في مثل هذا اليوم الثامن من ذي الحجة من عام 1412هـ الموافق لـ: 29 يناير من عام 1992م ، إلتقيت الشيخ أحمد القاسمي ـ عليه من الله شآبيب الرحمة والرضوان ـ في منى ( يوم التروية ) ، في خيمة كان فيها حجاج من مدينة بوسعادة ، ووجدت الرجل مسجى على فراش مرض لا يستطيع الحركة، ولا يتحرك فيه إلا عيناه ولسانه …لألم شديد في ظهره، ووجع في بطنه …فاقتربت منه وجلست عند رأسه أحادثه وأستمع إليه، وفجأة زاد الألم أكثر فحملناه إلى خيمة قريبة لعلاج الحجيج …وبقي إلى ساعة متأخرة من الليل …تُقدم له الإسعافات المطلوبة ….ثم رجعنا به إلى الخيمة.
وكنت أنظر إليه وأقول ما أسعد هذا الرجل المؤمن إنه قريب العهد بالرحيل إلى ربه …!!،ولكني قلت له مواسيا… إن الله سوف يلطف بك ، ونلتقي غدا إن شاء الله في عرفات …
وكنت على موعد مع شركة لخدمة الحجيج في عرفات أتطوع معهم في توزيع الأكل و الشرب على ضيوف الرحمن …فقلت له أنا موجود في عرفات في طريق رقم 7 برّاد 20….فصار يردد ضاحكا ممازحا بالرغم من الألم الذي يسري في جسمه الضعيف ” طريق رقم 7 برّاد 20….طريق رقم 7 برّاد 20 …!!!!” .
ونُقل الشيخ من الغد على الأكتاف إلى عرفات ….ولم ألقه فيها، بل التقيته بعد الحج في حي العزيزية بمكة المكرمة ، وقد خفّ ألمه وحملته رجلاه، وأتم مناسك حجه ..رغم الأسقام التي تناوشه من كل جهه ، والعلل التي تُلِحُ عليه من كل ناحية …!!
ودّعت الشيخ الفاضل وأنا أنظر إليه وقد رجعت بي الذكريات الغوالي إلى بداية الثمانينات يوم بدأ شابا يغشى المجالس واعظا وموجها ومربيا… داخل المدينة وخارجها …فإذا خطب خطف الأبصار ، واستنصت الأسماع ، وملك القلوب …
يتوجع ويتألم لما يحدث…. لا بلسانه بل بجنانه ، ويظهر ذلك في خلجات صورته ، ونبرات صوته ، وقسمات وجهه …
يمشي فيميط الأذى عن الطريق ، ويخطب فيميط الأذى عن القلوب …يتكلم للناس بعروق دمه ، وشرايينه وحشاياه … تذكرك مواعظه بأبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي في بغداد… الذي كان يجمع الخلق ، ويأسر الناس بحلو منطقه ، وجمال روحه ، مما وطّأ له الأكناف، ويسّر له القبول …
عرفناه في تلك الفترة من خلال الموعد الثقافي الأسبوعي الذي كان يُعرف حينها ” بالحلقة العامة ” ، ثم عرفناه من خلال الدورات العلمية التي كانت تقام في فصل الصيف ، حيث انبرى مع بعض الشباب لتدريس جملة من العلوم الدينية المختلفة ، يقرأون من الكتب التي لم يتلقوها عن شيوخ ، ولكنه اجتهاد فذٌ جعل بعضهم يلقي دروسه وكأنه خريج الأزهر أو الزيتونة أو القرويين ….!!
وتداول الشباب المتعطش للعلوم الإسلامية في زمن مبكر أسماء : الشاطبي ، والآمدي ، و الجويني …وحفظوا متون الرحبية في المواريث ، والألفية في النحو ، والشاطبية في القراءات ، و الورقات في الأصول …وغيرها …
وكان الشيخ أحمد يختص بتدريس “علم مصطلح الحديث” …يفتق مباحثه ويبرع في تلخيصه وكأنه مختص فيه .. وهو خريج البيولوجيا في الجامعة …والمشتغل بالإعجاز العلمي في القرآن و السنة …!!، ولا زلت أحتفظ مما كان يَذكره ويُمليه في كُراس …!!
وفي أيام الجامعة ..اقترحت على لجنة الطلاب بالإقامة الجامعية استضافته لإلقاء محاضرة، فرفض مدير الحي بحجة أن اسم المُحاضر ليس جزائريا ، ولا بُدّ من موافقة الجهات العليا عليه فهو “أحمد القاسمي الحسني” وليس من الأسماء المعروفة عندنا في الجزائر …!!وبعد لَأيٍ وجدال ….اقتنع الرجل بعدما علم أنه سليل الدوحة القاسمية الشريفة …!! .
وألقى الشيخ محاضرته ، فشدّ الحاضرين إليه كما يشد السراج المنير عيون الحائرين في ظلمات المحيط ..!!، فالرجل رزقته الأقدار ( كاريزما ) خاصة لم تُعط لغيره ..يخرج الكلام منه باهر الإشراق ،متدفق الإغداق … تنساب منه أنفاس زكية كأنها بقية من أنفاس السلف الصالحين ….!!
في أواخر الثمانينات طلب مني أن أحضر مجالسه التي كان يعقدها في بيته بين المغرب و العشاء ..حيث يلقي دروس التربية و التوعية …مما تقصر عبارته ، وتنداح معانيه …وتاريخ هذه النفحات الربانية يُطوى ولا يُروى …!!
حضر عقد زفافي …وبارك لي يوم حصولي على الدكتوراه ، وجاء إلى بيت أصهاري يحمل هديته الغالية ، وأوصاني بالأهل خيرا …وقد كان لزوجتي أستاذا وشيخا ومربيا …!!.
وشرفت بزيارته مع رفاقه يوما لي في البيت بمدينة قسنطينة يوم أن سعيت له مع إدارة جامعة الأمير ليسجل رسالته للدكتوراه ، وأستضفت معه الدكتور الذي أبدى استعداده للإشراف عليه …وأبدى الجميع شرف خدمته لما يسمعون عنه من سيرة عاطرة ، وذكرٍ حسن …ولكن لكثرة الصوارف والشواغل و الكُلف …وبُعد قسنطينة عنه… علمت أنه سجّل رسالته في جامعة الجزائر بعد ذلك ….
عاش الشيخ أحمد القاسمي نبيل السيرة في الناس ، مديد الرحمة بين عباد الله ،غير مكترث بنسبٍ عريق أو جاهٍ وثيق …بل إنك حين تلقاه تذكرك بالله رؤيته ،ويزيد في علمك منطقه ، يعظ الناس ويربيهم ، ويجمعهم في ساحات الإيمان ….لم يؤسس جماعة ثم يستولي على عقول أتباعه ويقول لهم ” ما أريكم إلا ما أرى ” ، ولم يُطل لحيته ليضفي على نفسه المهابة و القداسة ويصطاد بها منافع الدنيا …. ولم يمتهن ” الرقية ” ويَدُسّ يده في عالم الغيب ليوهم الناس أنه به يُشفى العليل ، ويبرأ السقيم ، وتُقرع أبواب السماء ….!!!
إنه لم يفعل ذلك كله …بل آثر أن يكون حاديا للأرواح إلى بلاد الأفراح .. يذيب الأسماع ويضيئ القلوب …و.يُذكِر الناس بربهم ، ويهذب طباعهم ، ويزكي أخلاقهم ، بأسلوبه المتفرد ، وبلاغته النادرة ، ولسانه المبين …!!
في سنواته الأخيرة آثر أن يكون خادما للفقراء ، ونصيرا للضعفاء ، ينشد الآخرة ويستعلي عن العاجلة … فأدار باقتدار جمعية ” كافل اليتيم ” ، يقصده المحتاجون فيعطي ، ويستقضيه المدينون فيقضي عنهم …
يمسح دموع اليتامى و الثكالى والأرامل ….بارع في حث المحسنين على الإنفاق ، خبير بطوايا النفوس ودخائلها ، يعرف كيف يقبض من هذا ويعطي ذاك …وقد علمت أن أسرا كثيرة من الفقراء ذرف أهلها الدمع السخين لما سمعوا بأن الشيخ الذين كان ….أصبح فكأن لم يكن …!!
هاتفت مرة الشيخ الجليل بعد سفره إلى فرنسا للعلاج ، لأطمئن عليه ، فبادرني كعادته مع كل الناس بالدعاء الضارع..مع تهدج في صوته ، وضعف باد في كلامه …وأخبرني أنه من الغد سوف يبدأ جلسات العلاج الكيميائي ….ولم ينس السؤال والسلام على والدتي التي تُحبه ، وقد قضت مع شقيقتي رفقته أيام العمرة في رحاب بيت الله الحرام ، منذ زمن ليس ببعيد ….
“رحم الله الشيخ أحمد القاسمي فقد عاش مشعلا من مشاعل الهداية ، ونورا من أنوار الربانية ، وداعية من دعاة الحق و الخير و الجمال”