نسبه :
هو الشيخ محمد بلكبير بن محمد عبد الله بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الله … ينتهي نسبه إلى ثالث الخلفاء الراشدين، الصحابي الجليل، عثمان بن عفان – رضي الله عنه –
مولده :
ولد الشيخ محمد بلكبير سنة 1911م/1330هـ، من أبوين كريمين هما السيد عبد الله بن محمد، والسيدة أمباركة رحموني – رحمهما الله – بقصر من قصور بودة، أحد قرى الغمارة الواقعة في الجنوب الغربي من مدينة أدرار على بعد 25 كلم.
ولقد فارقته أمه إلى مثواها الأخير وهو لم يتجاوز من العمر ثلاث سنوات تاركة إياه مع إخوته : عبدالقادر وأمحمد وعبد الرحمان وأحمد، في كنف والده عبد الله.
وتجدر الإشارة إلى أن إخوته أمحمد وعبد الرحمان وأحمد قد ماتوا صغارا رحمهم الله.
نشأته :
نشأ الشيخ مقبلا على طلب العلم وتحصيله، فتلقى مبادئ العلوم بمسجد القرية بالغمارة، هذا الخير الذي دخله وهو لا يتجاوز سن الخامسة من عمره ؛ حيث تعلم على يد إمام المسجد آنذاك الشيخ محمد بن عبدالرحمان.
ومما ساعده في تحصيله وتفوقه ظروف نشأته الأسرية، حيث ترعرع في وسط علمي مشهود، فكان أبوه عبد الله من حملة كتاب الله، وكان عمه أيضا إماما ومعلما بمسجد القرية، بينما كان خاله المهدي فقيها وصوفيا من أعيان عصره بقصر بني “اللو” ببودة، وفي هاته الفترة القصيرة جدا من عمره تمكن من متون الفقه والنحو والتوحيد كالرسالة والألفية.
ولقد كان لكل ذلك الأثر الكبير في نشأته المتميزة، وتربيته الكريمة وإعداده للصبر، والمثابرة في طلب العلم، مما هيأه لتحمل الغربة، ومفارقة الأهل في سبيل التعليم.
وفي نشأته يقول الشاعر أحمد بن عبد القادر الطلحاوي :
ترعرع الشيخ ما بين العلماء *** من أجل ذا نشأ شابا عليما
والده اصطفاه ربنا الكــريم *** لحفظ دينه والقرآن العظيـم
وعمه كان إمامـا بالقريـة *** يعلم الناس الدروس الدينية
وخاله كان فقيها ورعا *** ما بين هؤلاء قد ترعرعا
حفظ القرءان في سن مبكر عن عمه (قبل الثامنة عشر.
رحلاته في طلب العلم :
من المعروف أن العلم لا يؤخذ بالتمني، بل يؤخذ بمجالسة العلماء والفقهاء ومغالبة الرجال والمجتهدين، بل وقطع الفيافي والبوادي من أجل التعلم والتحصيل.
وهو الأمر الذي دفع بالشيخ محمد بلكبير منذ أن بلغ ريعان شبابه أن ينتقل من مسقط رأسه باحثا عن المزيد من العلوم، ومتعرفا على شيوخ زمانه، الذين كان لهم السبق آنذاك في شتى علوم الدين والدنيا، ومن ثمة وصل إلى مدن العلم وحواضره.
الشيخ في تمنطيط :
لقد كانت تمنطيط ولا زالت عاصمة للعلم في إقليم “توات”، بل ومنبعا لا ينضب وهو الأمر الذي دفع عبد الله والد الشيخ محمد بلكبير إلى إرساله برفقة خاله محمد بن المهدي إليها، هذا الخيِّر الذي قال له عند توديعه : “يا بني إذا كنت للعلم طالبا، وللخير سائلا، فليس لك بدٌ من الوقوف والجلوس عند بحر البحور، والنزول عند عالم الأعلام، تستفيد من معارفه وتغرف من كمالاته”.
وقد كان يقصد بكلامه الشيخ أحمد ديدي – فقيه زمانه – الذي تولى تعليم محمد بلكبير بتمنطيط.
ولما دخل الشيخ محمد بلكبير الزاوية البكرية افتتح مختصر خليل وجعل فيه وقفتين، الأولى في البداية، والثانية في باب البيوع.
ومع ذلك لم يتمكن من حفظه في سنة واحدة – كما أشار عليه والده – فعاد واستأذن والده رحمه الله، فأذن له بسنتين إضافيتين لأن المختصر (مختصر خليل) كان يحفظ في ذلك الوقت في أربع سنوات.
وفي هذه الفترة يقول الشيخ رحمه الله : أن الشيخ أحمد كان يحبه، وكان يجلسه بجواره، ويضع ركبتيه عليه دوما أثناء التدريس.
تلقى الشيخ بتمنطيط ما قدر الله له من العلوم الشرعية والعربية، من توحيد وفقه وحديث وتصوف وتفسير وآداب ونحو ولغة وصرف على يد العلامة الشيخ أحمد ديدي عالم وقته ومصباح زمانه، حيث مكث عنده ثلاث سنوات، كانت بأيامها ولياليها ميدانا فسيحا للعمل المتواصل، تقدر حصيلتها بثلاثين سنة – فيما بعد – لأن مواهب الإله لا توزن بمقاييس ولا تقدر بأزمان ؛ حيث انتهى الشيخ في هذه المدة الوجيزة من دراسة الفقه المالكي بالأمهات، والتوحيد بالأدلة والبراهين، والنحو والصرف، واللغة مع سرد وشرح صحيح البخاري.
وأثناء هذه المرحلة كانت له اتصالات متعددة بعلماء وقضاة المنطقة مثل : عبد الكريم الفقيه البلبالي (بني تامر)، والشيخ بوعلام (ملوكة) والشيخ القاضي (محمد بن عبد الكريم البكري ابن عم الشيخ أحمد ديدي)، وغيرهم من علماء الإقليم للمذاكرة معهم والاستفادة منهم والبحث في المشكلات العلمية التي قد لا يتمكن من مراجعة الشيخ أحمد فيها، مما وسع معارفه وجعله على دراية واسعة بالنوازل والفتاوى التي وقعت في الإقليم إلى أن صار متمكنا راسخا، طودًا شامخا.
وفي رحلته إلى تمنطيط يقول الشاعر أحمد بن عبد القادر الطلحاوي :
وعند ما بلغ الشيخ سن الرشاد *** خرج صحبة خاله من البلاد
واتجـه نحـو ديـار تمنطيـط *** وكانت قبلة للعلم والتخطيط
لشيخه سيدنا أحمد بن ديدي *** شيخ تمنطيـط بلا تـردد
منـه تعلـم ثلاث سنـوات *** لكنها كانت له كالعشرات
الشيخ في تلمسان :
بعد ثلاث سنوات من الجد والكد في تحصيل المعرفة، عاد بلكبير إلى أبيه ليستأذنه في الذهاب إلى فاس ليتم دراسته في جامع القرويين، فلم يأذن له ولكنه أذن له في الذهاب إلى تلمسان للأخذ من الشيخ عبدالرحمان بن بوفلجة، هذا الأخير الذي كان عالما زاهدا ورعا، عارفا بعلوم الشريعة.
ونذكر هنا أن الشيخ محمد بلكبير لم يكن لديه المبلغ الكافي ليذهب به إلى تلمسان إلا ما جاد به عليه شيخه أحمد ديدي، والمتمثل في 150 سنتيم (30 دورو)، وهو المبلغ الذي استعمل جله للوصول إلى تلمسان، ولم يبق منه إلا 20 سنتيم أهداها إلى شيخه عبد الرحمان بن بوفلجة.
ولقد كان للشيخ محمد بلكبير اتصالات بعلماء تلمسان، كما كانت له رحلة إلى المغرب الأقصى، زار فيها جامع القرويين بفاس، واتصل بعلمائه واستفاد منهم.
وبعد أن أخذ بغيته من الشيخ بوفلجة، واشتهر أمره بالمنطقة طلب منه أن يشتغل بالتعليم القرآني، والإرشاد بناحية العريشة ثم بالمشرية.
وبقي محمد بلكبير ما بين تلمسان والعريشة والمشرية خمس سنوات، تزوج خلالها وأنجب بنتا ماتت وهي طفلة.
وقد تخرج على يديه في تلك الفترة أئمة وفقهاء ومعلمين وغيرهم.
وفي رحلته إلى تلمسان يقول الشيخ أحمدبن عبد القادر الطلحاوي :
واتجه نحو ديــار تلمســان *** لأجل التزود بتفاسير القرءان
والتقى بالشيخ سيدي عبد الرحمان *** بن بوفلجة شيخ ديار تلمسـان
من درية الشيخ سيدي أحمد بن موسى *** وكـان للشيـخ جليسـا أنيسـا
ومعـه راجـع شـرح خليـل *** كذاالتفاسير بالنص والدليل
الشيخ في تيميمون :
عاد الشيخ من تلمسان إلى مسقط رأسه “بودة” استجابة لدعوة والده الذي بعث في طلبه بعد أن أحس بالتعب والوهن.
وما إن استقر محمد بلكبير في بودة حتى علم به بعض أعيان تيميمون فطلبوه ليكون معلما عندهم للقرآن والفقه والعلوم الشرعية، وذلك سنة 1943م.
فكان يلقي الدرس ضحى لأعيان المنطقة، ثم بعدها يلقي درسا آخر للصغار، وقد اتبع في ذلك خطوات للتدريس وهي : قراءة القرءان في الألواح – قراءة القرءان الكريم جماعة – (الحزب الراتب) بعد صلاة المغرب- تدريس علم التجويد وعلم الضبط – تدريس علم التفسير – إلقاء دروس في السيرة النبوية – قراءة المتون في الألواح وجماعة يوم الأربعاء – إلقاء دروس الفقه للتجار والطلبة الصغار الداخليين.
ومن المتون التي كان الشيخ يلقي بها دروسه وكان يحث طلبته على حفظها :
– متون التوحيد: السنوسية – الجوهرة – الأوجلي- إضاءة الدجنة في اعتقاد أهل السنة (وكلها على معتقد الأشاعرة).
– متون الفقه: المرشد المعين – العبقري – أسهل المسالك – رسالة ابن أبي زيد القيرواني – مختصر خليل (وكلها في الفقه المالكي).
– متون اللغة: الأجرومية – مُلحة الإعراب – ألفية ابن مالك.
– متون الأدب: سراج طلاب العلوم – نصيحة الهلالي – نصيحة الشباب والهدية. وغيرهـا
ومن بين الطلبة الذين درسوا على يد الشيخ في مدرسة تيميمون :
عمار أقاسم – والحاج سالم بن إبراهيم (الخليفة الروحي للشيخ ومؤسس مدرسة للتعليم الشرعي بآدرار وعضو المجلس الإسلامي الأعلى) والحاج عبد القادر أخ الشيخ بلكبير وغيرهم.
وقد مكث الشيخ في تيميمون حتى أواخر سنة 1948م، وما عرفه أهل المنطقة إلا رجلا ورعا زاهدا عما في أيدي الناس، محبا وأخا كريما ومدرسا ومفتيا، ومصلحا بين الناس، لا يمل ولا يكل في الاجتهاد وطلب العلم.
ونذكر هنا أن مدرسة تيميمون قد تم غلقها بدفع من السلطات الفرنسية سنة 1948م، والتي ساهمت في خلق شقاق بين الشيخ محمد بلكبير من جهة وأعيان منطقة تيميمون من جهة أخرى، بعد أن تمت مقاضاة أحد مساعدي الشيخ بلكبير – ظلما – من طرف السلطات الفرنسية في قضية مشهورة.
وهو الأمر الذي جعل الشيخ يقسم ألا يبقى في بلد يسجن فيه العلماء فعاد إلى بودة (لغمارة) في أواخر سنة 1948م وعاد معه الطلبة الذين درسوا عنده في مدرسة تيميمون، نذكر منهم على الخصوص لا الحصر : أخوه الحاج عبد القادر والحاج سالم بن إبراهيم.
شخصيته:
إن الحديث عن الشيخ بلكبير هو حديث عن شخصية فذة وفريدة من نوعها وكأن الله قد خلقه لأمر عظيم وهيأه لخطب جسيم، فأولع في نفسه حب العلم والتعلم وأهلهما.
وقد كان آية في الحفظ والأخذ عن المشايخ، حتى فتح الله له أبواب العلم والمعرفة، ويسر له خزائنها، فكانت بين يديه مفاتيح علوم شتى من علوم الدين والدنيا.
ملامحه:
كان الشيخ رحمه الله له من المهابة والشموخ ما يجعل منه طودًا لا تزحزحه الرياح، حتى أنه ليخيل لمراقبه تلك العظمة المشرقة والمتزينة بأنوار الزهد والعطاء.
فكان رحمه الله أبيض اللون يشوب بحمرة ربعة، لا هو بالطويل ولا بالقصير – وهو إلى القصر أقرب – أبيض الشعر، جميل المنظر، عذب الكلام، ثاقب البصيرة، سريع الفهم، هادئ الطبع، قوي الشكيمة لا يخاف في الله لومة لائم.
مذهبه في الفقه :
لقد عرف على أهل المغرب العربي أنهم مالكية المذهب، وذلك منذ عصر المرابطين أين انتشر هذا المذهب في مختلف ربوع بلاد المغرب، وهو ما جعله يتأصل بين الفقهاء وعلماء المنطقة الذين بادروا إلى تعليمه وشرحه بل والإفاضة فيه بالكتب والمخطوطات والتفاسير والمتون.
وهو الأمر الذي جعل الشيخ يبادر إلى دراسة هذا المذهب منذ نعومة أظافره، وذلك على يد معلمين ومربيين من شيوخ المنطقة التواتية.
ولهذا فالشيخ كان مالكي المذهب، درس الفقه المالكي وتبحر فيه حتى أفاض على طلابه بزبدة هذا المذهب من شروح وتفاسير في مختلف الأمور الفقهية.
لكنه لم يغفل عن دراسة بقية المذاهب، بحكم الاجتهاد والبحث والتقصي مما مكنه من الوقوف على أهم مشكلات عصره وزمانه في المسائل الدينية ذات الاتجاه الفقهي، بل وكانت له فتاوى واجتهادات شخصية تجعله في مصاف العلماء.
ومن الأمثلة على تلك الفتاوى، ما قاله عندما سئل عن السدل والقبض :
“ينبغي ألا ينكر السادل على القابض ولا القابض على السادل، وإذا وجد القابض جماعة يسدلون سدل، وإذا وجد السادل جماعة يقبضون قبض حتى لا يلفت أنظار الناس إليه، ولا توضع له علامة استفهام، ولا ينبغي للمسلمين أن يختلفوا ويتجادلوا في مسألة مثل هذه، ومن العار والفضيحة أن يقتتل المسلمون أو يتقاطعوا أو يتدابروا من أجل سنة أو مندوب ؛ فالسنة سنة والمندوب مندوب والفتنة حرام وعواقبها وخيمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “الفتنة نائمة ملعون من أيقظها”.
أخلاقه:
لقد اجتمعت الآراء واتفقت على أن أخلاق الشيخ محمد بلكبير رحمه الله كانت مستمدة من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما أكده لنا الشيخ أحمد حفاري بقوله : “إن أخلاق الشيخ كانت مستمدة من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، من حلم وكرم وعلم وعمل ووقار وخشية لله عز وجل وزهد”.
بينما يقول الشيخ الحاج المهدي رابح : “كان الشيخ محمد بلكبير متخلقا بخلق القرءان والسنة”.
ونلتمس ذلك من خلال تلك الآثار التي كانت تشاهد عليه من ورع وتواضع وزهد.
وتلك آثارنا تدل علينا *** فاستدلوا علينا بالآثار
في أحد الأيام كان الشيخ محمد بلكبير رحمه الله جالسا كعادته مع الضيوف والزائرين فدخل عليه زائر بيده 10 ألف دينار جزائري، فأهداها له بيده اليمنى، ولما أخذها الشيخ أهداها بدوره إلى شخص كان بجانبه من المتوسلين بدون أن يعلم كم هو المبلغ الذي كان قد قدمه له الزائر، وهناك تتجسد أخلاقه المستمدة من القرءان الكريم والسنة مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم : “ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه”.
ومن هذا وذاك كان رحمه الله عالما زاهدا صاحب عزيمة وشكيمة، شهما هماما، محترما، منصرفا عن ما لا يعنيه إلى ما يعنيه، صاحب سماحة، وأخلاق عالية، ورحب الصدر، لا يؤخذ بالذنب ولا يعاتب لا باللسان ولا بالقلب، مفرجا على من سأله الكرب، ضحوكا بشوشا غنيا بإيمانه قويا بحلمه سيدا مهابا، ناطقا بالحكمة والصواب، يحترمه الكل، هكذا عاش وعلى هذا مات.
وخير مثال على جوده وكرمه ما قاله الشيخ أحمد بن عبد القادر الطلحاوي :
كرم الشيخ ليس له نظير *** في عصرنا فاسأل الخبير
فكـل من أتى إليـه يطلب *** شيئا من الدنيا تراه يعجب
لأنه يعطيهم بلا حسـاب *** ولا يرد سائلا على عقاب
فيده اليمنى تعطي بلا حساب*** ودنيانا عن قلبه لها حجاب
وطالب العلم معفى من الإنفاق *** وشيخنا يزيده من الأنفاق
ما يشتري به مطالب الحيــاة *** من اللباس والكتب والأدوات
إنفاقه في اليوم يفوق كل تقدير *** عناية الله تعم أهل الخيـــر
نشاطاته وأعماله الإصلاحية :
مما لا شك فيه أن الله قد خلق الإنس والجن لعبادته، وحسن طاعته بدليل قوله تعالى : “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”. وهو الأمر الذي جعل الإنسان بصفته سيدا للمخلوقات، مسخر العبادة لخالقه، سواء بتأدية الواجبات، والامتثال للأوامر والنواهي الإلهية، أوعن طريق العمل من أجل فائدة المجتمع والإنسانية. أي بمعنى آخر الإسهام الايجابي في المجتمع بواسطة ما يقدمه هذا الفرد من نتاج مادي أو فكري أو عملي لمجتمعه الذي يعيش فيه.
وعليه سوف نتناول في هذا الفصل تلك النشطات والأعمال والإصلاحات التي قدمها الشيخ محمد بلكبير للمجتمع التواتي بشكل خاص وللمجتمع الجزائري بشكل عام.
مساهمته في الجزائر ما قبل الاستقلال:
أ- بناء المسجد الكبير :
عاد الشيخ محمد بلكبير إلى مسقط رأسه بودة، قافلا من مدينة تيميمون بعد حادثة غلق المدرسة التي تناولاها سابقا وذلك سنة 1948م ومن ثمة واصل من قلب بيته مسيرته الجهادية ضد الجهل والتخلف رفقة أتباعه من رواد العلم والمعرفة، وبعد سنتين من ذلك تحديدا سنة 1950م اِنتبه له بعض المحسنين من أعيان مدينة أدرار، وفكروا في بعث مدرسته من جديد، وهذه المرة في قلب الإقليم التواتي “أدرار”.
ويتحقق الحلم، وتنتقل الجماعة لاستشارة شيخه أحمد ديدي بتمنطيط في أمر تنقله إلى مدينة أدرار، وتتم الموافقة بينهم أخيرا لينتقل الشيخ إلى تلك المدينة، ويؤسس بها مدرسة قرآنية في المنطقة والتي سيكون لها بعدا تاريخيا ومعرفيا مجيدا وذلك سنة 1950م.
ومن المعروف خلال هذه الفترة أنه قد خضع إنشاء المساجد إلى رقابة كبيرة من طرف السلطات الاستدمارية الفرنسية، نظرا لأهميتها في بعث روح الثروة والجهاد ضد الفرنسيين.
وقد ارتبط المسجد منذ إنشائه بالزاوية حيث كان مركزا حيويا بالقصر كما هو الشأن بالمدينة الإسلامية، حيث يعتبر مدرسة تدرس بها العلوم الدينية والدنيوية، ويعتبر أيضا جزءًا من الزاوية التي تهتم بالشؤون التنظيمية والاجتماعية بالنسبة لسكان القصر.
وهو الأمر الذي جعل مسجد محمد بلكبير بعاصمة الولاية أدرار من أعظم المساجد والمعالم التي أسست بتوات ؛ حيث كان المسجد الكبير بأدرار يقع بالقرب من قصبة القائد، وهو بذلك يأخذ موقعا استراتيجيا.
وقد عمل الشيخ محمد بلكبير مؤسس الزاوية التي يعتبر المسجد الجزء المهم منها على تطويرها، وما هي إلا فترة زمنية قصيرة حتى أصبحت الزاوية ذات تأثير قوي، وتعدى بعدها حدود المنطقة والوطن، وتجدر الإشارة إلى أن الشيخ تولى الخطابة والإمامة، وتعليم القرءان الكريم، وكان السيد الحاج عبد القادر والحاج سالم بن إبراهيم من أوائل الطلبة الذين افتتحت بهم مدرسة أدرار الجديدة، وهم من الطلبة القدماء.
وابتدأ الشيخ مرحلة جديدة من حياته في عالم تحفه المخاطر والصعوبات معتمدا على الواحد القهار، لا يملك ضياعا ولا بساتين ولا أموالا ولا شيء، إنما كان يملك الثقة بالله والتوكل عليه، والأنس به، فأمده الله بالمال والبنين، وحفظه من شر وكيد حساده وأعدائه لا سيما وأن البداية كانت في وقت الاستدمار الفرنسي، لكن عناية الله كانت أقوى وأقدر.
وإذا العناية لحظتك عيونها *** نم فالمخاوف كلهن أمان
ومن الأعيان الذين كان لهم الفضل في إنشاء المسجد الكبير ومدرسة الشيخ محمد بلكبير بأدرار نذكر منهم على سبيل الذكر لا الحصر : محمد أقاسم والحاج كبويا ومولاي المهدي.
وفي إنشاء مدرسة الشيخ محمد بلكبير بأدرار يقول الشيخ أحمد بن عبد القادر الطلحاوي :
وهكذا انتقل الشيخ لأدرار *** وفتح المدرسة دونما انتظار
وقدم الطلاب من كل الجهات *** وخاصة من تيميمون وتوات
بـ- موقفه إلى جانب المجاهدين:
كان الشيخ يعمل على نصرة المجاهدين وزرع روح الثقة والنصر والثبات ويحثهم على الصبر وتحمل المشاق والصعاب، كما كان يطعم موفدهم، بل إن جميع المجاهدين الذين كانوا يقدمون إلى أدرار كان بيته مأوى لهم، وهم ضيوف عنده طوال مدة إقامتهم بالولاية، وقد كان أغلبية الوافدين من الولايتين السادسة والخامسة، ليس هذا فحسب بل إن الشيخ كان عضوا في المجلس الشوري للمجاهدين.
ومن المجاهدين الذين قدموا إليه “الشريف بن مسعدية” رحمه الله و”الدراية أحمد”، وكان تنظيم الشيخ مقتصرا على منطقة الجنوب القائمة على الحدود التي كانت قيادتها في مالي.
ومن أبرز المناضلين آنذاك في مدينة أدرار نجد : “مولاي الطيب” !؟ هذا الرجل الذي أعان المجاهدين بأمواله ونفسه، كان صاحب فضل ومزايا كبيرة رحمه الله، ومن المجاهدين أيضا الحاج “أحمد أقاسم، الحاج أحمد كبويا، الحاج قريدة والحاج الشيخ بن عامر السويسي”.
ونذكر هنا أن الحاج “أحمد أقاسم” كان له دور كبير في المنطقة، حيث كان يدفع الاشتراك – ضرائب على الرقاب – عن المسلمين ويحميهم، كما كان معينا لذوي الحاجة منهم وهذا إلى جانب مولاي الطيب.
وكان الشيخ محمد بلكبير يربي في مدرسته الأجيال الصاعدة، تلك الأجيال التي تؤثر الموت على الحياة، بل وتحمل راية الإسلام والعروبة ضاربة بعرض الحائط ثقافة الفرنسيين ولغتهم. ومن ثمة فهؤلاء كانوا يحملون لغة القرءان ودين القرءان، وثقافة القرءان التي حاول الشيخ وعلى مدى سنوات أن يغذي بها طلبته.
وكذلك لا يمكننا إهمال الدور الذي لعبه الشيخ في تغذية المجاهدين بالعلم والحكمة والصبر وكان دوما كريما معهم فيما يحتاجونه. كما كان الشيخ يعمل على عدم إعطاء الفرصة لغلق المدرسة الدينية من طرف المستدمر الفرنسي.
وفي الحقيقة لم يكن يداهن ولا يماري معهم، بل كان رجلا صادقا مع الله صلبا في دينه، يحمل شجاعة الأبطال من الرجال، فهو يرى نفسه في ميدان حرب مع أعداء شتى، ولا بد من سلاح نافذ قادر على تحطيم قوى أعدائه، فكان سلاحه تقوى الله عز وجل مصداقا لقوله تعالى : “ومن يتقِ الله يجعلم خرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إن الله بالغ أمرَه، قد جعل الله لكل شيء قدرا”
ومن هنا فقد قيض الله له “الشرطي” الهاشمي دينار الذي كان يأتيه بالأخبار ويرد عنه كيد المستعمر، ويحميه ويحمي المدرسة من التفتيش والغلق، ومع ذلك فقد قامت السلطات الاستعمارية باعتقال الشيخ في إحدى المرات، وأُجري له استنطاق إلا أنه أطلق سراحه بعد تجمع الأهالي حول الثكنة العسكرية التي كان يستجوب فيها.
مساهمته في الجزائر المستقلة :
بعد سنة 1962م تمكن الشيخ من توسيع نضاله ومواصلة جهاده، حيث لم يخلد للراحة كغيره من المجاهدين، ولم يبحث عن المناصب في جهاز الدولة، بل كان يرى أن الجهاد متواصلا مادام على ظهر البسيطة، وأنه قد خرج من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، وبذلك اتسع نطاق المدرسة وزاد عدد الطلاب وتعدد المعلمون والمدرسون، وكثرت المرافق والمراقد والمحاضر، وأنشأت بيوت خاصة للضيوف حتى علا شأن المدرسة بين الخاص والعام وغدا من كان مصدر أذية له بالأمس القريب من المبادرين الأوائل في محبته والذود عنه.
ونحن عندما نتحدث عن مدرسة الشيخ نتحدث عن بيت زاره الرؤساء والأمراء والوزراء، وغيرهم من الحكام وأرباب المال والأعمال، وحتى السياسيون ورؤساء الأحزاب وساسة البلاد، بل وتوافد الناس إليه من كل حدب وصوب لكلٍّ غرضه ونيته فينزل كلاً بمنزلته ومكانته.
وهنا لابد من التأكيد على أنه كان للفقراء والمساكين مكانة خاصة في قلب الشيخ.
أ-الشيخ وطلبة العلم :
قال تعالى : “إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور” الآية 28 من سورة فاطر.
وبهذا قد كان من أحب الخلق إلى الشيخ طلبة العلم، هؤلاء الذين لم يكن يرضَ أن ينطق فيهم بكلمة سوء ؛ حيث يُروى عنه أنه جاءه رجل فقال له: يا سيدي إن الطلبة كثر عددهم، فاتخذ عليهم حراسا يحرسونهم.
فقال له الشيخ : هل أحصيت كم عددهم ؟
فقال الرجل : نعم.
فقال له : كم ؟
فأجاب : 400 طالب أو يزيدون.
فقال له الشيخ : أيمكن أن يصلح وينجح منهم أربعة ؟!!!
قال الرجل : نعم.
فقال الشيخ : إن صلح من كل مئة طالب طالبا واحدا يكفيني ذلك.
فسكت الرجل.
وجاء غيره إلى الشيخ وقال : يا سيدي إني وجدت بعض الطلبة في مواطن السوء، فكان رد الشيخ بكل حنكة وحكمة بقوله وأنت ماذا كنت تصنع هناك.
وهو ما يفسر تلك المحبة التي كانت تجمع الشيخ بطلبة العلم حتى قيل أن الشيخ محمد بلكبير كان يعتبر طلبة العلم “مثل أبنائه أو أعز من ذلك”.
حيث يروى أن شخصا جاء بسيارة فخمة إلى الشيخ بلكبير فقدمها له [كهدية] وهو يدرس تلاميذته، فقال لهم :
من يريد منكم سيارة وها هو مفتاحها.
فاستحيا التلاميذ من ذلك، فرفع أحد الأشخاص أصبعه وظن أن الشيخ يمزح معه فقط، فقال له الشيخ محمد بلكبير : خذها فهي لك مباركة طيبة.
ومن أهم الوصايا التي كان يوصي بها الشيخ تلامذته أنه كثيرا ما كان يحذرهم من الإمعة والانسلاخ من الذات، وكثيرا ما كان يردد
“العربي زينته العمامة *** وشَعر الوجه له علامة”
وكان يحث على التمسك بالدين والتضحية في سبيله ونشره، ويحذر من كل ما من شأنه أن يجعل المسلم أو الشاب بعيدا عن دينه. [وسنفرد مبحثا لأهم وصاياه رحمه الله]
بـ- رئاسته للمعهد الإسلامي بأدرار :
في سنة 1964م اقترح مفتش وزارة الأوقاف السيد قصيبة – وكان حينها مفتشا بولاية الأغواط – على الوزارة إنشاء معهد إسلامي يكون مقره مدرسة الشيخ، والشيخ بلكبير مديرا له، هذا ما حدث بالفعل عندما نصب الشيخ مديرا للمعهد، وجيء بالأساتذة من مصر [الحبيبة] وبعض الأقطار العربية.
ومع هذا كله فقد بقيت نفقة الطلبة من مأوى ومأكل على حساب الشيخ، ومن بين الأساتذة الذين ساعدوا الشيخ في إدارة المعهد نجد الأستاذ “حساني حسان” السوري الأصل الذي كان متجها في بادئ الأمر إلى دولة مالي، إلا أن الشيخ محمد بلكبير ارتأى أن يبقى معه معينا له في إدارة المعهد والتدريس، مقابل أن يصرف له الأجرة التي يطلبها، وهو ما تم فعلا بعد موافقة الأستاذ.
جـ- إصلاحاته :
إنه مما لاشك فيه أن المستدمر الفرنسي عمل على طمس هوية المجتمع الجزائري بل وانسلاخه من قيمه وتقاليده المقتبسة من الإسلام والعروبة، وذلك عن طريق زرع بعض الأفكار والشوائب التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي انتشرت في المجتمع التواتي كما ينتشر المرض المعدي في البيت الواحد ؛ نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : انتشار الأضرحة العالية والتمييز العنصري والابتعاد عن بعض قيم الإسلام الحنيف.
وهو ما دفع الشيخ إلى محاربة هذه الآفات، ومعالجة هذه الأمراض داخل المجتمع التواتي بشكل خاص والمجتمع الجزائري بشكل عام.
جـ-1- في الجانب الديني :
مما لا يخفى على أحد أن الجانب الديني يشمل علوم الدين من فقه وعبادات ومعاملات، إلى جانب مدى امتثال واهتمام أفراد المجتمع بأمور دينهم. ومن هنا فقد كانت إصلاحات الشيخ في علوم الدين تتمثل في تدريسها بطريقة سلسة مارّة إلى الفهم، وأبعد ما تكون عن تلك الألغاز المقفلة.
كما كان الإصلاح الديني للمجتمع التواتي ضرورة تفرضها ظروف الزمن والمكان، وهو ما تجسد في تلك المجموعات من الطلبة الذين تخرجوا من مدرسة الشيخ محمد بلكبير متجهين إلى مختلف مناطق القطر الجزائري، وإقليم توات خاصة، حيث أن المجتمع التواتي يعج بكثير من البدع والخرافات نتيجة للجهل المنتشر.
وهنا ركز الشيخ على الإرشاد وتعليم المجتمع، من أجل ترك جل الموروثات الجاهلية التي كانت جزءا من كيانه، بتزويد المنطقة بقدرات وكفاءات تعمل على تثبيت دعائم الدين الإسلامي الحنيف، وتبعث عن الطمأنينة والاستقرار، وهنا نضرب مثالا على ذلك في “قصر المطارفة” [وهي قرية صغيرة جدًا] يوجد بها أكثر من 20 طالبا “إماما” تخرجوا على يد الشيخ محمد بلكبير.
أما على المستوى الوطني فقد أثرت هذه الكفاءات في المحيطات الموجودة بها بحيث حفظت للشعب الجزائري الملتف حولها المرجعية الدينية المتمثلة في المذهب المالكي.
جـ-2- في الجانب الاجتماعي :
لقد كان من بين الأهداف والغايات الكبرى للشيخ أن يسهم في بناء مجتمع ملؤه الإسلام وفكره الإسلام ولغته العروبة، مبني على المحبة والمساواة والأخوة، إلا أن ذلك لم يتسنّ له إلا بالعمل الدؤوب والإرادة القوية من أجل الإصلاح والبناء، ومن ثمة فقد عمل الشيخ على إصلاح المجتمع التواتي عن طريق :
1– لم شمل القبائل المتنافرة : حيث كان المجتمع عبارة عن شتات من القبائل كل واحدة متمسكة بمبادئها ولا تكاد تنفتح على غيرها من القبائل الموجودة حولها. إلا أن الشيخ عمل على جعل هذه القبائل في بوتقة واحدة متعاونين متحابين.
2– محاربة التمييز العنصري والتسوية بين المسلمين: فقد كان من بين المخلفات التي تركها الاستدمار زرع الشقاق بين أفراد المجتمع الواحد عن طريق عدم التسوية بينهم وتفضيل بعضهم على بعض من خلال تفضيل الأبيض عن الأسود، وهنا كان عمل الشيخ ينصب على التسوية بين الناس من خلال التوعية الدينية وتعليم الأجيال وتثقيفهم بتعاليم القرءان الكريم والسنة النبوية.
3– محاربة البدع والخرافات: التي كانت موصلة بالإنسان إلى الشرك مثل الطلب من الأولياء وتقديسهم وإعطائهم أكثر مما أوجب الله علينا اتجاههم والذبح لهم، حيث كان الناس يذهبون إلى أضرحة الأولياء ويرجون منهم الرزق والصلاح والفلاح أي يجعلونهم واسطة بينهم وبين الله عز وجل.
وهنا عمل الشيخ على إرشاد وتوعية المجتمع من خلال تعليمه لعقائد الدين الحنيف وتوجيه المجتمع إلى نبذ تلك الأفكار والمعتقدات الغريبة عن الإسلام والمسلمين.
4– محاربة أشكال الفساد: مثل شرب الخمر والزنا والسرقة. وهنا عمل الشيخ على التوعية والموعظة والتنبيه بمخاطر هذه الآفات على المجتمع وتبين عواقبها الدنيوية والأخروية، كما عمل على غلق محلات الفساد وبيع الخمور بشتى الوسائل والطرق، حيث لا يزال إقليم توات ومن ورائه ولاية أدرار لا يحوي على محل واحد لبيع الخمور [والحمد لله].
وهنا نذكر أن الشيخ قد وقف أمام أحد المشاريع الذي يقضي بإقامة محل لبيع الخمور بقصر “أولاد إبراهيم”واستعمل نفوذه في منع ذلك وهو ما تم فعلا.
5– الدعوة عن طريق الموعظة الحسنة: وهو ما أكسبه حب المجتمع التواتي بكل شرائحه حيث اقتبس ذلك من القرءان الكريم والسنة النبوية الشريفة، قال تعالى : أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين
ويتضح ذلك جليا في تلك الرواية التي تروي قصة أفراد فرقة غنائية تعودوا على إقامة حفلاتهم بالقرب من مدرسة الشيخ، الأمر الذي كان يشكل مصدر إزعاج لطلبة المدرسة، فطلب التلاميذ من الشيخ محمد بلكبير أن يدعو عليهم بالسوء فكان رده أن قال لهم : “اِرفعوا أيديكم” ودعا لأفراد الفرقة بعكس ما كان ينتظرونه منه ؛ أي دعا لهم بالخير، فكان رد هؤلاء أي أعضاء الفرقة بعد سماعهم ما حدث أن تركوا تلك الأفعال الطائشة وأصبحوا من رواد حلقة الدرس في مجلس الشيخ ومن عمار بيت الله.
6– محاربة الجهل والأمية: لقد كان المجتمع بعد بزوغ فجر الاستقلال أميا بدرجة كبيرة تنتشر فيه أشكال الجهل والأمية، وذلك نظرا لتلك السياسة التي انتهجها المستدمر الفرنسي في الجزائر والقائمة على ضرورة تجهيل المجتمع الجزائري وطمس شخصيته العربية والإسلامية.
ومن ثمة فقد عمل الشيخ محمد بلكبير على نشر العلم والمعرفة وتعليم شرائح المجتمع بديهيات الكتابة واللغة العربية، بل وتزويدهم بمعارف تعود عليهم بالفائدة في الدنيا والآخرة، وذلك عن طريق الصرح العظيم المتمثل في مدرسة “الشيخ بلكبير” التي انتشر صيتها داخل إقليم توات وخارجه منذ إنشاءها.
وقد عملت هذه المدرسة على تعليم الصغار والكبار معا، تحت شعار “العلم نور والجهل ظلام”، وهو ما عاد على المجتمع التواتي بالخير والرقي والازدهار خاصة وأنها مفتوحة لكل طبقات المجتمع من فقيرهم إلى غنيهم.
7– تكوين جملة من الكفاءات والأئمة والخطباء: يعملون على تربية المجتمع وإصلاحه وتوجيهه نحو وجهة الإسلام والعروبة، وهو ما تجسد في تلك الدفعات التي تخرجت على يد الشيخ محمد بلكبير والتي انتشرت في كافة أرجاء القطر الجزائري إن لم نقل تعدت الحدود إلى مختلف بقاع العالم. وهو ما نستخلصه عندما سأل باحث مصري الشيخ محمد بلكبير بقوله : لماذا لم تؤلف كتبا بالرغم من شهرتك وقدرتك العلمية ؟ فأجاب الشيخ : “لقد كنا مشتغلين بتأليف العقول عن تأليف الكتب”
؛ فهو – رحمه الله – يرى أن تربية العقول وإصلاحها وإعدادها لتحمل الرسالة الاجتماعية والعلمية أولى وأهم من تأليف الكتب.
8– محاربة التغريب والانسلاخ من الذات: لقد كانت من نتائج التطور الحاصل في وسائل الإعلام والاتصال أن تفتح المجتمع الجزائري عامة، ومن ورائه مجتمع إقليم توات على أفكار الغرب بحلوها ومرها، فابتعد عن شخصيته الجزائرية والعربية الإسلامية : نزع العمامة والعباءة والحجاب، ولبس الموضات الغربية، وتعدى ذلك إلى التقليد الأعمى والانبهار بالغير والانسلاخ من الذات.
وهو الأمر الذي دفع الشيخ إلى تركيز جهوده من أجل المحافظة على ثوابت الأمة من دين ولغة وعادات وتقاليد وذلك عن طريق الوعظ والإرشاد والتذكير بمخاطر الانجراف نحو التقليد. وهو ما يتجسد في تلك المقولة التي طالما كان يرددها :
“العربي زينته العمامة *** وشَعْر الوجه له علامة”
9– محاربة أشكال الظلم والتطرف: مما هو معروف أنه لا يخلو مجتمع من أشكال الظلم الحسي والمعنوي والتطرف الفكري والديني، كما أن الإنسان بطبيعته يميل إلى التسلط وحب الذات وإلى إشباع ميولاته ورغباته وغرائزه بشتى الوسائل والطرق.
وهو الأمر الذي دفع الشيخ إلى العمل المتواصل من أجل محاربة كل أشكال الظلم في المجتمع التواتي، من خلال التربية وإرشاد الغافلين ونصرة المظلومين، بل وحتى التوسط لهم في المصالح المختصة من أجل أخذ حقوقهم إذا انتهكت.
كما عُرف عنه أنه لا يخاف في الله لومة لائم إذا ما انتهكت حقوق العباد من طرف المسؤولين أو أرباب المال والأعمال.
أما التطرف الفكري أو الديني فقد كان نتاج تلك التعصبات المذهبية، وهو ما عانت منه الجزائر في أزمة التسعينات “العشرية السوداء”.
وهنا عمل الشيخ على تبيين منهجه المبني على الاعتدال ونبذ التطرف بكل أشكاله، ومن ثمة فقد كان يدعو الشيخ إلى معالجة القضايا السياسية بالحوار والتفاهم وليس بالاقتتال بين أبناء البلد والأمة الواحدة، وهو ما يدعو إليه القرءان والسنة النبوية الشريفة ؛ حيث حرم الله عز وجل قتل المؤمن لأخيه المؤمن بقوله تعالى : “ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً” الآية 93 من سورة النساء.
وبذلك فقد عايش الأزمة الجزائرية كما عايشها غيره من أهل الصلاح والورع، حيارى لا يدرون ما يفعلون من غير الدعوة إلى الحوار ونبذ العنف بكل أشكاله.
3- مكانته العلمية:
لقد تربع الشيخ محمد بلكبير على عرش العلماء في إقليم توات بدون منازع وانتهت إليه رياسة العلم فيه بعد وفاة شيخه أحمد ديدي رحمه الله، وقد برز الشيخ بلكبير في العلوم الشرعية من فقه وتفسير وحديث … إلى جانب علوم اللغة والأدب العربي من نحو وصرف وبلاغة.
وهو بذلك بحر لا يجارى وإماماً لا يمارى في عصره، بين أئمة وعلماء توات، وقد تميز رحمه الله بقدرته الفكرية وملكاته الذهنية حيث كان يلقي دروسه باسترسال ومن دون إحضار أي كتاب أو النظر فيه وذلك من غير تردد أو تلعثم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على سعة اطلاعه وغزارة علمه.
حتى أن كبر سنه في أيامه الأخيرة لم يؤثر في ذهنه ولم يعطل من طاقته، فكان بالرغم من ذلك يجيب عن المسائل العويصة بالإجابة الدقيقة التي تشفي العليل وتروي الغليل.
ومن بين الأمور التي تدل على ذكائه وسعة اطلاعه أنه لما ذهب إلى الحج في حجته الأولى سنة 1953م على متن الحافلة مر على مصر وزار الأزهر الشريف وبقي فيه أسبوعا.
وقد التقى الشيخ فيها – أي مصر – بأهل العلم من علماء ومتعلمين والتف حوله طلبة العلم لما رأوا فيه من سيمات العلم البادية، حتى أنهم طلبوا منه درسا وألحوا على أن يكون في شرح (الاخبار بالذي والألف واللام من ألفية ابن مالك)، وهذا الباب معروف بباب امتحان الطالب لصعوبته، إلا أن الشيخ أفاض فيه وأسهل وأفاد.
وهو الأمر الذي جعل علماء مصرَ يحترمون الشيخ بلكبير ويسألون عن أخباره، ومن الأمثلة على ذلك أن الشيخ عبد الحميد كشك كان يسأل كل من زاره [من أهل المغرب] عن الشيخ محمد بلكبير وعن طلبته، حتى أنه أي الشيخ عبد الحميد كشك قد رد بعض الطلبة ممن كانوا يقصدونه للدراسة – وهم من مدينة المنيعة بغرداية – وأمرهم بالرجوع إلى الشيخ محمد بلكبير للدراسة عنده وهو ما تم فعلا.
ومن بين الأمور كذلك التي تدل على بعد نظره، واتساع فهمه، أنه دخل في مناظرة مع أستاذ من الأزهر عن كتب الفقه ؛
قال الأستاذ : كتب الفقه كخليل والرسالة التي تدرسونها في بلاد المغرب كلها باطلة ومضيعة للوقت ولستُ ممن يعيرها أي اهتمام، وإنما العلم لا بد أن يكون من الكتاب والسنة النبوية فقط.
فقال الشيخ رحمه الله : إن أعطيتني مسألة واحدة من القرءان والحديث الشريف فقط، من دون الرجوع إلى حافظتك، وإلى كلام الفقهاء، سلمت لك فيما تقول، وأعرضت عن تدريس كتب الفقه هذه وعدت إلى الأخذ من القرءان والحديث النبوي الشريف فقط، فسكت الأستاذ وبهت ولم يزد على ذلك بكلمة واحدة.
ولم تكن هذه المناظرة أول ولا آخر المناظرات، بل كان بلكبير مناظرا بارعا، مدافعا عن كتاب الله وسنة نبيه، بعيدا كل البعد عن الغلو والتشدد في دين الله محبا للعلم والمجتهدين.
ومن أهم التشريفات والمناصب التي تقلدها الشيخ محمد بلكبير رحمه الله نجد :
أ- مشيحة المدرسة: منذ نشأتها سنة 1950م إلى وفاته سنة 2000م، تخرج على يده منها ما يزيد على20 ألف طالب يجوبون بقاع المعمورة كدعاة وأئمة ومعلمين.
بـ- إمام أستاذ ثم رئيس المعهد الإسلامي بأدرار: منذ سنة 1964م.
جـ- شهادة تقديرية: (ليسانس من وزارة الأوقاف تحت رئاسة أحمد توفيق المدني).
د- شهادة ليسانس: أخرى في سنة 1991م.
هـ- شهادة دكتوراه فخرية: من جامعة وهران سنة 1997م.
خـــلاصة :
إن الإنسان لا يعرف إلا بمقدار ما يقدمه إلى مجتمعه، أو ما يسهم به داخل هذا المجتمع من أعمال وأدوار ونشاطات، تعود بالفائدة على أفراد هذا المجتمع.
ومن ثمة فقد ساهم الشيخ محمد بلكبير بالنفس والنفيس، من أجل بعث حياة أفضل في المجتمع الذي يعيش فيه ويتأثر به، وذلك من خلال تلك الإسهامات المتناسبة مع المسار الزمني لحياته ؛ حيث كانت الانطلاقة في مرحلة الاستدمار الفرنسي ببناء المسجد الكبير الذي انبعثت من جنباته ومن حلقاته أفكار النضال والمقاومة بل والحفاظ على مقدسات الأمة التي حاول المستدمر الفرنسي طمسها والقضاء عليها.
حتى إن الشيخ قد جعل من الجهاد واجبا مقدسا يحتم عليه الوقوف إلى جانب الثورة التحريرية والمجاهدين، بل وتقديم الدعم المادي والمعنوي لأفراد جيش وجبهة التحرير الوطني.
أما في مرحلة ما بعد الاستقلال فقد واصل الشيخ واجبه الجهادي من أجل بناء مجتمع ملؤه الأخوة والمساواة، النابعين من روح الإسلام والعروبة، وذلك من خلال تلك الإصلاحات التي مست الجانبين الديني والاجتماعي، والتي حاول الشيخ أن يجسدها في المجتمع التواتي لما كان يسوده من مفارقات ومخالفات تولدت عن الحقبة الاستدمارية.
وقد ركز الشيخ على الإصلاحات الاجتماعية لما لها من أهمية في بناء شخصية المجتمع وتربيته وتوجيهه، وهو الأمر الذي أكسبه إلى جانب حب الخاص والعام مكانة علمية مرموقة مشهود لها، تؤكدها تلك المواقف والتشريفات التي نالها الشيخ في حياته، وحتى بعد مماته.
بعض مأثوراتــــــه :
سند الفقه :
أخذ الشيخ رحمه الله عن جماعة من الفقهاء والمشايخ، أهمهم الشيخ أحمد ديدي البكري التمنطيطي، عن شيخه عبد الله البلبالي الكسامي، عن الشيخ أحمد الحبيب بن محمد البلبالي الملوكي، عن شيخه عبد العزيز بن محمد بلبالي، عن شيخه محمد بن عبد الرحمن البلبالي الملوكي، عن شيخه عبد الرحمن بن عمر وشيخه محمد بن عبد الله الأدغاغي ثم الوناقالي، عن شيخه عبد الرحمن بن عمر التنيلالي، عن شيخه إبراهيم الجنتوري، عن شيخه أحمد بن عبد السلطان، عن شيخه أبي عبد الله محمد بن عبد العالي، عن شيخه محمد عبد الرحمن، عن شيخه محمد بن أحمد عبد السلطان، عن شيخه محمد بن علي النحوي، عن شيخه عبد الكريم بن محمد التمنطيطي والد الشيخ البكري، عن الشيخ سعيد قدورة الجزائري، عن الشيخ عبد الحكم، عن والده الشيخ عبد الكريم، عن المحقق الشيخ محمد بن عبد الله الدقاق الفاسي، عن الشيخ أحمد الفاتوح، عن الإمام المنوي، عن شيخه أبي بكر بن صرفة، عن شمس الدين محمد بن محمد الغماري، عن الشيخ الشهير العلامة خليل بن إسحاق صاحب المختصر، عن شيخه أبي عبد الله المنوفي، عن الشيخ زين الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن، عن الشيخ يحيى بن الفرج، عن العلامة ابن خلدون، عن الإمام ابن عبد السلام، عن ابن هارون، عن ابن قاسم أمد بن يزيد، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله بن فرج، عن أبي طالب المكي، عن الإمام الشهير شارح مذهب الإمام مالك وجامعه أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، عن أصبغ بن الفرج، عن أشهب عبد العزيز، عن عبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي، عن الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه ورحمه، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن وعن نافع، وأخذ ربيعة عن أنس بن مالك، وأخذ نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وكلاهما عن سيد المرسلين وإمام المتقين الحبيب الأعظم، سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عليه من ربه أزكى صلاة وسلام وعلى آله وصحبه.
وكما يظهر لكل ذي عينين أن رجال السلسلة على مذهب إمام دار الهجرة رحمه الله.
سند القرآن الكريم :
أخذ الشيخ القرآن الكريم عن شيخه أحمد ديدي، عن شيخه عبد الله البلبالي، عن شيخه أحمد الحبيب بن محمد البلبالي، عن شيخه عبد العزيز بن محمد البلبالي، عن شيخه محمد بن عبد الرحمن البلبالي، عن شيخه عبد الرحمن بن عمر التنيلالي قال : رويت القرآن العظيم عن الشيخ المقرئ صالح بن محمد السجلماسي ثم اللمطي برواية ورش وقالون ؛ إجازة وسماعا للعشرة الأحزاب الأولى برواية قالون بواسطة والده الشيخ محمد المكي، وسماعا منه لبعض الأحزاب برواية ورش أيضا، قال : فأنا أرويه قراءة وإجازة عن أخينا شقيقنا أحمد الحبيب بن محمد اللمطي، عن الشيخ إبراهيم المسكوري، عن الشيخ عبد الرحمن بن القاضي، عن أبي زيد عبد الرحمن الفيلالي، عن الشيخ الشريف المديني، عن الشيخ قاسم بن إبراهيم، عن بن غازي، عن الأستاذ الصغير، عن أبي الحسن بن سليمان، عن أبي جعفر بن الزبير، عن أبي العطار، عن ابن سحنون، عن ابن باقي، عن ابن العرجاء، عن الطبري، عن ابن نفيس، عن ابن سيف عن الأزرق، عن ورش، عن نافع، عن ابن هرمز عن ابن هريرة رضي الله عنه، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام.
فهذه إذن إجازة الشيخ رحمه الله في رواية ورش وقالون عن نافع.
سند الحديث :
أي صحيح البخاري الذي أجازه به شيخه أحمد بن ديدي رحمهما الله :
يقول كاتبنا محمد بن محمد بن محمد الجزولي، أخبرنا بصحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري شيخنا أبو محمد عبد الله بن أبي العباس سيد أحمد الحبيب البلبالي، قال أجازنيه والدنا المذكور، قال أجازنيه شيخنا القاضي أبو فارس محمد عبد العزيز بن الشيخ القاضي محمد بن عبد العزيز البلبالي، قال أخبرنا به شيخنا أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عمر عن شيخه أبي العباس أحمد بن عبد العزيز الهلالي السجلماسي، قال أجازنيه الفقيه العلامة محمد بن عبد السلام البناني الفاسي والشيخ محمد أحمد بن محمد بن عبد القادر الفاسي، كلاهما عن والد الثاني، عن أبي القاسم محمد بن أحمد الفاسي، عن القصار، عن التسولي، عن الدقاق، عن المواق، عن المنتورلي، عن ابن جزي، عن أبيه، عن ابن الزبير، عن أحمد بن راجب، عن أبي عبد الله بن سعادة، عن عمه أبي عمران موسى بن سعادة، عن الإمام أبي علي الصدفي، عن أبي الوليد البراحي، عن أبي ذر الهروي، عن القسبلي والمحمودي والكشميهني، عن الفربري، عن البخاري رحمه الله تعالى.
فبـــــــــادر بشكر ابن الكبير محمد***إمـــام سني في البرايا مــوقر