والشيخ البشير الإبراهيمي الذي طالت صحبتي إياه، في دمشق عندما كان يزورها (وما أكثر ما كان يزورها) وفي عمان مرات، وفي القدس وفي بغداد.
وطالما خطبت في الحفلات التي كان يخطبفيها، وهو عالم طلق اللسان ناصع البيان، يتدفّق الكلام من فيه تدفّقاً بلا لحن ولا زلل.
وقد كنا يوماً معاً في سيارة واحدة من القدس إلى دمشق ، وكنت إلى جنب السائق حيث تعودت أن أركب دائماً.
وكنا نتحدث ، فتعبت رقبتي من الالتفات إليه لأنني لم أكن أتلو بيتاً من الشعر إلا قال : إنه لفلان الشاعر من قصيدة كذا ، وسرد علي القصيدة كلها أو جلها .
فقلت : كيف حفظت هذا كله ؟ قال : وأخبرك بأعجب منه ، فهل تحب أن تسمع ؟ قلت : نعم .
فراح يقرأ علي مقالات لي كاملة مما نُشر في ( الرسالة ) أو مقاطع كثيرة منها ، ما كنت أنا نفسي أحفظها.
قلت : يا سيدي ، الشعر فهمت لماذا تحفظه ، فلماذا حفظت مقالاتي وما هي من روائع القول ولا من نماذج الأدب ؟ قال :
ما تعمدت حفظها ، ولكني لا أقرأ شيئاً أحبه وأطرب له إلا علق بنفسي فحفظته.
فأظهرت ( صادقاً ) العجب منه والإعجاب به ، وأضمرت في نفسي حقيقة استحييت أن أجهر بها ، هي أنه مرّ علي دهر كنت أنا فيه كما قال.
وأنا لا أزال أحفظ مقاطع كثيرة مما كتب المنفلوطي والرافعي والزيات والبشري وكرد علي وأمثالهم من أئمة البيان ، مع صعوبة حفظ النثر وتفلته من الأذهان.
أما ما أحفظ من الشعر فكثير كثير ، وإن لم يبق منه إلا القليل ، على أن هذا القليل الذي بقي في ذهني كثير والحمد لله.
ذكريات علي الطنطاوي الطبعة الأولى 1407هـ- 1987م – الصفحة41-42 /05 – دار المنارة – السعودية.