لو أن مثقفا أو باحثا أجنبيا، عربيا أو غير عربي، زار الجزائر وأراد أن يطلع على مؤلفات علمائها، القدامى منهم أو المعاصرين، وسأل من يعرف من المثقفين أو الباحثين الجزائريين أين يمكن أن يجد كل هذه الكتب أو بعضها على الأقل ليحصل عليها؟ ترى ماذا سيكون جواب المسئول؟..
بالتأكيد لن يجد هذا السائل من يمكنه أن يجيبه عن سؤاله بما يشفي الغليل.
إن المشكلة في الحقيقة لا تعترض الباحث الأجنبي فقط، بل إنها تواجه المثقف والباحث الجزائري نفسه إذا أراد ان يبحث في موضوع يتعلق بعالم من علماء الجزائر، حيث يجد صعوبة بالغة في معرفة تفاصيل مسيرة حياته وفي الوقوف على مؤلفاته وتراثه الفكري.
الواحد منا نحن الجزائريين لو زار مصر مثلا وأراد أن يشتري مؤلفات أحد علمائها أو أدبائها أو ما كتب عن أحد هؤلاء، لوجد بغيته سهلة سائغة في عشرات المكتبات المنتشرة في شوارع القاهرة وغيرها من المدن المصرية.
وكذلك الحال لو ذهب إلى سوريا أو المغرب أو تونس أو السعودية أو الكويت أو الأردن أو غيرها من الدول العربية، التي تحتفي بعلمائها وأدبائها.
بينما لو أراد الحصول على آثار أحد علماء الجزائر المشهورين من أمثال المشايخ والأساتذة عبد الحميد ابن باديس أو محمد البشير الإبراهيمي أو مبارك الميلي أو الطيب العقبي أو أبي يعلى الزواوي أو المولود الزريبي أو الأمين العمودي أو محمود بوزوزو أو أحمد رضا حوحو أو نعيم النعيمي أو عبد الرحمن الجيلالي أو مالك بن نبي أو أحمد حماني أو عبد اللطيف السلطاني أو أحمد توفيق المدني أو إبراهيم بيوض أو أبي اليقظان أو المهدي البوعبدلي أو محمد الطاهر التليلي أو محمد علي دبوز أو باعزيز بن عمر أو علي مرحوم أو حمزة بوكوشة، لما وجد إلى ذلك سبيلا.
ولو حصل على شيء فإنه سيكون قليلا جدا بالمقارنة إلى ما لا يحصل عليه.
بل ماذا لو أراد أحد من الباحثين أو المثقفين أو القراء العاديين أن يقف على أعمال أمثال أحد الأساتذة محمد الصالح رمضان أو مولود قاسم أو عبد المجيد مزيان أو عبد الله شريط أو أحمد طالب الإبراهيمي أو عمار طالبي أو أبو القاسم سعدالله أو رابح بونار أو محمد بن عبد الكريم أو عبدالرزاق قسوم أو محمد الهادي الحسني أو محمد الصالح الصديق أو صالح خرفي أو محمد ناصر أو عبدالحميد حاجيات أو أحمد عروة أو عبدالله ركيبي أو أبو العيد دودو أو يحيى بوعزيز أو عمار هلال أو محمد الميلي أو عبدالملك مرتاض أو غير هؤلاء من الأسماء اللامعة في سماء الثقافة العربية بالجزائر، ممن رحل بعضهم من قريب وبعضهم ما يزالون أحياء بيننا؟
وماذا لو أن متذوقا للشعر محبا له أراد أن يجمع دواوين شعراء الجزائر من أمثال محمد العيد آل خليفة أو أحمد سحنون أو مفدي زكريا أو الربيع بوشامة أو محمد الأخضر عبد القادر السائحي أو أحمد الطيب معاش أو محمد الشبوكي أو أبوبكر بن رحمون أو أبو القاسم خمار أو مصطفى الغماري أو غير هؤلاء من الشعراء اللامعين المعروفين؟
لاشك أن المهمة ستكون صعبة وعسيرة، وقد يصل الباحث بعد الجد والبحث والتعب والعناء إلى شيء مما يريد وقد لا يصل، وإذا أراد أن يصل إلى كل ما يريد فقد يتطلب منه ذلك سنوات من البحث.
أما لو تعلق الأمر بأحد علماء الجزائر القدامى من أمثال الهذلي البسكري أو ابن معطي أو التنسي أو الثعالبي أو الشريف التلمساني أو ابن قنفذ القسنطيني أو السنوسي، فلربما كانت المهمة مستحيلة.
صحيح أن بعض دور النشر قد انتبهت في السنوات الأخيرة إلى مؤلفات بعض علماء الجزائر وبدأت في نشر بعضها، إلا أن ذلك يبقى في نطاق ضيق ومحدود وفي مناسبات خاصة مثل “الجزائر عاصمة الثقافة العربية” أو “تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية”.
أما أن يكون نشر تراث علماء الجزائر وأدبائها وإنتاجهم الفكري مشروعا دائما ونهجا ثابتا فهذا ما لا أعتقد أن القائمين على دور النشر الجزائرية يفكرون فيه.
وهناك ظاهرة تحتاج إلى وقفة في هذا الصدد؛ فدور النشر الجزائرية إذا طبعت كتابا لعالم أو باحث جزائري مرة واحدة فإنها لا تعود إلى طبعه مرة أخرى، وقد رأينا بعض الكتب تنفذ بسرعة إلا أنه لا يعاد طبعها حتى مع كثرة الطلب عليها، وكأن الناشر يخشى إذا أعاد طبعها أن تكسد سوقها ويتوقف بيعها، أليس غريبا أن يطبع الناشر الجزائري ألف نسخة من كتاب ويخشى ألا تباع في بلد يبلغ عدد سكانه قريبا من أربعين مليون نسمة؟
إن الحقيقة المؤلمة التي يجب أن نقررها هنا هي:
أن الناشر الجزائري ـ والشاذ يؤخذ ولا يقاس عليه ـ غير مقتنع بالمؤلف الجزائري، ويعتبر النشر له بمثابة المغامرة المحفوفة بالمخاطر، وهذا ما دفع بكثير من المؤلفين الجزائريين في السنوات الأخيرة إلى الانفتاح على دور النشر الأجنبية والتعاقد معها على نشر مؤلفاتهم، مع ما يقاسونه مع أصحابها في سبيل الحصول على حقوقهم المادية.
وهذه الدور وجدت فائدة كبيرة في النشر للمؤلفين الجزائريين، لما يقدمونه من مؤلفات تتناول مواضيع هامة وحيوية. بعد هذا الاستطراد نعود إلى موضوعنا.
ونتساءل:
أليس غريبا ألا ينبري بعض علمائنا أو باحثينا لتأليف موسوعة جامعة لتراجم علماء الجزائر تعنى بجمع سيرهم والتعريف بمؤلفاتهم حتى يرجع إليها من يحتاج إلى معرفة هؤلاء العلماء وتراثهم الفكري.
نعم، هناك محاولات للتعريف ببعض علماء الجزائر في مؤلفات مستقلة أو مؤلفات تجمع عددا من التراجم، إلا أنه ليس هناك موسوعة جامعة لكل أو أغلب علماء الجزائر، في حين نجد عند جيراننا في المغرب “موسوعة علماء المغرب” للدكتور محمد حجي في عشر مجلدات.
ونجد عند جيراننا في تونس “تراجم المؤلفين التونسيين” للأستاذ محمد محفوظ في خمس مجلدات.
وعند جيراننا في ليبيا “الجواهر الإكليلية في أعيان علماء ليبيا” لناصر الدين محمد الشريف.
أما في مصر فإن العالم أو الأديب تؤلف عنه المؤلفات وتكتب عنه المقالات، بالعشرات أو المئات، في حياته وبعد وفاته، وكذلك الحال في السعودية وسوريا وغيرها من البلاد العربية.
لكن عندنا في الجزائر العالم أو الأديب يعيش مغمورا لا يسمع به أحد وقبل أن يموت يُهجر ويُنسى حتى من أقرب الناس إليه.
أعتقد أن هذه الظاهرة الغريبة والعجيبة بحاجة إلى دراسة وبحث عن أسبابها وآثارها الوخيمة على المجتمع الجزائري الذي يعتقد الكثير من أبنائه أن بلادهم ليس فيها علماء ولم يكن فيها علماء ولم تنجب في يوم من الأيام أناسا أصبحوا علماء.