قضية المفاهيم والمصطلحات يجب أن توزن بميزان المدلول اللغوي، والشرعي، بالدراسة الدقيقة، والبحث العلمي، من حيثُ تحديدُ أبعادها، ومجالاتُ استعمالها، ودلالاتُها ومقاصدُها؛ والدعوة إلى هذه القضية الدقيقة والعميقة في محيط اللغة، وخاصة في مجال لغة الخطاب، ليست جديدة، بل طرحت عشرات المرات، من قبل المفكرين والعلماء، بمبادرات فردية، أو أثناء الملتقيات والمنتديات والندوات، في القديم والحديث.
المفهوم أو المصطلح كلمة تكتب، أو تقال، كمفهوم كلمة (حرية) أو مصطلح كلمة (إرهاب) والكلمة في اللغة تستعمل للإعراب عن شعور النفس، أو إحساس الضمير، أو للتعبير والبيان عن نتائج التفكير، أو للشهادة عن حدث، ووصف حقيقة.
كل ذلك لتحديد معالم التفاهم في الخطاب، والحوار، والنقد، والنقاش. فإذا لحن المخاطب في الكلام، أو لوى لسانه بقصد الإيهام، أو وصف شيئا بغير صفته، أو وضع مصطلحا أو مفهوما في غير محله، اختل ميزان الكلام، وإذا وقع الخلل في الألفاظ والمباني، زاغ الفكر واختلطت المعاني. ومن ثم تنحرف وجهات النظر بين المتحاورين، والمتناظرين، وتغيب الحقيقة بين أمواج الفوضى والتهويل، أو تحت ضباب التأويل. كمصطلح العلمانية، والنظام، والمعارضة، والبرلمان، والحزب، وغيرها.
ومن هذه المصطلحات أيضا {التقشف} فالتقشف عند أهل الجد، والاجتهاد، والحرص على ما ينفع العباد، هو هجران رذيلتي الإسراف والتبذير، وترك التَّنَعُّمِ بما يزيد عن الحاجات الضرورية لحياة الإنسان. ومعنى هذا أن التقشف هو الاعتدال في الإنفاق، وهو خلق دائم في سلوك المؤمن، فلا يستغيث به وقت رجفات الأزمات. أما التقشف عند أهل العجز فهو التقتير على من دونهم عندما يُحِسُّون بالأزمة تحوم حولهم. هذا من حيث واقع الاستعمال بين فهم الزاهدين الإيجابيين، كعمر بن الخطاب الذي كان يعمل بالتقشف الإيماني، و فهوم الْمُقَتِّرِين على غيرهم، الذي يشحون تطيرا.
أما التقشف في اللغة فهو من القشف، وهو رثاثة الهيئة، وسوء الحال، وضيق العيش، ففي اللسان لابن منظور: (المتقشف هو الذي يتبلغ بالقوت والمرقع.. ويقال رجل قَشِفُ الهيئة أي تارك للغسل والتنظيف، وعام أقشف أي شديد). وإذن فإن استعمال مصطلح التقشف لا يعطي مدلول الاعتدال الذي أمر الله تعالى به، في قول جل جلاله: ﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما﴾ (سورة الفرقان:67) وقوله تبارك وتعالى: ﴿وكلوا واشربوا ولا تسرفوا﴾ (سورة الأعراف:31)
فالمصطلح اللغوي والشرعي المناسب في التعبير عن الوسطية والاعتدال في الإنفاق والاستهلاك هو (القصد) إذا أردنا التعبير عن عدم الإسراف وعدم التبذير. أما المصطلح الشامل لكل التصرفات والمواقف والممارسات هو: (العدل) نعم، العدل، العدل..فلا ننادي بالتقشف في الشدة والأزمات، ولكن ننادي بالعدل في كل الأحوال والمناسبات. بدلا من رفع شعار التقشف يرفع شعار العدل، في بناء العلاقات والمعاملات، وتوزيع منافع الأنفال والثروات. بالعدل في الحكم، والعدل في السياسة، والعدل في الإنفاق، والعدل في المعايش. وهذا لا يعني عدم جواز القول بالتقشف. وإنما يجب استعمال المصطلحات فيما يؤدي إلى المقاصد التي تفهم عند الجميع، والتي تطبق على الجميع بالعدل. فإذا قلنا وجب علينا: (العدل في الإنفاق) فهم الناس جميعا حرمة الإسراف والتبذير، وحرمة امتياز فئة على فئة، وحرمة استئثار ثلة بالغنائم على حساب باقي الأمة، وحرمة إضاعة المال، بالتجميد، أو بالتبديد..
ومن المصطلحات التي اعتاد الناس استعمالها في الحوار السياسي، في غير مدلولها الدقيق كلمة: (النظام) ويقصدون به نظام الحكم، أو سياسة الحكم، أو السلطة السياسة، أو الهيئة الحاكمة، ولكنهم لا يضيفونها، ولا ينسبونها، وإنما يطلقونها، أو يقصدون بكلمة (النظام) الإيديولوجية التي يتبناها ويعمل بها الحاكم وبطانته. فيقولون: النظام الفرنسي، أو النظام السوري، ومنه قولهم الحزب الفلاني يعارض النظام، أو ثورة ضد النظام!! كما تطلق كلمة نظام عند السياسيين على المبادئ الفلسفية السياسية، ومنه قولهم: النظام الاشتراكي، أو النظام الديمقراطي، والخلل ليس في إطلاق كلمة نظام على سياسة الحكم، إنما فيما عَلِقَ في بعض الأذهان أن كلمة (النظام) تعني السلبية دائما، وأنها معاكسة لإرادة الشعوب، وهذا هو الخلل في الاستعمال، بالضبط مثلما فهم بعض المتنطعين منذ القرن الأول الهجري وإلى اليوم، أن كلمة الحكم، أو الحكومة، أو الإمارة، أو السياسة، أو هيئة السلطة الحاكمة، أو جهاز الأمن، والدفاع، كل هذه المفاهيم عندهم ممقوتتة، ولا يفرقون بين الصالح والطالح،..
في حبن أن كلمة النظام في اللغة لها مدلولُ نبيلْ، ومعنىً جميلْ. فمصطلح (نظام) يقصد به تأليف الأشياء، وترتيبها، لتُكَوِّنَ شيئا جديدا منسقا، ومنتظما، ومتسقا، وفي لسان العرب: (ونظام كل أمر: مِلَاكُه، والجمع أنظمة، ونُظُم، الليث: النظم نظمك الخرز بعضه إلى بعض، في نظام واحد، كذلك هو في كل شيء، حتى يقال: ليس لأمره نظام، أي لا تستقيم طريقته.
قال: والنظام الهدي والسيرة، (قلت ولعل من هذا المعنى نبت مصطلح النظام الذي يطلق على الحكومات السياسية أو سلطات الدول، فانصبغ به) قال: ويقال: ليس لأمرهم نظام، (أي) ليس لهم هدي، ولا متعلق، ولا استقامة.) إ.ه.
ومنه فإذا أطلق مصطلح (النظام) فالأصل أنه ينصرف إلى التنسيق، والإحكام، والاستقامة، والطريقة الهادية، والصواب. وإذا أضيف فينصرف إلى ما أضيف إليه، فتقول: نظام المؤسسة كذا.. ونظام التعليم.. ونظام الحكم الفلاني وهكذا.. أمَّا قول بعضهم النظام الاستبدادي، أو الثورة ضد النظام، أو سقوط النظام، أو قول بعضهم: الأنظمة العربية. فكل هذه الاستعمالات تحتاج إلى نظر، والله أعلم.
ومن الخلل والعلل في سوء استعمال المصطلحات، مصطلح (الحزب) الذي تعلقته الأهواء، حتى بين المسلمين، فتفرقوا إلى أحزاب، فكانت الخطيئة الكبيرة، والمصيبة الخطيرة، والانحراف الدعوي، والانفلات السياسي…ورد في اللسان: (الحزب جماعة من الناس، والجمع أحزاب، وحزب الرجل أصحابه، وجنده الذين على رأيه.. وكل قوم تشاكلت قلوبهم، وأعمالهم فهم أحزاب.
والحزب الطائفة، ومنه قول الله تعالى: ﴿كل حزب بما لديهم فرحون﴾ كل طائفة هواهم واحد.) وبما أن المسلمين، كل المسلمين في الأرض هواهم واحد، تبعا لما جاء به خاتم النبيين، فالمفروض والمنطق والشرع أن يكونوا جميعا حزبا واحدا، وحزب الله جل جلاله هم كل المؤمنين. ولا يحتاج الأمر أن ينادي المسلمون بعضهم إلى حزب، لأن الله سماهم ووصفهم بذلك، فإن كانوا مؤمنين حقا وصدقا كانوا من حزب الله، وحزب الله هم المفلحون، ولذلك فمن يسمي جماعة معينة من دون جميع المسلمين، بحزب الله، أو حزب الإيمان، أو حزب الإسلام، أو حزب البشرية، وغير ذلك من الاتصاف بمصطلحات شرعية علمية عالمية، لا يجوز له، ولا يجوز لغيره أن يعترف له بذلك في الاستعمال، بل يستعمل المصطلح الشرعي العالمي لِمَا شُرِعَ له، ولا يجوز لفئة أن تحتكر مصطلحا عالميا، وتستغله لِهَوَاهَا.. فمن بين أسباب انتكاس الصحوة الإسلامية، وتعثر الدعوة الإسلامية، في العالم الإسلامي، ظهور ظاهرة الأحزاب في البلدان الإسلامية. ولا تعود الصحوة إلى مسارها، ولا يعود الاستقرار السياسي إلى ساحة الأمة الإسلامية، إلا بوحدة المسلمين، وهجران الحزبية والطائفية والجهوية، والصراعات المذهبية.. قال الله تعالى: ﴿ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا﴾.. ﴿ولا تكونوا من المشركين. الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا﴾ وقد وصى رسول الله صلى الله عليه المسلمين، بالوحدة والاتحاد، فقال:[ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين] وفي عهده صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلفاء الراشدين، ما كانت أحزاب سياسية، وجمعيات متصارعة في حروب باردة. وقد فُتِحَتْ فلسطين وسائر الفتوحات بوحدة المسلمين، وفتحت الأندلس، وأقيمت حضارة الأندلس بوحدة المسلمين، فلما انقسم المسلمون إلى ممالك، ودويلات، ضاعت الأندلس، وابتليت فلسطين، ودب الضعف والهوان بين المسلمين..
ومن المصطلحات التي أصبحت تدور على ألسنة أهل الفكر السياسي السطحي،إما بقصد الشتم والاتهام، أو للتعبير عن أفكار وأوهام. ومنها مصطلح: (الإسلاموية) ومصطلح: (الإسلامو فوبيا) ويعبر بعضهم قائلا: (مسلمو فرنسا)!، و(مسلمو أمريكا)؟! والذي يقتضي من الإعلام الإسلامي أن يستعمل المصطلحات الشرعية، والمفاهيم المنطقية الرسمية.