في مدينة قازان، عاصمة تاترستان، وعاصمة المسلمين كلّهم في الجمهوريات الإسلامية التابعة سابقا للاتحاد السوفياتي، وفي مدينة أوفا عاصمة بشقرستان، وفي داغستان…إلخ… أينما توجهتُ ، أينما نزلتُ، كان طلبة العلم يحدثونني عن الأستاذ عبد الرحمن السنوسي….
الأئمة يكادون جميعهم ينسبون له المشيخة والأستاذية عليهم…
الكلّ هناك يفتخر لأنّه تتلمذ على يديه….
في أسفاري لا أنظر إلى الحوادث مجرد نظرة سطحية، لكن أحاول أن أحلّلها في حينها…أن أبحث عمّا وراء الصورة، وما تحت الأسطر، وما لا يقوله المتكلم أكثر ممّا يقوله…. لهذا انتبهت إلى أنّ هؤلاء الذين ينتسبون للأستاذ عبد الرحمن السنوسي ليسوا مثل غيرهم من الشباب، لا أرى فيهم ملامح التّعصّب، أسمع إليهم فأرى مسلمين يعيشون إسلامهم بأعراف بلدانهم، ينطلقون في مختلف علومهم من مصادر بلدانهم، أنظر إليهم فأراهم كلّهم يهتمون بفقه الواقع، ألمح فيهم كلّهم صحّة المعتقد، الأخلاق العالية والتربية الوافية…والحبّ الشديد لشيخهم ومعلّمهم الأستاذ عبد الرحمن.
يومئذ للأسف الشديد… لتقصير منّي لم أكن أعرف عن الأستاذ عبد الرحمن السنوسي سوى كونه أستاذا جزائريا…لكن هذه الموصفات التي يجمعها تلامذته، جعلتني أسأل عنه، أبحث عن سرّ تأثيره… لماذا هو دون غيره، يحبونه؟ ينسبون أنفسهم إليه؟…في هذه البلاد أزهريون كُثُر، أساتذة من تونس من الأردن من العراق من اليمن…لكن هؤلاء لم يذكرهم أحد…
والأستاذ عبد الرحمن السنوسي بعضهم لا يعرف أنّه جزائري، ولا يعرف أنّه من بلدي… إذا السبب ليس متعلقا باتحاد جنسيتنا القومية… بل بشيء في هذا الرجل لا يشترك فيه معه غيره…. ما هو ؟
بِتُّ أسأل جميع من يشير إليه من تلامذته أو يذكره، عن علمه، عن طريقة تدريسه، عن المدة التي بقي فيها مدرسا…..عن كلّ شيء يخصّه….
هناك علمتُ سرّ نجاحه… دون غيره…وعلمتُ لماذا يحبُّه الجميع….ويذكرونه في كل ساعة وحين، ويثنون عليه في كل مجلس ومحفل…
هذا الرجل، عاش معهم التزم أعرافهم، لم يجلب لهم كما يفعل غيرهم أعرافا بعيدة عنهم.. لا يحدثهم بلهجات قومية كما يفعله أكثر إخواننا المشارقة، بل تعلّم لغتهم ودرّسهم بها…ما كان همّه المنحة والمبلغ المالي الذي يكسبه من تدريسه، وقد شعر الطلبة بهذا وحدثوني عنه؛ قالوا كان يدرسنا الليل والنهار، في المدرسة وخارجها، كان يتعب معنا، ويجتهد معنا، أكثر من تعبنا واجتهادنا لأنفسنا… بل كان يهتم، ويحزن، ويغضب لنا….
حدثني أحدهم قال كان الأستاذ عبد الرحمن يؤكّد على تعلّم اللغة العربية أكثر من كلّ شيء آخر… قال كنت أشعر بتعبه، أشعر بجدّه واجتهاده من أجل أن نتعلمها… قال لكن أنا لم أستطع أن أتعلمها، كنت أتلقى المعلومة في الصباح، فأنساها في المساء…
يقول فغادرت المدرسة ولا همّ لي سوى تعلم العربية ، ثم العودة للأستاذ عبد الرحمن حتى يفرح بي ويشعر أنّ جهده لم يضع.
هذا الشاب يا إخوان… بحث عن أفضل بلد يمكن أن يتعلم فيه العربية ؟ فاختار موريتاني… كان يظننا نحن المنتسبون للعرب، كعرب زمان الفصاحة في بوادينا وفي المناطق النائية… فاختار موريتانيا… بقي فيها سنتين أو ثلاثة… عاش خلالها ظروف عصيبة حدثني عن الماء الذي كان يشربه، عن الأكل الغريب الذي كان يحتمله من أجل تعلّم العربية، عن الحرارة غير العادية، عن مرضه بسبب الظروف المناخية، عن مقاساة مستمرة ومعاناة متواصلة….
لكنّه تعلّم العربية وصار يتحدث بها بطلاقة ويقرأ بها مصادر علوم الإسلام بكل سهولة ويسر….
وعاد إلى قازان يريد أن يلتقي بالأستاذ عبد الرحمن… ليفرحه، ويسعده لأنّه تعلّم العربية… لكنّه وجده قد سافر… فبقي هذا الشعور حبيسا في صدره، حتى التقى بي فكلفني بأمانة إخباره بما وقع له،… والتي كانت أوّل ما تحدثت به للأستاذ عبد الرحمن لمـّا التقيته أوّل مرة في أروقة كليّتنا…
قصة أخرى أقصُّها عليكم حتى تعلموا أسباب تأثير هذا الرجل فيهم…مدة التدريس في المعهد -الذي كان فيه الأستاذ – أربع سنوات، خلال السنة الثانية لاحظ أنّ الضبط والتحصيل ضعيف… الأستاذ لم يكن يرغب في تخريج موظفين تبرأ بهم ذمة المسلمين في إقامة “جمعات” و”جنازات”…. وكفى.
كان يرغب في تخريج أئمة يشعرون بمسؤولياتهم تجاه أمتهم، وبواجبهم في إخراج هذه الأمة من براثين الجهل والإلحاد، ومواجهة المدّ الروسي بكلّ تجلياته…لهذا أوقف الأستاذ الجميع… وأعلن أنّ الأمر خطير… يحتاج إلى وقفة وتأمل، وبحث عن سبيل معالجة الأمر قبل فوات الأوان…طالب المسؤولين بإجراء استثنائي قويّ يجعل الطلبة يبدلون أكثر ويقدمون جهدا أكبر…فاهتدوا إلى معاقبتهم بسبب تقصيرهم بالتقليص من حجم الوجبة المقدمة إليهم كما وكيفا… فأصبحوا لا يتناولون إلاّ وجبة واحدة في اليوم قاصرين فيها على الضروري الذي يقيمون به صلبهم ليس إلاّ….
أخبرني غير واحد ممّن حضر هذه الحادثة… أنّهم تململوا…تكلموا…انتقدوا….قالوا هذا ظلم… لكنّهم سكتوا جميعا لمـّا علموا أنّ الأستاذ عبد الرحمن على خلاف غيره من الأساتذة والإداريين التزم هو نفسه بهذا النظام…
يقول أحد طلبته… كان هذا بالنسبة إلينا انتقادا لا نحتمله… يقول لقد بكى كثير من الطلبة من أجل هذا الموقف…يقول كنا نجوع ولكن لا نفكر في أنفسنا بقدر ما نفكر في أستاذنا وهو ضعيف البنية كيف يجوع من أجلنا….
هذا الشاب الذي قصّ عليَّ هذه القصة… وقد أصبح فيما بعد إماما مسؤولا وخطيبا مفوّها وداعية نشطا ورجلَ أعمال ناجحا…كان يقول كلّ أملي أن أرد لهذا الرجل شيئا ممّا قدّمه لنا…كنت أقول له كن كما كان يريدك أن تكون… كن داعية إلى دينك في بلدك…مرابطا على ثغرك… قلعة يلجأ إليها المسلمون ويتحصنون فيها…
هذه القصة سمعتها فيما بعد من الأستاذ عبد الرحمن – حفظه الله – نفسه، وحدثته عن هذا الشاب، فعرفه وقال لقد جاءني من مدينة أوفا إلى استنبول… وحلف له بالله أن يخدمه خدمات الابن لأبيه والخادم لسيده…وبقي كذلك مدة إقامته في تركيا…
لا أريد أن أعلق على هذه القصة…. سوى بقولي من أردا أن يؤثر في النّاس فليحبهم أوّلا… وليجهد نفسه في خدمتهم ثانيا….
إلى الشباب على وجه الخصوص…إن “الأخ” هو الذي يعيش لأمته… هو الذي يرغب في صلاحهم وهدايتهم ونجاتهم…وأبدا لن يكون ذلك بهجرتهم والاستعلاء عليهم، لن يكون ذلك بتعداد أخطائهم… بل بالبحث عمّا يقربهم ويحببهم فيك… حتى تؤثر فيهم وتحاول إصلاح شأنهم…
حقظكم الله اهل الجزاير الطيبين
ممكن رقم وعنوان زميلنا الدكتور عبدالرحمن السنوسي وشكرا