فقدت الجزائر ومدينة (المدية) بالخصوص، بحر الأسبوع الماضي، عالمًا فذًا وأخًا عزيزًا هو البروفيسور رضوان بن غربية، الأستاذ المعروف بأدبه الجم وأخلاقه الراقية..
عاش حياته متواضعًا، يدرّس، يعلّم، يفقّه، وينصح في السرّ.. وقد كان له رحمه الله مؤلفاتٌ عظيمة وتحقيقات نافعة؛ كانت ولا تزال محلَّ اهتمام طلاب العلم وموضع عنايتهم، يكثرون من الرجوع إليها والإفادة منها.
إنّ الموت قدر محتم على كلّ حيّ، لا ينجو منه كبير ولا صغير، ولا غني ولا فقير، ولا شريف ولا حقير، ولا حاكم ولا محكوم، ولا عالم ولا جاهل، ولا ذكر ولا أنثى.. الموت نهاية الحياة الدّنيا، وبداية حياة الآخرة. يقول تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}.
وإنّما يعظم أمر الموت، ويفظع شأن المصاب، إذا كان المفقود عالمًا من علماء الأمّة، تستنير بعلمه البلاد، ويستضيء بفقهه العباد. فالعلماء ورثة الأنبياء، وجودهم خير عظيم، وفقدهم مصاب جسيم.
فهم نواب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الدّعوة إلى الله، وهم الملاذ – بعد الله تعالى – لبيان مراد الله من دينه. يقول تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
عن عمرو بن العاص قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: “إنَّ الله لا يَقبض العلمَ انتزاعًا يَنتزعه من العباد، ولكن يقبض العلماء حتّى إذا لم يَبْقَ عالمٌ اتّخذ النّاسُ رؤوسًا جُهَّالًا فسُئِلوا فأفْتَوا بغير علم فضَلُّوا وأضَلُّوا”.
قال الحسن البصري: موت العالِم ثلمة في الإسلام لا يسدُّها شيء ما اختلف اللّيل والنّهار.
وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك النّاس؟ قال: إذا هلك علماؤهم. وقال سفيان بن عُيَيْنة: وأيّ عقوبة أشدّ على أهل الجهل من أن يذهب أهل العلم.
بل إنّ موت العلماء شرط من أشراط السّاعة، يقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “إنّ من أشراط السّاعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل”. ولهذا يُعدُّ موت العالم خسارةً فادحة ونقصًا كبيرًا وثُلمةً في الإسلام لا تُسَدّ.
ولقد بليت بلادنا مع جائحة كورونا في الأشهر الأخيرة بفقد عددٍ من علمائها الأخيار ومصلحيها الأبرار ممّن لهم في العلم قدم راسخة، ومكانة عالية، وجدٌّ واجتهاد، وبذلٌ وعطاء، عبر عُمُر مديد، وحياة حافلة بالجود والسّخاء.
ولا يخفى على كلّ مسلم مكانة العلماء ورفعة شأنهم وعلوّ منزلتهم وسموّ قدرهم، إذ هم في الخير قادة وأئمة تُقتصُّ آثارهم، ويُقتدى بأفعالهم، وينتهي إلى رأيهم، تضع الملائكة أجنحتها خُضعانًا لقولهم، ويستغفر لهم كلّ رطب ويابس حتّى الحيتانُ في الماء، بلغ بهم علمهم منازل الأخيار ودرجات المتّقين الأبرار، فسمت به منزلتهم وعلت مكانتهم وعظم شأنهم وقدرهم، كما قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
موت العلماء مصيبة وأيّ مصيبة، إنّها مصاب للأمّة جمعاء لأنّهم مصابيح الدجى وعلامات الهدى هم كالشّمس في النّهار، والعافية للبدن. ولهذا فإنّ فقدَهم خسارة فادحة، وموتهم مصيبة عظيمة، لأنّهم نور البلاد، وهداة العباد، ومنار السّبيل، فقبضهم قبضٌ للعلم، إذ إنَّ ذهاب العلم يكون بذهاب رجاله وحملته وحفاظه.
وحُقّ للأمّة أن تحزن لموتهم، وتأسى لفراقهم، لأنّ ذلك ثُلمة في جدار المسلمين، وشرخ في بناء حضارتهم. قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}؛ قال ابن عبّاس في رواية: “خرابها بموت علمائها، وفقهائها، وأهل الخير منها”. وقال مجاهد: “هو موت العلماء”.
وإذا نظرنا في صفحات التاريخ رأينا صفحات مشرقة وسيرة عطرة ومآثر ندية لعلماء الإسلام الأعلام كيف كانت حياتهم وكيف ضحّوْا بمهجهم وأفنوا أعمارهم في العلم والتّعليم ونفع النّاس.
ورغم أنّ هؤلاء قد رحلوا إلى الدّار الآخرة كغيرهم ممّن رحلوا عن الدّنيا، إلّا أنّ ذكرهم باق، والذّكر للإنسان عمر ثان فمازلت أنهار هؤلاء العلماء جارية وينابيعهم صافية يستقي منها الظمآن ويرتوي منها العطشان وهؤلاء هم علماء الأمّة الصّادقون العاملون في كلّ عصر ومصر.
اللّهمّ اغفر لأخينا رضوان بن غربية واجزه عنّا وعن الإسلام والمسلمين خير ما جازى عالمًا عن أمّته وبلده، اللّهمّ نوِّر له قبره، اللّهمّ ارحمه تحت الأرض، اللّهمّ ارفع درجاته في المهديين، اللّهمّ بَوّئهُ الفردوس الأعلى، اللّهمّ اجمعنا به في الجنّة، اللّهمّ اجزه عنّا وعن المسلمين خيرًا، اللّهمّ اخلُفه في عقبه، اللّهمّ اجْعَل البركة في أبنائه وطلابه ومن حمل علمه يا ذا الجلال والإكرام.