والاستزادة من نفعه عن قرب ، من طرف أناس لا يرون في الاتصال به إلا أن يتمسحوا على ثيابه كما يتمسح الجُنُب بطيب الحجر الأسود ، ولا يرون فضل الشيخ إلا عندما يأخذون لأنفسهم معه صورا تذكارية يُرَون فيها بجنب الشيخ ، وهم أبعد الناس عن كلامه ، وأشردهم عن تعاليمه وتوجيهاته ، بل إنهم أول من يضعون له العوائق و المعوقات وهو يسعى في طريقه إلى هدفه ، وفي سبيله إلى أداء واجبه ، ولكن ما ذنب الزهرة الفواحة عندما ينبتها القدر القاهر بين سفِّ الرمال و لفح السمائم .
إن وجود العلماء بيننا نعمة يجب أن تغتنمها الأمة فترتوي من نبعهم ، وتسترشد بفكرهم ، وخاصة من أمثال الشيخ الغزالي حفظه الله وأمدّ الله في عمره ، فهو صاحب موهبة فائقة ، وكفاية فريدة ،اصطفاها القدر لتسوق الأمة إلى ربها ،وتهديها إلى سبيله ، وتنفخ في طوايا نفوسها ، وتدقّ على أوتار قلوبها بروح يتوثب ، وإيمان يجيش ، ثم تُولي فتترك لهم الأسوة الحسنة التي تهتاج لها المشاعر المشبوبة ، وترمقها إلى الأبد بنظرات التِجلّة و الاقتداء والإعجاب و التكريم .
وقد ظهر ذلك منذ أن حلّ الشيح الغزالي بأرض الجزائر ، فقد اشرأبّت إليه النفوس المؤمنة ، وتأثّرت بفكره ، الذي يبثه من داخل أسوار الجامعة عبر ( حديث الإثنين) الذي يعدُّ من حسنات ( محطة الإذاعة و التلفزيون بقسنطينة) ، وقد رأيت أناسا أميين يصعب عليهم أن يفقهوا أسلوب الشيخ وطرائق كلامه لكنهم حريصون أشد الحرص على أن يتابعوا أحاديث الشيخ المرئية ، فيتلذذون بآي كتاب الله تنساب من فم الشيخ كما ينساب الماء السلسبيل من المعين الذي لا ينضب ، فضلا عن الطبقة المثقفة التي ترى في أحاديثه شحذا لهممها ، وتثقيفا لمناهج تفكيرها ، وصبّها في قالب إسلامي صحيح .
وكيف لا و الشيخ مدرسة في الدعوة إلى الله ، بأسلوب رائع رائق ، وأداء جيد معجب ، ينفذ إلى القلوب و العقول ، لأنه فكر راقٍ يجمع بين أحكام الشريعة ، ومقتضيات العصر ، أو بالأحرى بين الأصالة و المعاصرة ، بعقل العالم بأسرار التشريع ،الواقف على طبائع الخلق ، وعلل الجماعات .
لقد ظلّ الشيخ من يوم أن نذر نفسه لخدمة دين الله وسياسة دنيا الناس به ـ ” وممن خلقنا أمة يهدون بالحق و به يعدلون” ـ ينفي عن الدين العلائق التي ألصقت به ، ويزيل من على صفحة وجهه المشرق شوائب أذهبت صفاءه ، وسلبته رواءه الجميل ..لذا قال ابن مسعود رضي الله عنه : ” لايزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم ، فإذا أخذوه من أصاغرهم وشرارهم هلكوا ” ، لأن دين الله شُوِّهت حقائقه في ميادين كثيرة من طرف أناس قِصار الباع في فهم الأحكام و المقاصد وأسرار التشريع ، لذلك فالعلماء هم المرفأ الأمين الذي تحث الأمة السير نحوه .
فهو النجاة لمن أراد تخلصا
وهو الملاذ لمن أراد أمانا
لقد أحب المخلصون من الشعب الجزائري الشيخ الغزالي حبًّا غاليا ، وآية ذلك ما نطق به مصدر مقرب من الشيخ أن هناك خمسة آلاف رسالة وصلت إلى الشيخ الجليل من أنحاء القطر الجزائري تبادله عواطف الحب و التقدير والإجلال ، بله عن القصائد التي نظمها الطلبة و الطالبات في الإشادة بفضله و التنويه بجهوده وأعماله .
إن الدولة مشكورة عندما عرفت للشيخ فضله ، وحفظت له جميله ، وذلك بتكريمه بوسام ( الأثير) ـ أعلى وسام استحقاق في الدولة ـ ولست أرى إلا أن الوسام سوف يعلو قدره عندما عُلّق على صدر الشيخ العامر بأنباء الوحي الأعلى وهدي الصراط المستقيم .
ولئن وعد الشيخ الجليل أنه سوف يتردد على هذا البلد مثنى وثلاث ورباع ، فما ذاك إلا حرصا منه على تعهد زرعه الطيب الذي أودع الله فيه سرّ النماء والازدهار ، فإذا هو ينشئ أجيالا ، ويزلزل جبالا ، وإذا بالشعب يصحو على فجرٍ صبوح ، يرمق فيه بارقة مستقبل ثابت الأُس، شامخ الذُرى ، منيف الدعائم ..