القرضاوي قارئ نهم للغزالي:
بدأت العلاقة بين الشيخين بالمطالعة حيث كان الشيخ الغزالي قد نشر مجموعة من الكتب التي نالت رواجا بين أوساط الشباب المصري رغم التعتيم والمراقبة والمتابعة القضائية والمصادرة التي كانت تمارسها السلطة المصرية.
وقد نقل الشيخ الغزالي في مذكراته وقائع الجلسة التي وقف فيها أمام القاضي مدافعا عن أشهر كتبه المصادرة وهو كتاب ” كفاح دين” الذي تحدث فيه عن المؤامرات التي تحاك في مصر ضد الصحوة الإسلامية.
وكان من أنجح كتب الغزالي في الأربعينات: الإسلام والأوضاع الاقتصادية، الإسلام والمناهج الاشتراكية، الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين.
كما لقيت مقالاته الأسبوعية في مجلة ” الإخوان المسلمون” قبولا كبيرا عند القراء. فكان الشيخ الغزالي يكتب في كل أسبوع مقالا نقديا في ركنه الثابت: “خواطر حرة”.
وكان مقاله الأول بعنوان: “الإخوان المسلمون والأحزاب”، بعد أن اكتشفه الشيخ حسن البنا ضمن المقالات المهملة، ثم راسله ليثني على باكورة إنتاجه الرصين، ويشجّعه على مواصلة الكتابة.
ولنترك الشيخ الغزالي يروي هذا الحدث الذي وقع له وهو ما زال طالبا في جامع الأزهر، وأثّر فيه كثيرا. قال الشيخ الغزالي: ” كتبت يوما مقالا، وأرسلته إلى مجلة الإخوان، وارتقبت نشره، فلم ينشر، وساء ظني بنفسي فتركت الكتابة… وبغتة تلقيت بالبريد رسالة من المرشد العام، عرفت فيما بعد نبأها… لقد دخل إدارة المجلة وساءل الأستاذ صالح عشماوي رئيس التحرير: لماذا لا أقرأ للإخوان مقالات جيدة؟ وما السبب في ضعف المجلة؟ ومدّ يده – غير متعمد- إلى ملف المحفوظات المنتفخ بالمقالات التي رئي عدم نشرها، ووقع بصره على مقالي ! وغضب غضبا لإهماله، وأمر بجعله افتتاحية العدد المقبل.”
وأورد الشيخ الغزالي بعد ذلك النص الكامل لرسالة الشيخ البنا التي تكشف عن فراسة هذا الداعية وقدراته القيادية العالية، وتحمل الثناء الجميل والتشجيع الصادق من أجل أن يواصل هذا الشاب الإبداع الفكري.
وهكذا دأب الشيخ الغزالي على الكتابة في مجلة “الإخوان المسلمون” حتى صار من أشهر كُتابها. وتشجيعا له مرة أخرى، عيّنه الشيخ حسن البنا سكرتيرا للتحرير فأصبح يكتب مقالات عديدة باسمه الصريح، وبتوقيعات مستعارة.
وفي فترة قصيرة، تجاوزت شهرة الغزالي مصر لتصل إلى القراء في الدول العربية والإسلامية التي تصل إليها هذه المجلة المصرية.
وكان من أكثر المعجبين بكتاباته الطالب يوسف القرضاوي الذي كان يحرص دائما على مطالعة هذه المجلة. قال في هذا السياق: ” كان يشدني إليه فكره الثائر، وبيانه الساحر، وأسلوبه الساخر.
وكان الغزالي يحمل روح الرافعي وتألقه، وسهولة المنفلوطي وتدفقه، وتأمل العقاد وتعمقه. وانعقدت بيني وبين الغزالي الكاتب – على بعد- صلة عقلية وروحية عميقة، من جانب واحد طبعا، بحيث كنت أترقب المجلة لأقرأ – أول ما أقرأ فيها- مقالتين: مقالة محمد الغزالي، ومقالة عبد العزيز كامل”.
وازداد القرضاوي حبا وتعلقا بالشيخ الغزالي حينما اكتشف أن هذا الأخير هو خريج جامع الأزهر الذي ينتمي إليه هو أيضا، بعد أن أعتقد ردحا من الزمن أنه من خريجي المدارس الحديثة نظرا لمعالجته لقضايا معاصرة بأسلوب جذاب.
وأصبح القرضاوي يتابع الغزالي عبر مقالاته في المجلات المختلفة، أو عبر كتبه المتعددة. كما كان يدافع عن أفكاره، وينصره في معاركه الفكرية مع الشيوعيين والحداثيين المتطرفين.
لقاء في الطريق إلى السجن:
كانت سنة 1948 عام حزن وابتلاء بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين، اغتيل فيه مرشدها العام حسن البنا، وصدر قرار حل الجماعة، واعتقل عدد كبير من أعضائها وقادتها، وكان منهم الشيخ الغزالي ويوسف القرضاوي الطالب آنذاك في السنة الخامسة ثانوي بمعهد طنطا الديني.
ونقل المعتقلون في سفينة إلى معتقل الطور بسيناء. وألقى الشيخ الغزالي أثناء الرحلة خطابا مؤثرا اكتشف القرضاوي بشكل مفاجئ أن الخطيب المصقاع هو ذلك الكاتب الذي أحبه وأعجب به عن بعد، وهو يقف قريبا منه يرفع من معنويات الجميع.
وكان الشيخ الغزالي يؤمهم في الصلوات، ويلقي عليهم الدروس في شؤون الدين والحياة، ويقدم لهم محاضرات في الفكر والسياسة.
وقد جمعها فيما بعد في كتاب، ونشره بعنوان: “الإسلام والاستبداد السياسي.”
وحكى الشيخ القرضاوي تفاصيل هذه الصحبة في سجن الطور في مذكراته المنشورة في دار الشروق.
التقارب والتعاون:
وبعد خروجهما من السجن في سنة 1949، بقيا على صلة، وازدادا قربا. فلمس الأستاذ في الطالب الذكاء وصفاء النفس والغيرة على الدين والفعالية، بينما وجد الطالب في الأستاذ العلم النافع، والصدق في القول، والإخلاص العمل.
قال القرضاوي متذكرا تلك الأيام الجميلة: “كنت أنا وأخي وزميلي أحمد العسال على صلة وثيقة به، نزوره، ونتحدث إليه، ونستمع منه، وكثيرا ما كان يدعونا إلى الغذاء في بيته في درب سعادة بحي الأزهر، فنشبع من جيد طعامه، كما نشبع من جيد كلامه، هذا لعقولنا ، وذاك لبطوننا.”
واستمرت العلاقة بين الغزالي والقرضاوي بعد ذلك ولم تنقطع. ورحلا الاثنان عن مصر للتدريس في الخليج العربي.
القرضاوي يكتب عن الشيخ الغزالي:
كتب الشيخ القرضاوي كتابا عنوانه ” الشيخ الغزالي كما عرفته”. وكان الكتاب في الأصل مقالة كتبها للمساهمة في حفل تكريم الشيخ الغزالي بمناسبة بلوغه سبعين سنة في عام 1987.
لقد صدر الكتاب والشيخ الغزالي على قيد الحياة، فقرأ جزءا منه، وحمله معه إلى الرياض ليكمل قراءته خلال رحلته إلى السعودية للمشاركة في تظاهرة الجنادرية الثقافية. وقد توفي الشيخ الغزالي خلال أشغال هذه التظاهرة يوم 9 مارس 1996. وقد صدرت لهذا الكتاب منذ هذا التاريخ عدة طبعات.
وتضمن الكتاب عشرة فصول منها ما سبق أن نشره في مجلة إسلامية المعرفة ، أو قدمه محاضرة في الندوة التي نظمتها ثلاث مؤسسات فكرية (المعهد العالمي للفكر الإسلامي، المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية وجمعية الدراسات والبحوث الإسلامية) في عمان بالأردن في جوان 1996.
والحق أن الكتاب هو دراسة لتراث الغزالي لأنه لم يتناول الحياة المشتركة بين العلميْن إلا في صفحات قليلة اقتصرت على فترة الأربعينات من القرن العشرين، بينما عاش الرجلان قرابة نصف قرن في صحبة وإخاء مضربة للمثل في الوفاء والإخلاص.
ولابد أن أشير هنا إلى أن عددا من تلامذة الشيخ الغزالي وأصدقائه ألفوا حوله كتبا ودراسات أذكر منهم على سبيل المثال: محمد عمارة وعبد الحليم عويس وعمار الطالبي وطه جابر العلواني وفهمي جدعان وكاتب هذه السطور …الخ.
الصحبة … الصحبة:
مناسبات ومواقف كثيرة جمعت بين الشيخين الغزالي والقرضاوي، في مصر وخارجها في مجال الدعوة والتبصير والتعليم. فما أكثر الملتقيات والمؤتمرات التي شارك فيها الرجلان جنبا إلى جنب، كان أشهر هذه الملتقيات التي تجمعهما في كل عام ملتقى الفكر الإسلامي في الجزائر.
كما درّسا معا في كلية الشريعة بجامعة قطر لعدة سنوات، وألفا كتبا في سلاسل واحدة ك”كتاب الأمة” ، أو ” قضايا الفكر الإسلامي” التي كان ينشرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
وساهما معا في مجلات إسلامية متعددة خاصة في مجلة الدوحة ومجلة الأمة القطريتين.
ولقد أوصى الشيخ الغزالي الحكومة الجزائرية باستقدام الشيخ القرضاوي إلى الجزائر بعد أن غادر جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية ليخلفه في التدريس ورئاسة المجلس العلمي.
وفعلا استجابت الحكومة الجزائرية لاختياره، فقدم الشيخ القرضاوي إلى قسنطينة، ودرّس بجامعتها لمدة سنة، واستفاد منه الطلبة الجزائريون كما استفادوا من قبل من الشيخ محمد الغزالي رحمه الله وطيّب ثراه، ونفع الله الناس بعلم هذين العالميْن، وعلم كل العلماء المخلصين والصادقين.