شيخي العلامة أحمدو ولد محمد حامد الحسني الشنقيطي – رحمه الله -، نزيل المدينة النبوية، أحد أساطين العربية وأفذاذها، وأعجوبة هذا الزمان في الحفظ، ومحفوظاته – في الشعر فقط – تربو المائة ألف بيت، وكان يحفظ لسان العرب لابن منظور كاملا، وجميع دواوين العرب نثرًا وشعرًا؛ كالمعلّقات والمفضليات، والأصمعيات، وفي علوم اللغة يحفظ الألفية واللامية والاحمرار ومثلث قطرب وعقود الجمان، وغيرها من الفنون كالأصول والفقه، يحفظ مراقي السعود، والسلم في المنطق، فضلا عن المنثور؛ كمختصر خليل، والرسالة…
كنت أتردد عليه – أيام الدراسة بالمدينة المنورة – طيلة خمس سنوات ببيته بمنطقة قباء في وقت القيلولة، وهو أفضل الأوقات التي فيها أنفرد بالشيخ وتطول حصتي معه؛ لقلة تنقل طلبة العلم إليه في ذلك الوقت بسبب شدة حرارة منطقة الحجاز ، وكان درسي معه – آنذاك – في ألفية ابن مالك في النحو.
وكان الشيخ – بفضل الله – يكرمني بحصة ثانية في الفقه المالكي بعد المغرب في المسجد النبوي الشريف؛ حيث كان يجلس قريبا من الروضة الشريفة، مع أن الشيخ لا يسمح بجمع فنين دفعةً واحدةً، ولن يقبل ذلك بأي حال من الأحوال، وكان كثيرا ما ينشد:
وفي تزاحم العلوم المنع جا ** كتوأمين استبقا لن يخرجا
وكان مثالا عجيبًا في التواضع، وخفض الجناح، والرفق بطلبة العلم، واستقبالهم، والسؤال عنهم، وكان عند تدريسه يستر فاه بطرف عمامته أو غترته، ويلقي الدرس وهو متكىءٌ على مرفقه إذا كان في بيته، وكان من العادة عند تدريسه لي إذا جاءت معلومة مهمة وأراد مني تثبيتها أمسكني من أذني ورددها علي مراتٍ ومراتٍ.
ومن العجيب أني كنت أحصي للشيخ من الشواهد الشعرية في الدرس الواحد ما يقرب الأربعين بيتا في المجلس الواحد فضلا عن حفظه لأقوال العلماء والمقارنة بينها ومناقشتها والاستطراد، ثم التعقيب عليها…، هذا بالإضافة إلى تلخيصه لجميع ما قاله في الدرس في أبياتٍ في آخر الدرس، مبتدئا لها بقوله قال جَدِّي: …..
وكان إذا جاءه الطالب ليدرس عنده علوم اللغة يختبره في الفقه أولا، فإن وجده ملما بفروض الأعيان قَبِلَ تدريسه اللغة، وإلا نصحه بالفقه، ورفض تدريسه اللغة.
وأتذكر أنه سألني مرة ماذا تدرسون في الجامعة الإسلامية؟، فأخبرته بما ندرس من فقه ولغة ووو، فقال لي: وكيف تتخرجون من الجامعة ومتى؟، قلت له بعد إكمال جميع المقررات والحصول على الشهادة، فقال لي: اعلم يا بُنَي إن لم تكن ضابطًا للعلم حافظًا له فالشهادة هي شهادة زورٍ لن تنفعك لا في الدنيا ولا في الآخرة.
كان الشيخ نموذجًا عجيبا في العبادة والورع، وأغلب أوقاته صائمًا، وكان يفضّل التنقل مشيًا على الأقدام من بيته إلى المسجد النبوي ذهابا وإيابا، ولا يفضل الركوب إلا ناذرا.
أكرمني ربي بملازمتي للشيخ طيلة تلك السنوات وأخذت منه – بفضل الله – شرح ألفية ابن مالك في النحو، ونظم أسهل المسالك في مذهب مالك، ومختصر خليل، والمنهج المنتخب في قواعد المذهب للزقاق.
وشاء الله عز وجل أن يغادر شيخنا هذه الدنيا والأمة محتاجة إلى علمه، ولكن الكثيرون بحمد الله ورثوا علم الشيخ، وأكبر من وَرِثَ علم الشيخ ابنه المختار – حفظه الله – وكان آنذاك مقيمًا بالمدينة، فهو نسخة من أبيه في حفظ العلوم وجمعها، وقد قابلته مرات عديدة هناك. وله ابن آخر كان آنذاك مقيما بموريتانيا ولما أتشرف بمقابلته والجلوس إليه بعدُ.
وختامًا هذه أزهار قليلة جدًا قطفتها سريعًا من رياض سيرة الشيخ، لا توفي بحق الشيخ عليَّ، ولكن سأُفرِدُ له مقالا آخر أكثر تفصيلا في قابل الأيام إن شاء الله.