” إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، و لكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم و أضلوا ” حديث صحيح رواه البخاري و مسلم و غيرهما.
الفتوى – لغة : من مادة الفتاء بمعنى الشباب عنوان القوة كما حققه اللسان، و هي اسم مصدر الإفتاء، و الفتيا – كما قال – تبين المشكل من الأحكام، و أفتى المفتي إذا أحدث حكما أو جعل لمن استفتاه رخصة و جوازا.
وإنما يبين المشكل و يوضحه، ويصدر الحكم و يشرعه، يوسع و ما من ضاق الأمر يشرحه و من كان عليما بالأمور، خبيرا يحل العويص منها، عارفا بطرق علاج العسير و ذلك ما يعالجه المفتي في الإسلام.
منصب المفتي:
هذا المنصب فى الإسلام من أعظم المناصب و أخطرها، لا يتولاه – في الأصل – إلا العالم الذي بلغ درجة الاجتهاد في الشريعة، لأنه قائم مقام صاحبها عليه الصلاة و السلام في إصدار الأحكام و بيان الحلال و الحرام.
قال الشاطبي في الموافقات “المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه و سلم” و ساق على هذا أدلة كثيرة منها قوله عليه الصلاة و السلام:
“إن العلماء ورثة الأنبياء، و إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما و إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر ” رواه أبو داود و الترمذي من حديث أبي الدر داء رضي الله عنه.
و منها قوله صلى الله و عليه وسلم “بلغوا عني و لو آية” رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو.
و التبليغ وظيفة النبوة:
و منها قول الله سبحانه: “فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم” و النذارة – كالبشارة – من مهام النبوة.
ثم ذكر الشاطبي أن المفتي مخبر عن الله، و موقع على أفعال المكلفين بحسب نظره ن و نافذ أمره في الأمة.
و هو في هذه الأمور كالنبي وارث له قائم مقامه واجب أن يطاع.
وأن العلماء هم أولو الأمر في قوله تعالى:
“يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم” فهذه منزلة خطيرة تبوأها المفتي أو المجتهد كما هو اسمه أيضا عند أهل الأصول.
المفتي لا يكون إلا عالما:
فمن البديهي أن المفتي لا يكون إلا عالما لأنه مبين لأحكام الشريعة و موضح لما أشكل منها على المستفتي.
و إنما ورث من النبوءة العلم كما صرح به الحديث و الآية توجب طلبه، فالتفقه في الدين فرض على المفتين و إجابة الرؤساء الجهال بغير علم لما سئلوا جعلهم من الضالين المضلين.
و لهذا أجمع علماء الأصول على أنه لا ينتصب للإفتاء إلا من كان جامعا لعلوم شتى، و شروط معدودة إن اختل واحد منها لم يجز أن يستفتى و لا أن يفتي.
و كان مالك بن أنس و شيوخه لا يسمحون لكل من شاء أن يجلس في المسجد للأخذ عنه حتى يكون أهلا لذلك.
أما شروط المفتي أو المجتهد التي لابد أن تتوفر فيه و أجمع عليها الأصوليون فهي:
أولا: أن يكون عالما بنصوص الكتاب و السنة فإذا قصر في أحدهما لم يكن أهلا للإفتاء.
قالوا و لا يشترط فيه الإحاطة يهما و بعلومهما، و إنما الشرط فيه أن يعرف كل ما يتعلق بحكم الشرع. و بالغ بعضهم فاشترط أن يحفظ المفتي خمسمائة حديث، و نسب إلى الأمام أحمد، ونسب إليه أيضا أنه قال: أقل ما ينبغي معرفته الأصول التي يدور عليها العلم على النبي صلى الله عليه و سلم و ينبغي أن تكون ألفا و مائتين “اه.
و قال الشوكاني في “إرشاد الفحول”: “أن الحق الذي لا شبهة فيه أن المجتهد لا يكون إلا عالما بما اشتملت عليه السنن التي صنفها أهل السنن كالأمهات الست … وأن يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها و الحسن و الضعيف”
ثانيا: أن يكون عارفا بمسائل الإجماع
أي بالمسائل التي انعقد عليها الإجماع في عصر من العصور السابقة حتى لايفتي بخلافها لأن وقوع الإجماع دليل على أنه الحق فما خالفه باطل.
ثالثا: أن يكون عالما بلسان العرب بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب و السنة من الغريب
و إنما يعرف ذلك من كان عالما بالنحو و التصريف و المعاني و البيان حتى يصير في كل منها ذا ملكة راسخة يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه ، و لا تنبت له هذه الملكة القوية في هذه العلوم إلا بطول الممارسة و كثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن.
رابعا: أن يكون عالما بأصول الفقه، طويل الباع بهذا العلم، مطلع على ما قرره فيه علماؤه مختصراتهم و مطولاتهم.
فإن هذا العلم هو عماد الاجتهاد و أساسه.
خامسا: أن يكون عارفا بالناسخ و المنسوخ بحيث لا يخفى عليه شيء من ذلك مخافة أن يقع في الحكم المنسوخ.
فهذه الشروط الخمسة متفق عليها.
و زاد بعضهم شروطا لم يجمع عليها كالعلم بأصول الدين “علم الكلام” و كالعلم بفروع الفقه و التبحر في كتبه.
ثم لا بد بعد أن استكمل في المفتي شرائط الاجتهاد المتقدم ذكرها – من شروط العدالة و من الكف عن الترخص و التساهل.
مجال نظر المفتي:
و أما مجال نظر المفتي (المجتهد) و ميدان اجتهاده فهو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع، فما كان دليله قاطعا، و حكمه معلوما بالضرورة انه من الدين كوجوب الصلوات الخمس، الزكاة، و الحج على من استطاع، و كحرمة الزنا، و الخمر و الربا و عقوق الوالدين فلا نظر فيه للمجتهد، فالحق قد تعين، و منكر وجوب الواجب أو حرمة المحرم كافر لأنه أنكر معلوما من الدين بالضرورة.
فتوى من لا يبلغ درجة الاجتهاد:
أجاز الأصوليون لمن كان عالما و لم يستكمل شروط الاجتهاد السابق ذكرها أن يفتي بمذهب مجتهد من المجتهدين، بشرط أن يكون أهلا للنظر مطلعا على مأخذ ذلك القول الذي أفتى به متبحرا في مذهب إمامه متمكنا من ترجيح أحد قوليه على الآخر.
و على المستفتي أن يسأل – إذا نزلت به نازلة – .. أهل الديانة و الورع عن العالم بالكتاب العارف بالسنة المطلع على ما يحتاج إليه في فهمهما ليسأله عما نزل به إذا لم يكن في البلد عالم اشتهر عند الناس بالفتوى و هو أهل لها و اتفق علماء الأصول على أنه لا يجوز أن يستفتى مجهول الحال حتى يمتحن من العلماء و يراجع و تثبت أهليته.
ثقل مسؤولية المفتي:
شدد العلماء في شروط المفتي (المجتهد) احتياطا لدين الله، و حماية للشريعة من تلاعب الجهال و الزنادقة، و الفساق، لأن قول المفتي يصبح شريعة يحكم بها، و قد تهرب العلماء من إفتاء و مناصبه خوفا من الله و مهابته، و خشية أن يقولوا – و لو مرة – بغير علم.
و من انتصب منهم للفتوى كان شديد الاحتياط، يتوقف كثيرا قبل الإجابة، و لا يتسرع، فإن بان له وجه الحكم نطق به، وإن أشكل عليه أو غاب عنه أجاب بقوله “لا أدري” و لا يخشى من إعلان جهله أمام الناس، فإن ذلك أولى من أن يقول بغير علم فيضل و يضل غيره وقد اشتهر عن – مالك ابن أنس – و هو عالم المدينة و إمام الأئمة أنه سئل عن ثمان و أربعين مسألة فأجاب في اثنتين و ثلاثين منها قوله “لا أدري”.
قال ابن وهب سمعته يعيب كثرة الجواب من العالم حين يسأل و سمعته عند ما يكثر عليه السؤال يكف و يقول “حسبكم، من أكثر أخطأ” و يعيب كثرة ذلك، نقل هذا أبو إسحاق الشاطبي.
باب الاجتهاد مازال مفتوحا و لكن …
الإسلام دين العلم، و الدعوة إلى التفكير و التدبير و استعمال العقل لا يمكن أن يحجر على المسلمين الاجتهاد، و قد نصّ علماؤنا على أن باب الاجتهاد يبقى مفتوحا.
و مذهب الأمام احمد أنه لا يجوز أن يخلو عصر من العصور من وجود مجتهدين، و هذا يستلزم بقاء بابه مفتوحا لكل من بلغ درجته، و استكمل شروطه أن يجتهد، و لا يجوز له أن يقلد .
قال أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات “الاجتهاد على ضربين:
أحدهما: لا ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف و ذلك عند قيام الساعة.
والثاني: (يمكن) أن يقطع قبل فناء الدنيا … ا ه.
فهذا الأصولي العظيم عندما ذكر انقطاعه ذكر كلمة (يمكن) مجرد الإمكان و لم يجعله حتما.
فما على من أراد أن يطرق الاجتهاد أن يشمر على ساق الجد حتى يستكمل شرائطه و ينتصب حبرا أعظم في مجتمع المسلمين …
ولكن إذا قلنا أن باب الاجتهاد مفتوح فليس معنى هذا أنه (يجوز) لكل أحد أن يلج منه، و يتربع على كرسي المفتي ليكون قائما مقام النبي صلى الله عليه و سلم يشرع للناس ما لم يأذن به الله، و يحل ما حرم الله، و يحرم ما أحل الله.
إن هذا الباب محجور دخوله إلا على من ملك و سائله و توفرت فيه شروطه، من التبحر في علوم الشريعة المتقدم ذكرها و من التزام أحكام الدين والاتصاف بالعدالة، و البعد عن التساهل و تتبع الرخص.
صنفان خطيران من مجتهدي العصر :
صنفان من مجتهدي العصر نبتت نبتتهما في مجتمعنا المعاصر في الشرق و الغرب، أحداهما عن سوء نية و سبق إصرار، و الأخرى من حسن نية و (تقليد) و جهالة بالإخطار.
نحن حرب على الأولى، و دعاة للهداية و الإرشاد للثانية.
الطائفة الأولى: قالت إن الإسلام فتح باب الاجتهاد فنحن أهله و أولى الناس به فتعالوا نجتهد و نجدد، إذ لا خروج لنا من التخلف إلا بالاجتهاد و التجديد، فيم نجتهد و ماذا نجدد؟ في النظر فيما علم من الدين بالضرورة كركن أو واجب أو حلال أو حرام، ينسخون و يمسخون و يبدلون كلام الله و (يجتهدون).
و اقتحموا – فيما اقتحموا صوم رمضان، و إباحة تعدد الزوجات في الإسلام، و قضية الميراث، وأحكام الزواج و الطلاق و العدة و إباحة ما حرم من المأكل و المشروبات.
و لهؤلاء نقول ليس هذا اجتهادا و لا تجديدا وإنما هو إلحاد وزيغ، لا اجتهاد فيما فيه النص، و ما علم من الدين بالضرورة و لستم ممن توفرت فيه شروط. الاجتهاد من الرسوخ في العلم، و لا ممن اتصف بالعدالة التي هي أول شروطه و كيف يتصف بها من أنكر وجوب الأركان، و عطل آيات القرآن؟
و أما الطائفة المرحلة النهائية: فاجتهدت فى العبادة و تهجدت، و التصقت بالسنة وتزمتت ثم قالت:
نرفض الأحكام المنصوصة في مذاهب الأئمة المجتهدين، وفي كتب العلماء و الفقهاء المؤلفين و نأخذ الأحكام مباشرة بما جاء في الكتاب المبين أو في حديث خاتم النبيين.
و أخذوا يحكمون بالبدعة في ما هو موطن خلاف، و يحدثون الفرقة بين جماعة المسلمين.
و نحن نقول مرحى لشبيبة الإسلام المفلحين، إن في كلامكم هذا مسحة من الحق قد تؤدي إلى الهلاك المبين، إن هذا القول يوهم أن ما تركه مالك و أبو حنيفة و الشافعي و أحمد و أصحابهم من العلماء المحققين قسيم للكتاب و السنة، و على كل مسلم إما أن يأخذ بالكتاب و السنة أو يأخذ بما تركه هؤلاء الأئمة من إرث في الدين و ليس هذا هو الحق، و إنما اجتهد هؤلاء الأئمة و بينوا واستنبطوا الأحكام و أزالوا الشبهات.
و هم أولوا العلم الذين أرشدنا ربنا ألي الأمور إليهم رد فى قوله تعالى: ” و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ” فهم اللذين يكشفون لنا من الشبهات ما يخفى على كثير من الناس كما جاء في قوله صلى الله عليه و سلم:
“الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس” كل من هؤلاء العلماء و الأئمة التزم الكتاب و السنة و ترك لتلاميذه وصية ” إذا وجدتم قولي يخالف الكتاب أو السنة فاضربوا به عرض الحائط “.
و إنما نقلدهم فيما اجتهدوا فيه – دون أن نتعصب لواحد مخصوص فيهم – لأنهم بلغوا درجة الاجتهاد و قصرنا.
و ليس لأحد منكم أو منا أن يقول أن باستطاعته – في حالته الحاضرة – أن يستنبط بنفسه في الكتاب و السنة، فإن زعم ذلك فقد ادعى الاجتهاد و صدق عليه أنه ترأس قوما لم يبق فيهم عالم فسئل فأجاب بغير علم فأضل و أضل فخذوا إرث هؤلاء المجتهدين .
و حذار من كتب حديثة ودعاوي مدعين فإنهم وضعوا أنفسهم موضع المجتهدين، و قالوا لكم خذوا بأقوالنا، و ذروا أقوال المتقدمين، و حكموا على كل من خالفهم بالابتداع، مع أنه له مستندا، و فسقوا المثقفين، و من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما كما جاء في سنة الرسول الأمين.
إننا ننصح لهؤلاء الأبناء و الإخوان أن يطلبوا العلم حتى يتمكنوا من فنونه و يكونوا من أهله، و يصبح لهم ملكة راسخة يكتشفون بها ما أشكل و يعرفون رجاله الحقيقيين، و الأدعياء المزيفين، و الكتب الصحيحة المعتمدة في الفتوى عند أهلها و أهل العلم.
و ليكن التصدي لتفسير القرآن و شرح الحديث بعد التمكن من فنون العلم و استكمال الأدوات و ليكن الانتصاب للفتوى بعد توفر الشرائط، و قد سمعنا تحذير النبي صلى الله عليه و سلم من انتصاب الرؤساء الجهال و إقدامهم على الجواب بغير علم، فاتهم نفسك يا أخي، و اسألها ، و لا تركن إليها فإنها لأمارة بالسوء .
* نشرت بمجلة الرسالة التي كانت تصدر عن وزارة الشؤون الدينية بالجزائر العدد الأول سنة ه 1400/1980 م